حتى منتصف القرن السادس عشر، وعلى رغم شيوع الألاعيب السياسية والممارسات الاقتصادية اللا أخلاقية في القارة الأوروبية، ظل التظاهر بالتعلق بأهداب الدين والأخلاقيات المسيحية قائماً، وعلى رغم التعارض الصارخ بين هذا الدين وهذه الأخلاقيات من ناحية، وبين تلك الممارسات والألاعيب من ناحية أخرى. لم يكن ثمة من يجسُر على القول - أو حتى على الظن - بأنه لا علاقة للدين بمواضيع مثل الربا، أو ارتفاع الاسعار، أو فائدة رأس المال، أو الملكية الخاصة، أو بأن الأخلاق المسيحية ليست هي المرجع الأول والأخير في ما يتصل بالسلوك السياسي والاقتصادي. وهي ظاهرة تلاشت مع منتصف ذلك القرن، حين شرع السياسيون والاقتصاديون ورجال الأعمال يطرحون جانباً في ممارساتهم وفكرهم ومعاملاتهم قيود الدين والضمير والأخلاقيات، وصاروا لا يعترفون بقيد غير نص القانون، واعتبارات السوق، مرددين ساخرين قولة القائل: "من تقاضى الربا سيصلى نار السعير، ومن لم يتقاضاه ابتُلي بسوء المصير!". كيف إذن حدثت هذه النقلة بين الالتزام بالتحذير الديني من أن يستغل الانسان لمصلحته ضائقة أخيه، إلى صوغ النظرية القائلة بأن حب الانسان لذاته من فضل الله، ولخير البشرية، وأن المصلحة الشخصية هي المعيار والمرجع والأساس؟ كيف ظلت الكنيسة أمداً طويلاً متمسكة بسلطانها في كل مجالات النشاط البشري، بما في ذلك التنظيم الاجتماعي والسلوك الاقتصادي، ثم إذا بها تتنازل عن هذا السلطان، وتضطر الى قبول القول بأن هذا التنظيم وهذا السلوك لا دخل لهما في الحياة الروحية، والى التخلي عن تطلعها الى خلق حضارة مسيحية شاملة، مكتفية بالاهتمام بأرواح الأفراد، والى الاعتراف بأن ثمة هُوّة بين الأخلاقيات وبين الممارسات التجارية، هي وإن كانت ملحوظة فإنه من الضروري غض الطرف عنها؟. لقد خلق بزوغ الرأسمالية في أوروبا وضعاً اقتصادياً جديداً، اقتضى بدوره استحداث نظريات وقوانين ومفاهيم بلورتها ثلاثة قرون من الممارسة. وإذ صدمت الرأسمالية وممارساتها في البداية مشاعر وضمائر المحافظين والمتدينين والأخلاقيين، حاول الرأسماليون تهدئة المخاوف، وطمأنة الخواطر، بإعلانهم استمرار التمسك بالمعايير الدينية التقليدية، وبضرورة كبح الشطط، وإصلاح الخطأ، ومقاومة الجشع، بيد أن استقرار الرأسمالية بمرور الزمن، واعتياد الناس وتقبلهم لها كأمر واقع، أتاحا لها تدريجياً فرصة الاستغناء عن محاولات التبرير، وعن التظاهر بالتصدي لفاجر الممارسات. كان تُقاة المسيحيين وقت بزوغ الرأسمالية يرون أن الحياة الاقتصادية لا تعدو أن تكون صراعاً بين الذئاب على الجيف، وأن التجار والمرابين لا سبيل الى دخولهم الجنة، وهم الذين يعيشون على الغش والاستغلال، ولا يطمحون الى غير كسب المزيد من المال، والواقع أن مُثل الكنيسة الكاثوليكية خلال ما يسمى بعصر الايمان لم تكن بأرفع مستوى من مُثل هؤلاء التجار والمرابين، ولا كان جشع رجالها بأقل من جشع الرأسماليين الجدد، وهم الذين شاع عنهم أنهم "انصرفوا عن تعاليم انجيل القديس مرقس الى عبادة عملة المارك!". كانت البابوية أضخم مؤسسة مالية أوروبية في العصر الوسيط، قد تزايدت ونمت مفاسدها من قطرات في القرن الثالث عشر، الى سيل عارم في الخامس عشر، وكان القساوسة يتاجرون في السلع، ويأخذون الربا، ويتقاضون الفوائد الفادحة على ما يقدمونه للناس من قروض، وقد كان من المحتم ان تتأثر تعاليم الكنيسة بصدد المعالم الجديدة للحياة الاقتصادية بتلك الممارسات الشائعة بين البابوات والقساوسة، وأن يبدأ هؤلاء بتسفيه الاعتراضات على الرأسمالية، ووصفها بأنها مبالغات وخرافات يسوقها أناسُ لا خبرة لهم بشؤون الدنيا لانشغالهم المفرط بأمور الآخرة، ولا يدركون أهمية نمو التجارة وحياة المدن والاقتصاد التجاري، أو ضرورة التوفيق بين مقتضيات العلاقات التعاقدية حديثة النشأة وبين مقتضيات الاخلاق والدين. وقد ذهبوا الى أن الثروة المادية لازمة للمجتمع. وأما عن شهوة الكسب فإنها لا تختلف عن سائر الشهوات، ولا تختلف في أهميتها وضرورتها عن الشهوة الجنسية. فمن المشروع إذن أن يطلب الناس الثروة ومتاع الدنيا، على ألا يشغلهم هذا الطلب عن الحياة الروحية. كذلك فإن الاشتغال بالتجارة مشروع، والدليل على رضا الرب عنها اختلاف الثروات الطبيعية وتنوع السلع المنتجة بين قطر وآخر ما يستدعي إنعاش التبادل التجاري لما فيه من خير للبشر، شرط ألا يبالغ التاجر في تحديد السعر، وأما الملكية الخاصة فنظام ضروري، حيث إن الملاحظ أن الانسان يعمل في جد أعظم من أجل تنمية ثروته الخاصة، منه حين يعمل من أجل تعزيز الملكية العامة، فهي إذن مشروعة شرط أن يصحبها تقديم الغوث للضعفاء، ومساعدة الفقراء والمحتاجين. * البروتستانتية والعصر الجديد: رغم هذا الدفاع الكنسي الكاثوليكي عن الرأسمالية، ظلت للعداء لها آثار ملموسة، وظل الكثيرون على إشادتهم بالعامل والزارع لأنهما يعملان من أجل القوت فحسب، في حين يتجاوز هدف التاجر كسب القوت الى الربح، فالرجل الذي يشتري الشيء لمجرد أن يبيعه بثمن أعلى فيما بعد، دون أن يجري أي تعديل عليه أو تغيير فيه، رجل يتحكم فيه الجشع، قد باع روحه للشيطان، وبالتالي فهو غير خليق بوصف الانسان. أما عن الربا فخطيئة كخطيئة الزنا، منافية للكتاب المقدس، منافية لتعاليم أرسطو، منافية للطبيعة، فالمرابي يحيا دون عمل، ويبيع الزمن الذي هو ملك لله، ويسرق المدين الذي يحق له وحده أن يحتفظ بأرباح العمل الذي اقترض المال من أجله. مثل هذا الموقف الغاضب أصبح من الصعب اتخاذه مع تغير الظروف في القرن السادس عشر الذي شهد تفجير طاقات اقتصادية هائلة، ونمواً سريعاً في الثروات، وتوسعاً مذهلاً في التجارة، وتركز السلطة المالية على نحو لم يعهد من قبل، واضطرابات وقلاقل اجتماعية تمخضت عن ظهور طبقات جديدة واندثار طبقات أخرى، وانتصار ثقافة جديدة وأفكار مغايرة، وتكوين شركات اقتصادية دولية، وقيام احتكارات تطرد المنافسين الأضعف من السوق، وانهيار المجتمع الإقطاعي في خضم ثورات الفلاحين، وبداية الاستعمار الأوروبي لأقطار العالم، واعتماد الملوك والأمراء اعتماداً مطلقاً على رجال المال والمرابين لتزويدهم بالأموال اللازمة لشن الحروب ضد بعضهم البعض. فما مضت ثلاثة أرباع القرن حتى كانت صورة الحضارة الأوروبية بأسرها قد تغيرت. إزاء كل هذا كان على رجال الدين ان يبلوروا موقفهم من التيارات والقوى الجديدة، وأن يختاروا بين مباركتها باعتبارها السبيل الى الثروة والرخاء، أو لعنها باعتبارها ردة وعودة الى مسلك الوثنيين وأخلاقياتهم. والمؤكد أنه لم يكن ثمة مفر من أن يتواكب التغير في الفكر الديني مع التغير في الأحوال الاقتصادية، وأن يكون ظهور البروتستانتية بمثابة تدشين لممارسات تجارية من نوع مختلف، ومباركة للرأسمالية التي مازلنا الى يومنا هذا نعيش في ظلها. صحيح أن مارتن لوثر كان معادياً للتجار والمرابين، غير أن الراجح أن يكون هذا العداء منه راجعاً إلى كراهته لممارسات البابوات ورجال الكنيسة الكاثوليكية في ميداني التجارة والربا، وإلى أنه كان مناصراً وربيباً للأمراء الألمان الساخطين على بوادر انهيار الإقطاع، وعلى نمو سلطان الطبقات الجديدة. غير أن ظهور البروتستانتية - شاء لوثر أم أبى - كان إيذاناً بتحرير تلك الطبقات الصاعدة وتحرير المجتمع من قيود الفكر الديني في الميدانين الاجتماعي والاقتصادي، بحيث بات من الصعب بعدها العودة الى النظرة القديمة الى التجارة والربا والى الرأسمالية، أو على حد قول القائل: "بإمكانك أن تصنع الأومليت من البيض، غير أنك لا تستطيع إعادة الأومليت الى بيض"!. في الأمثال: "ما أكثر ما ينمو في حديقتك من نباتات لم تزرعها يداك"! فكما أن الأباء قد ينتابهم الجزع لو قدر لهم أن يطلعوا على ما في جعبة المستقبل لأبنائهم، فكذا قد تُسفر في المستقبل بنات أفكار الفيلسوف أو النبي أو المصلح الديني عن نتائج لم تكن لتخطر أبداً ببال صاحبها، وقد كان هذا بالضبط هو شأن البروتستانتية التي دشنها لوثر في القرن السادس عشر بفضل إصراره الى مبدأ المسؤولية الفردية والحرية في مجال العقيدة، فما كان لوثر وأنصاره بأقل من الكاثوليك إصراراً على وجوب تطبيق القانون الإلهي على كل مناحي الحياة من دولة ومجتمع وتعليم وعلوم وقوانين وتجارة وصناعة، ولا كانوا على أدنى استعداد لأن يقبلوا تلك الفكرة التي سادت فيما بعد - وبفضلهم الى حد كبير - والقائلة بأن لعالم المال والتجارة والصناعة قوانينه الخاصة، وأن الدين يتجاوز حدوده إن هو حاول صوغ القواعد التي تحكم السلوك الأخلاقي في الشؤون الدنيوية، لقد كان لوثر مُبغضاً للتجارة والرأسمالية، يرى من واجب المسيحي الحق أن يكدح من أجل قوت يومه، دون قوت غده، وان يثق دائماً في رحمة الله، ورغم أن التجارة عنده حلال، فهو يشترط ألا تتجاوز تبادل الضروريات، وألا يطلب البائع من الثمن أكثر مما يعوضه عن عمله وعما يعرّض له نفسه من مخاطر، وهو بالرغم من ثوريته محافظ شديد العداء لأي تغيير، شرس الكراهية لثورة الفلاحين على الإقطاع، يرى الرق ضرورياً للمجتمع ويعارض فكرة الغائه، وفكرة المساواة بين البشر. ثم كان أن انحرف كلفن البروتستانتي عن هذا الموقف وهذه النظرية الاجتماعية للوثر إنحرافاً حاداً، فقد فتح ذراعيه مرحّباً بالحضارة التجارية والمؤسسات الرأسمالية الجديدة، وخرج بمجموعة من الأفكار تخدم الطبقات التي قُدر لها الهيمنة في المستقبل. كان لوثر لا يتطلع إلا الى الماضي، ولا يرى مكاناً في المجتمع المسيحي للطبقة الوسطى والتجارة الدولية والمصارف والائتمان والاحتكارات والصناعات الرأسمالية، وغير ذلك من القوى الاقتصادية التي كان نموها هي وظهور البروتستانتية أهم حدثين في القرن السادس عشر. أما كلفن - ومسفرو تعاليمه فيما بعد - فكانوا ينظرون نظرة التعاطف والرضا الى النشاط التجاري والصناعي والمالي، مما يفسر حقيقة أن انتشار الكلفنية كان على يد التجار والصناع، وبين أوساط المشتغلين بالتجارة والصناعة، وهم الذين كانوا يشكلون أكثر القطاعات تقدمية وحداثة في ذلك العصر. بدأ كلفن وأتباعه باعتراف صريح بأهمية رأس المال والائتمان والمصارف والتجارة والمال وغير ذلك من الحقائق العملية في الحياة العامة، فخرجوا باعترافهم هذا عن الإدانة الشائعة للاهتمام بالمصالح الاقتصادية اهتماماً يتعدى كسب القوت، وعن وصم الوسيط بأنه طفيلي، والمرابي بأنه لص. وقد وصفوا أرباح التجار والصناع بأنها لا تختلف في مشروعيتها في كثير أو قليل عما يحصل عليه العامل من أجر، وصاحب الأرض الزراعية من ريع. كتب كلفن يقول: "ولماذا عسانا نستنكر أن يكون دخل التاجر من تجارته أضخم من دخل صاحب الأرض؟ ألا تنبع أرباح التاجر من عمله وكده ونشاطه؟"، ثم انطلق الكلفنيون ينفون ان تكون البواعث الاقتصادية منافية لمقتضيات الحياة الروحية، أو أن يكون ثراء الرأسمالي نتيجة الحظ العاثر لجاره، أو أن يكون الفقر في حد ذاته فضيلة، بل إن في رجال الاعمال والتجار وأصحاب الصناعات فضائل خليقة بالتوقير والإعجاب، وما من عيب يشين إنماء الثروة غير ميل البعض على الترف أو الاستعلاء على الغير، والمثل الأعلى هنا هو مجتمع ينشر الثراء فيه رجال وقورون وفضلاء، يُلزمون أنفسهم بنظام صارم، وصبر على العمل، وتكريس الجهد في ميدان يحظى برضا الله. اما عن الربا فقبول عند كلفن شريطة ألا يجاوز الحد الأعلى الذي تفرضه السلطات، وان تُقدّم القروض الى الفقراء دون فوائد. أما عما ورد في العهد القديم وأقوال آباء الكنيسة من هجوم على الربا أو التجارة، فقد وصفه كلفن بأنه "كان يخاطب ظروفاً لم تعد في زماننا قائمة، وأما دفع الفائدة عن رأس المال فشأنه شأن دفع الأجرة عن استغلال الأرض الزراعية، شرط أن تكون قيمة الفائدة عادلة. فالممول ليس وحشاً، وإنما هو عضو نافع في المجتمع، وما الربا إلا كسائر العقود الاقتصادية التي لا غنى لشؤون البشر عنها". واختصاراً فقد ألقت الكنيسة بثقلها في جانب ميادين النشاط التي صارت في مجتمعات المستقبل أهم الميادين. كان أناس ذلك العصر في حيرة ما بين ما يؤمنون بأنها الفضائل المسيحية، وبين ما يرونه حولهم من ممارسات شرسة، ومادية فاجرة، وقد أجهدوا عقولهم من أجل فهم تلك الفجوة القائمة بين النظرية والممارسة: فمنهم من دعا دعوة المصلحين الدينيين الألمان الى العودة الى بساطة الماضي البدائي، ومنهم من دعا الى إعلاء شأن العقل على الخرافة، وشكك في قيم الدين وأخلاقياته. أما الكلفنيون فقد ذهبوا الى أن الفضائل اللازمة لنجاح الرأسمالي في ميدانه، وهي الاقتصاد في النفقة، والمثابرة والرزانة، والعمل الجاد والإعراض عن البذخ والترف، هي نفسها الفضائل المطلوبة في الدين المسيحي، وأن الفجوة بين الحياة الروحية والحياة المادية يمكن لأْمُها - لا بالنظرة الى المصالح المادية على أنها من وحي الشيطان - وإنما بتكريس تلك المصالح لخدمة الله. "لقد كان بابوات روما ورجال الكنيسة الكاثوليكية يحيون حياة البذخ، ويتعلقون بمظاهر الترف، أما نحن، فندعو الى التقشف والتواضع، والمثابرة في العمل والاقتصاد، والإقبال على النشاط التجاري وغيره كنوع من العبادة". كانت مكانة كلفن في القرن السادس عشر بين البورغوازيين، كمكانة كارل ماركس في التاسع عشر بين البروليتاريا: كل منهما طمأن الطبقة الجديدة في عصره على أن أفرادها هم الشعب المختار، وأن أمامهم أزهى مستقبل، وأن قوة الله - أو الحتمية التاريخية - تساند مطامحهم، ومن أبرز الأمثلة الدالة على طبيعة فكر كلفن موقفه من الفقراء المتشردين والمتعطلين العازفين عن العمل، فهو ينسب وضعهم الى غضب الله ونقمته، تماماً كما ينسب وضع الاثرياء من التجار ورجال الأعمال والمال والصناعة الى رضا الله ورحمته. وهو يؤيد قولة القديس بولس: "إن لم يقبل الرجل العمل فلن نزوده بالطعام"، ولذا كان كلفن يضع القيود على الصدقة، واهتمت حكومته في جنيف باستئصال التسول وتطهير طرقات المدينة من الشحاذين، "فما هناك في هذه الحياة الدنيا من هو أقرب الى الرب أو أشبه به ممن هو جاد في عمله". وثمة تطور مهم آخر حدث في القرن السادس عشر، هو بسط الدولة لهيمنتها على كل مناحي الحياة فيها، بحيث أصبحت الكنيسة تابعة لها، مهمتها تقديم الدعم المعنوي للسياسة الاجتماعية الدنيوية التي تنتهجها الدولة، في الوقت الذي كانت المصالح التجارية فيه ومتطلبات التنمية الاقتصادية ترفض رفضاً باتاً أي تدخل من جانب المعارضين لممارسات الرأسمالية، سواء من المتدينين أو رجال الكنيسة، وأية دعوة إلى العودة الى اخلاقيات الماضي المسيحي التي لم تعد تناسب ظروف العصر الجديد أو تلقى أذناً صاغية من غالبية أهله. ففي انكلترا مثلاً كانت الضربات المتتالية التي كالتها أسرة تيودور الحاكمة الى طبقة النبلاء فقصمت ظهرها، إيذاناً بفتح الباب على مصراعيه أمام الطبقة البورغوازية. وقد شهد عهد اليزابيث الأولى نمواً مطرداً للرأسمالية في صناعتي المنسوجات والتعدين، وازدهاراً عظيماً في التجارة الخارجية، وبداية تأسيس بنوك الودائع، وبدا المستقبل في جانب الطبقات التي نالت الثروة والنفوذ على نحو يكاد يكون مفاجئاً نتيجة للتوسع التجاري في نهاية القرن السادس عشر، وها هو الفيلسوف جون لوك يخرج بنظريته السياسية القائلة إن الحكومة التي تتدخل في شؤون الملكية الخاصة أو نشاط رجال الاعمال تفقد مشروعية بقائها في السلطة. وقد سبقه سير توماس غريشام مؤسس البورصة الملكية في لندن يدافع عن الربا ويهاجم القائلين بوجوب تحريمه. إذ من منا من الجنون بحيث يُقرض ماله للغير دون مقابل؟ أمن الربا المحظور إقراض المال من أجل توفير الدخل للأرامل واليتامى من غير القادرين على ممارسة التجارة بأنفسهم؟ وكيف نطالب الدائن الذي قد يكون هو نفسه فقيراً بأن يقدم القروض دون فوائد الى رأسمالي غني يستخدم القروض في المضاربة في البورصة؟ لقد صدق ماكيافيلي حين ذهب الى أن الاقتصاد شيء والأخلاق شيء آخر، قيل لنا: "أحب جارك كما تحب نفسك" ولكن من هو بالضبط جاري؟ وقيل لنا: "كل الناس إخوة". فهل إخوة التاجر الأوروبي أولئك الأفارقة الذين اختطفهم التاجر من ديارهم ليبيعهم عبيداً في القارة الاميركية؟ أو أولئك الهنود الحمر الذين اغتصب الأوروبي أرضهم وضمها الى ملكه؟ ألا يوضح ذلك أن اخلاقيات الانجيل لم تعد تصلح مرشداً للمرء في خضم الحياة الاقتصادية المعاصرة؟ ثم أليس معنى خلوها من المضمون العملي ضرورة تغاضينا عن مضمونها النظري؟ تأثر الفكر الديني بواقع هذه التغيرات الجذرية في المجتمع وفي فكر الفلاسفة والاقتصاديين خصوصاً في انكلترا البروتستانتية التي قبلت فيها الكنيسة الفلسفة الاجتماعية السائدة، وكيّفت تعاليمها وفقها. لم يعد الفكر الديني إذن يُملي إرادته، بل اصبح طيّعاً مطيعاً، على أتم الاستعداد لقبول فكرة أن الدين شيء والتجارة شيء آخر، وبالتالي فإن من المستبعد حدوث صدام بينهما، ثم جاءت ثورة كرومويل البيوريتانية فهيأت دعماً هائلاً لكل هذه الاتجاهات، لقد كانت الحرب الاهلية الانكليزية في حقيقة أمرها صراعاً بين الملك معززاً بالنبلاء ورعاع الشعب، وبين البرلمان معززاً بالطبقة المتوسطة، وكان انتصار الطبقة المتوسطة إيذاناً بأزدهار الرأسمالية وممارساتها الحديثة. ذلك أنه بالرغم من الطابع الديني السلطوي لحكم كرومويل، فقد كان عهده - عن قصد منه أو عن غير قصد - بشيراً بالإعلاء من شأن الفرد، وتأكيد مسؤوليته وحقوقه، محتذياً حذو كلفن في التحرر من المفاهيم العتيقة عن الأخلاقيات التجارية، مؤكداً للتجار والصناع ورجال الأعمال أنهم بنشاطهم والزامهم أنفسهم بالنظام والمثابرة والصبر كفيلون بأن يحرزوا في ميادينهم ما يحرزه الجيش البيوريتاني من انتصارات باهرة في ميدان القتال. فمقومات الشخصية هي كل شيء، والظروف لا شيء. وما الفقر إلا دلالة على آفات روحية في صاحبه، خليقة بالإدانة، وغير جديرة بالغوث أو حتى بالشفقة. وأما الثروة فما ينبغي ان تثير الشبهات، فإنما هي بركة ونعمة من الله ومكافأة منه على ما أبداه صاحبها من نشاط وقوة إرادة. فالتاجر الثري هو راهب هذا الزمان، يحقق انجازاته لا في المحراب، وإنما في سوق التجارة والمال، هو كما وصفه الشاعر جون ميلتون: "حامل لواء التقدم والتنوير"، وهو المدرك لحقيقة سبق لمارتن لوثر أن اشار إليها، وهي أن أسمى الفضائل الدينية والأخلاقية ليست في الرهبنة وانسحاب المرء من هذا العالم، وإنما هي في اقتحامه من أجل تأدية واجباته وممارسة نشاطه، فعلى الدين أن يكون ايجابياً فعالاً، أما الاكتفاء بالتفكير والتأمل فمن الكماليات المكروهة الدالة على الكسل، فإن كان في التجارة خطر الشَّرَه، فإن الركون الى الكسل أخطر على الروح من الشره، وأشبه شيء بالماء الآسن الراكد. وأما الحياة المسيحية الحقة فتلك التي يحكمها التنظيم الصارم، والذكاء، والبرود، والارادة الحديدية، والحيطة التي تُلزم التاجر بأن يكون إنفاقه أقل من دخله، وأن ينأى بنفسه عن الحانات ودور اللهو، وأن يلزم متجره حيث يمكن أن يثق في أن الله رفيقه فيه، وأن بركاته ستغمره، وحيث بوسعه أن يتلفت حوله فيهتف: "هذا من فضل ربي" أو "ربِّ أنعمتَ فَزِدْ"!. فإن كان البيوريتانيون رأوا المنفعة في الفضيلة، فإنهم رأوا كذلك أن الرذيلة تؤدي الى دمار وخراب، والرذيلة عندهم هي في رفاق السوء، والمغامرة والمقامرة، والاهتمام بالسياسة، والإفراط في التدين، وكلها أمور من شأنها أن تؤدي بالتاجر الى التهلكة، هم يرون من واجب التاجر أن يكون متديناً، مقبلاً على الصلاة، غير أنه من الخطأ أن يهمل واجاته الدنيوية بالانشغال الكامل بالعبادة، فلا ينتهز الفرص التي هيأها الله له. فنجاحه في التجارة كان آية على لطف ونعمة الله grace وأنه نال الحظوة عنده، وبرهاناً على أنه كان مخلصاً في ممارسة نشاطه وأداء واجباته، فكافأه الله على إخلاصه هذا. واختصاراً فإنه اذا كان أداءُ الواجب مربحاً، فإن تحقيق الربح لا ريب واجب!. وهكذا نجح الفكر البروتستانتي في إقناع الناس بأن محاولة المرء تحصيل أكبر قدر ممكن من الثروة هي واجب أخلاقي، وليست استسلاماً لإغراء شرير كما كانوا يظنون، ولا يعني هذا أن الدين نفسه هيأ لهذا التحول وللمفاهيم الجديدة أساساً من فولاذ بأن صار الآن ىُعلن ان الفقر عقاب، والثراء ثواب، وأن وعد الله لمن يرضى عنه من عباده يشمل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وان الله لا بد معذب الفقراء في نار جهنم يوم القيامة حتي يبرهن سبحانه على أن عذابهم في الدنيا لم يكن ظلماً لم، ولكنهم بكسلهم وإهمالهم وسوء سولكهم كانوا أنفسهم يظلمون. بقيت كلمة أخيرة: هي أنه بانقضاء عهد جمهورية كرومويل، وعودة النظام الملكي في انكلترا العام 1660، استمر هذا الاتجاه في تصاعد لم يطرأ عليه تحول أو انتكاس، وتبنى الملك تشارلز الثاني المعادي للبيوريتانيين، أفكارهم، وإن كان اتبع حيال أشخاصهم سياسة التنكيل والاضطهاد. واضطر هذا الاضطهاد الكثيرين منهم الى الهجرة عبر المحيط الاطلسي الى ما ىُعرف الآن بالولايات المتحدة الاميركية، حيث ازدهرت الايديولوجيا البورغوازية البيورتانية التي تحدثنا عنها، وكانت أساساً للأخلاقيات والممارسات الرأسمالية التي يعرفها الجميع، والقائمة الى يومنا هذا. * كاتب مصري.