ثمة مواقف يفقد الكلام فيها جدواه، ويصبح الحوار وسيلة تحريض على العنف أو أداة لاستيلاد العنف. فعندما يكون الطرفان في حال توتر شديد وفقدان السيطرة على الإرادة والتحكم بالتصرف، تصبح الغريزة الداخلية أو العواطف هي سيدة الموقف. ولأن المرأة لا تمتلك قوة عضلية كقوة الرجل، تقع ضحية العنف لأنها لا تستطيع الرد والدفاع عن نفسها، ما يجعلها تشعر بالانسحاق والظلم، فتتولد لديها طاقة هائلة للرد بالكلمات القاسية التي تحفز الرجل على مضاعفة العنف العضلي تجاهها. يتخذ العنف ضد المرأة في الأسرة صوراً مختلفة وهو يتدرج من أقل الصور حدة كالسب وتوجيه الشتائم، والهجر، ليتصاعد الى الضرب والطرد من بيت الزوجية، ليصل الى القتل، أقصى درجاته. وتمثل الزوجات غالبية ضحايا العنف الأسري من النساء، تأتي بعدهن الأمهات والأخوات. ومن الأسباب المهمة للعنف، كما ورد في بحث حول العنف الأسري للدكتورة ليلى عبدالوهاب، العامل الاقتصادي مثل تدني الوضع الاقتصادي للأسرة وسوء أحوالها المعيشية، اضافة الى رغبة الرجل في الاستيلاء على ممتلكات المرأة بالقوة. وتصل نسبة الأسباب الاقتصادية في حالات العنف الأسري ضد المرأة الى 45.6 في المئة. ومن الأسباب الأخرى للعنف، العوامل الاجتماعية وتصل نسبتها الى 35.4 في المئة، ومنها حالات تعدد الزوجات، كأن يلجأ الرجل الى ممارسة العنف على زوجته الأولى، لإجبارها على ترك منزل الزوجية أو التنازل عن حقوقها أو الاذعان لشروطه. كما يظهر العنف في الأسرة عند إجبار الفتاة على الزواج من شخص لا تحبه أو رفض زواجها من شخص لا ترضى به العائلة، وفي حالات طلب الزوجية الطلاق، فيكون العنف تعبيراً عن الرغبة بالانتقام منها أما الأسباب الثقافية، فتبدو أقل الأسباب تأثيراً في ظاهرة العنف ضد المرأة، إذ تصل نسبتها الى 19 في المئة، وتتركز على الشك والارتياب في السلوك وأخلاقيات المرأة أو في بعض المعتقدات الخرافية أو إهانة الوالدين. هناك علاقة واضحة بين انتشار العنف ضد المرأة في الأسرة وانخفاض المستوى التعليمي والثقافي للزوجين. حيث يلاحظ أن غالبية الضحايا من النساء 76.8 في المئة أميات أو بالكاد يعرفن القراءة والكتابة. أما نسبة الضحايا من المتعلمات تعليماً عالياً، فتعد قليلة مقارنة بالمستويات التعليمية المنخفضة، كما يلاحظ أن غالبية الرجال الجناة ينتمون الى مستويات تعليمية ضعيفة ومنخفضة، وتصل نسبة الأمية فيهم الى 38.9 في المئة. كما أن العنف ضد المرأة أكثر انتشاراً لدى الطبقات الفقيرة حيث ينخفض مستوى التعليم لدى النساء، ما يؤكد ازدواجية القهر الذي تتعرضن له في الطبقات الفقيرة من المجتمع. وفي مجتمعاتنا العربية يكون وقع العنف أعمق على المرأة منه على الرجل، لأن المرأة تتعرض الى ضغط اجتماعي عام، فيكون العنف من أقرب الناس ألا وهو الزوج، كأنه اختزال لجميع أشكال العنف الاجتماعي، ولأنها تؤمن بصعوبة تغيير هذه الظاهرة لعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، وغياب قوانين مدنية تحمي المرأة من عنف الرجل، وان وجدت فكثيراً ما يتم الالتفاف عليها، فتواجه المرأة العنف بالصمت. ومن موقع المرأة المظلومة، تقول السيدة ف.ر.: "غالباً ما أنسى العنف والقهر الذي أتعرض له من قبل زوجي من أجل أطفالي، فأنا مستعدة لقبول الإهانة والضرب والذل في سبيلهم. لقد تعرضت لظلم الأهل الذين حرموني من التعليم، لكنني تعلمت رغماً عنهم القراءة والكتابة، وبذلت كامل طاقاتي ليكمل أولادي، خصوصاً البنات، التعليم الجامعي، ليتسنى لهن تحقيق ما لم استطع تحقيقه، وتحصيل حقوقهن والدفاع عن أنفسهن في مجتمع تبدو فيه مساواة الرجل مع المرأة مستحيلة. لذلك تكون المرأة هي المظلومة دائماً، ومهما بلغ الرجل العربي من تطور يبقى رجلاً ظالماً". وغالباً ما تخلف ممارسة العنف ضد المرأة شعوراً بالخزي والعار لدى الرجل، خصوصاً إذا كان يعي أن ممارسة العنف ضد انسان آخر حالة غريزية تجعل الانسان أقرب الى الوحش. اما الرجل غير الواعي، فقد يشعر بنوع من الأسف الداخلي العميق، إلا أنه يعتز بشكل أو آخر بقدرته على السيطرة على الطرف الثاني الخصم المتمثل بالمرأة، حتى ولو بالضرب. السيد خ.أ. رجل يعمل في الحقل الثقافي والإبداعي، يتحدث عن تجربته الزوجية والأسباب التي اضطرته لممارسة العنف على زوجته فيقول: "لقد مارست العنف على زوجتي أكثر من مرة، لكن كل مرة لسبب مختلف. وفي جميع الحالات كان العنف يبدأ من النقطة التي ينتهي فيها الكلام، فاضطر الى استعمال يدي لأسبب ألماً جسدياً لزوجتي، لأنني في تلك اللحظات أشعر بعدم فاعلية كلماتي القاسية في خلق أي رد فعل يشفي غليلي، خصوصاً حين أجد أن غريمتي لا تقيم وزناً للكلام، وتستخدمه دون تقدير لمعناه. لهذا فإن تسبيب ألم جسدي لها يخلق لي نوعاً من التوازن مع غضبي وأشعر أنني استطعت أن أكسر إرادة المرأة الواقفة أمامي، والتمكن من إذلالها انتقاماً من إذلالها لي. ونادراً ما تكون ممارستي للعنف كردة فعل غير إرادية، انما أمارس العنف مع المرأة بوعي كامل، تقديراً مني أن هناك مواقف تتطلب عنفاً جسدياً، حتى أنني في أحيان أصل الى قناعة بأن العنف حالة طبيعية عند الانسان، ولا علاقة لها بمقدار تحضره أو تخلفه وعن شعوره كرجل". ويضيف: "عادة ما أكون مستاء من نفسي، ليس إيماناً مني بخطأ ما قمت به، انما أسف على أن الطرف المقابل استطاع جري إلى هكذا موقف". ويذكر خ.أ. أحد المواقف التي اضطر فيها الى ممارسة العنف على زوجته فيقول: "انتابت زوجتي مشاعر بالغيرة الجارفة لدى علمها انني على موعد مع واحدة من قريباتي التي كانت تنوي استدانة مبلغ من المال، وأصرت أنها لن تدعني أذهب الى الموعد. وحيال رفضي الانصياع، قامت الى حوض الزهور الموضوع على الطاولة ورمته أرضاً لينكسر، فما كان مني إلا أن ضربتها". ويلاحظ انه إذا حصلت حالات عنف متبادل بين طرفين واعيين، يسود بعدها جو من الهدوء والتأمل، ومراجعة التجربة عموماً، حتى أن تلك اللحظات الحقيقية تكشف للطرفين جوانب كثيرة في شخصية كل منهما كانت خفية في حالات السلوك الطبيعية. وتفهم هذه الحالة غالباً ما يؤدي الى المصالحة وتجديد العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن في مجتمعاتنا غالباً ما تقود ظاهرة العنف الأسري الى الطلاب وارتباك البناء الأسري، ليصبح العنف سلوكاً متبادلاً بين المرأة والرجل، فالمرأة تمارس العنف النفسي، والرجل العنف العضلي. والسيدة غ.ب. تتفق مع السيد خ.أ. بأن العنف يبدأ حين تنتهي القدرة على الحوار، وتقول عن تجربتها الزوجية: "كان لدي اعتقاد، لفترة طويلة، ان الرجل يمارس العنف على المرأة الغبية حصراً، التي لا تجيد لغة الحوار، فتجره الى مواقف يمارس فيها عنفه. لكن بعد تجربة زواج لعشر سنوات، اكتشفت ان هناك حالات من العنف ليس لها علاقة بطبيعة الرجل والمرأة والمستوى الثقافي أو العلمي، ولكن بطبيعة الموقف الذي استدعى العنف". وهناك أيضاً العنف النفسي، حين تحرم المرأة من حريتها وحقوقها، فيتحكم الرجل بعلاقات المرأة الشخصية والناس الذين تتعامل معهم، ويفرض ذوقه عليها وعلى سلوكها وشكل ظهورها، مما يؤثر على الشخصية الداخلية للمرأة. والعنف، سواء كان جسدياً أو نفسياً، ينعكس حتماً على أطفالها، إذ يتغير سلوك المرأة مع الأطفال ويصبح الشعور الدائم لديهم ان والدتهم ضحية. الآنسة و.ر. لا تقبل بأي مبرر للعنف. فقد عاشت تجربة مريرة مع العنف الأسري حيث كان والدها يضرب والدتها. وتصف أيام طفولتها بأنها أيام شديدة السواد ومرعبة، لأن الأم في فترة من حياة الطفل تمثل له الحياة كلها، وعندما تتعرض للخطر، يفقد الثقة بالحياة، ويصاب بنوع من الخوف والرعب الدائمين، إذ تتحول مشاهد ضرب أمه الى كوابيس مرعبة، ويشعر الطفل ان الحياة بدأت تتخلى عنه فيتحول الى انسان عدواني تجاه كل رجل كبير، كونه يصبح ممثلا للأب. وترى و.ر. ان "الشخص الذي مورس على أمه الضرب والتعذيب لا يشعر بالرضا والاحترام نحو أبيه، انما يحل محل ذلك شعور بالرهبة وفقدان الأمان. وحتى لو تجاوزت الأم المسألة وعادت الأمور طبيعية بينها وبين الأب، يبقى مشهد العنف حياً في الذاكرة. فكيف نتخيل شعور الطفل وقد شاهد جسد أمه مشوهاً بفعل الضرب، انه شعور رهيب". وتضيف: "لا أزال احتفظ بسوطين في خزانتي كنت أخفيتهما عن أبي أيام طفولتي كي لا يضرب بهما أمي. ولا يمكن لأي شخص أن يقدر عمق ألمي حين أراهما في خزانتي الآن، فأتذكر تلك الأيام بتفاصيلها. لقد خلقت عقدة في داخلي لم أتمكن من حلها، وأنا اليوم في سن السادسة والعشرين أخاف أبي كثيراً رغم حبه لي، وهي مأساة فوق التصور: أن يصبح الشخص المكلف بحمايتي والعناية بين غريمي وأتوقع منه كل لحظة الآلام والعنف. كما أن خوفي من أبي انسحب على علاقتي بأي رجل أتعامل معه سواء كان أخاً أو صديقاً أو زميلاً، انني أكره الرجال". تتميز الأحكام الصادرة في قضايا العنف ضد المرأة، الضرب على وجه التحديد، بالضعف. وهي تتركز بمعظمها على الحبس من شهر الى ثلاثة أشهر، أو الغرامة مع وقف التنفيذ، كما أفادت المحامية عبير قسيس التي اضافت: "ان هذه الأحكام بهذه الصورة لا تمثل عامل ردع للرجل الذي يمارس العنف على المرأة، كما أنها لا تشجع المرأة على اللجوء الى القضاء لطلب حمايتها، ما قد يدفع ببعضهن الى استخدام العنف المضاد للتخلص مما يتعرضن له. لكن عموماً، تأخذ الأحكام الصادرة في قضايا الأحوال الشخصية اتجاهاً نحو الحكم لصالح المرأة في دعاوى الطلاق والنفقة ورفض دعاوى الطاعة التي يرفعها الزوج. ومع هذا فقد اتضح وجود بعض التناقضات في الأحكام الصادرة خصوصاً عندما تتشابه بعض القضايا في الدعوى المرفوعة، كذلك في ظروف ملابسات القضية. ان اختلاف الأحكام حول نفس القضايا المتشابهة الذي يصل الى حد التناقض، يستأهل توجيه الاهتمام والدراسة لبحث هذه المسألة والتعرف على العوامل والأسباب المسؤولة عن ذلك: أهي مكانة المرأة المدعية ووضعها الاجتماعي والطبقي، أم غموض القوانين وعدم وضوحها وتحيزها، أم أنها مسألة ترجع الى القاضي الذي يحكم في القضية وموقفه من كل ذلك".