ما شعرت به من حزن وغضب، عندما أصدرت محكمة النقض في مصر حكمها الجائر على الدكتور نصر أبو زيد الأستاذ في جامعة القاهرة، شعرت به مرة ثانية، عندما أصدرت محكمة كويتية حكما جائرا آخر على الدكتور أحمد البغدادي الأستاذ في جامعة الكويت. فها هو أستاذ جامعي للمرة الثانية يظلمه القضاء الذي هو مؤسسة مدنية في ما يفترض، لكن القضاء هذه المرة حكم بالسجن لاجتهاد اجتهده الأستاذ، ورأي أبداه، اجتهاد يمكن أن يناقش بالعقل، أو يدحض بالمنطق، ورأي يمكن أن يراجع، وتقرع حجته بحجج، أو تساق على بطلانه الأدلة والبراهين التي يستنير بها الجميع، وتغتني بها الحياة الجامعية والفكرية والثقافية، ويغمرها التسامح الذي يبدأ من مبدأ المجادلة بالتي هي أحسن. ولم يكن ما واجهه الدكتور أحمد البغدادي، نتيجة اجتهاداته، من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن، وإنما المجادلة بالتي هي أقمع. والدكتور أحمد البغدادي لم يقترف جريمة تستحق عقوبة السجن، فهو لم يسرق أو ينهب أو يغتصب حقا من أحد، ولم يتاجر في السموم أو الخمور أو البضائع المهربة، ولم يرتكب فعلا فاضحا في الطريق العام، ولم يرتش، ولم يبع الامتحانات للطلاب، ولم يسط على بحوث غيره كما يفعل الكثيرون من أساتذة الجامعات في هذا الزمن المختل. كل ما فعله أنه درس، وناقش، وفكّر، وراجع، ووضع مادة دراسة موضع المساءلة، مؤمنا بقيمة حرية الفكر الجامعي التي هي حجر الزاوية في بناء الجامعة الحقيقية، فاجتهد ما اجتهد في المجالات الفكرية المتصلة باختصاصه الجامعي. لم يرتكب في ذلك كله ذنبا في حق الجامعة أو حق المجتمع أو حق الثقافة، بل على العكس، لقد أحسن إلى الجامعة عندما اجتهد في المجالات التي ما أنشئت الجامعات إلا للاجتهاد فيها. وأحسن إلى المجتمع عندما تمثّل في سيرته العلمية نموذج الأستاذ الذي يحترمه كل من عرفه، والذي يبذل جهده ليسهم بكتابته في الانتقال بذلك المجتمع من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، ومن هيمنة الصوت الواحد إلى تعدد الأصوات وتنوعها الخلاق. وأحسن إلى الثقافة حين انتسب إلى تيارات العقل فيها، واختار مواصلة الاجتهاد الذي يفتح الأبواب المغلقة للوعي المسجون بين جدران التقليد الجامد، وينتقل بالثقافة من براثن التعصب إلى آفاق التسامح. لقد استمعت إلى الدكتور أحمد البغدادي في إحدى الندوات في بيروت، وقرأت بعض ما كتب، وكنت أتصور أن تفخر جامعة الكويت بوجود مثل هذا الأستاذ الذي يضيف إلى القلة القليلة من أساتذتها اللامعين، والذي أخذت سمعته العلمية تجاوز الكويت إلى غيرها من الأقطار العربية. وكنت أتصور أن قوى الاستنارة في المجتمع الكويتي لابد أن تسعد بوجود هذا المثقف الذي يكرم العقل بإعماله في المساءلة الخلاقة للفكر، وتسعد به الثقافة العربية في الكويت لأنه يحلم لها بمستقبل واعد، تستبدل فيه الاجتهاد بالتقليد، وحرية العقل بالحجر عليه. ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وبما يؤكد أن الجامعة الكويتية تعاني المخاطر نفسها التي تهدد بالدمار الجامعات العربية كلها، وأن قوى الاستنارة في الكويت هامشية، واهية، متشرذمة، ومن ثم أضعف من أن تفرض تأثيرا قويا، شأنها في ذلك شأن أغلب قوى الاستنارة المحكوم عليها، في الوطن العربي كله، وبدرجات متفاوتة، بالوقوع ما بين مطرقة تعصب القوى المعادية للمجتمع المدني وسندان الدولة التي لا تتحرك إلا للدفاع عن مصالحها القريبة التي تقع تحت أقدامها فحسب. ولذلك شعرت بالحزن والغضب، مرة ثانية، وأنا أرى في الصفحة الأولى من عدد الخامس من تشرين الأول اكتوبر الماضي في جريدة "الحياة" خبر الحكم بالسجن على الدكتور أحمد البغدادي في سابقة قضائية بالغة الخطورة. والجريمة الكبيرة التي سجن بسببها الرجل أنه تعرض لجهود الدعوة في المرحلة المكية من الهجرة في بعض كتاباته، واجتهد برأيه في هذه الجهود، فاتهم بالإساءة إلى الرسول، مع أن الجملة - دليل الجرم - التي أوردتها "الحياة" بين علامتيّ تنصيص يمكن أن تقرأ بأكثر من وجه، وتفسَّر بأكثر من طريقة، ولا ينتهي معناها في أشد تفسيراتها سلبا عند العلماء المنصفين بما يجعل منها دليلاً على إساءة دينية. ولا أدري لماذا لم يتذكر الذين اتهموا البغدادي بكلمة في جملة المبدأ الإسلامي الأصيل الذي يقول: إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر؟ والغريب أن جملة البغدادي لا تحتمل مقصد الكفر بحال، ولا تؤدي معنى الإساءة الدينية إلا في عقلية تتربص بالآخرين لتكفيرهم، وتنتظر لهم هفوة من هفوات العبارة، أو كلمة يجري بها القلم سهوا، فتحملها على غير المقصود من صاحبها، وتجعل منها دليلا على إساءة دينية لا توجد إلا في أوهام الذين يميلون إلى تكفير خصومهم، أولئك الذين يتوهمون أنهم يحتكرون الإسلام لجماعتهم دون غيرها من جماعات المسلمين، ويتحينون الفرصة للقضاء على معارضيهم من المدافعين عن المجتمع المدني بتكفيرهم من ناحية، واستعداء القضاء عليهم من ناحية ثانية. وهذا هو ما حدث مع أحمد البغدادي الذي وقع ضحية القراءة المتربصة للنصوص، المترصدة للكلمات، المبرمجة على الحكم بالتكفير أو الإساءة إلى الدين. والمقصد النهائي هو الردع الذي يرتبط بتصفية حسابات سياسية تتستر بأقنعة الدين، والدين منها براء، وتصفية حسابات النفوذ الاجتماعي الذي تعمل القوى المعادية للمجتمع المدني على إبقائه تحت هيمنتها المتسلطة. وهي قوى ماضية في مخططاتها التي تهدف إلى خنق كل اجتهاد فكري، والعودة بالثقافة العربية - بعد كل ما حققته - إلى عصور الإظلام ومحاكم التفتيش، وترويض الجامعات العربية التي تفرخ العقلانيين الذين يضعون أفكار التقليد موضع المساءلة الجذرية. والدليل على ذلك أن قضية البغدادي هي حلقة لا تنفصل عن بقية سلسلة المحاولات المستمرة لتقويض الإمكانات الواعدة للمجتمع المدني في الكويت، حلقة لها ما يتجاوب معها في الهجوم الشرس الأخير باسم الإسلام للأسف على ما نالته المرأة الكويتية في مجال ممارسة حقوقها الانتخابية ودورها البرلماني، ولها ما يتصل بها في الإلحاح المتكرر على مصادرة كتب المثقفين العرب المعارضين لجماعات التكفير الممتدة من المحيط إلى الخليج، والمطالبة بمنعها من دخول معرض الكويت السنوي للكتاب. والضجة التكفيرية التي أقيمت ضد وزير الإعلام الكويتي الأسبق لوجود بعض هذه الكتب في هذا المعرض مثال على ذلك. أضف إلى ذلك بقية الحلقات المجانسة أو المماثلة، من مثل القضايا المرفوعة على الأديبتين الكويتيتين: ليلى العثمان وعالية شعيب، وعلى الدكتور شملان العيسي، ومن مثل ذلك الحكم القضائي الذي صدر في مطلع هذا العام، وقضى بسجن رئيس تحرير صحيفة "القبس" الكويتية، سابقا، محمد الصقر، ستة أشهر، في قضية تتعلق أيضا بتوهم الإساءة إلى الدين. وقد ألغت محكمة الاستئناف الحكم لحسن الحظ، لكن تأثيره ظل باقيا كالسيف المشرع الذي يتأهب للانقضاض على أى عقل يُشْتَمُّ من كتابته الخروج على نواهي مجموعات الضغط السياسي المتقنعة بأقنعة الدين. وظل هذا السيف مشرعا على قلم الدكتور أحمد البغدادي، يهدد بقصفه منذ ثلاث سنوات، خضعت فيها قضيته لأجواء الصراع والتحريض والتهييج والضغط من جانب القوى المناقضة للدولة المدنية والمجتمع المدني على السواء، وصدر حكم بسجنه ستة أشهر من محكمة الدرجة الأولى. وبعد الاستئناف، وتقديم مذكرات الدفاع، أصدرت دائرة الجنح المستأنفة في المحكمة الكلية حكما نهائيا ونافذا بالحبس لمدة شهر فحسب. وكان ذلك الاثنين الموافق الرابع من تشرين الأول اكتوبر سنة 1999. ووجه المفارقة المؤسية في حكم الاستئناف أنه لا فارق جذريا، في التحليل الأخير، بين الحكم بالسجن لمدة شهر أو ستة أشهر، فالحكم بالسجن بسبب اجتهاد فكري فاجع ومخيف في حد ذاته، حتى ولو لساعة واحدة، ويستحيل قبوله على أستاذ جامعي اجتهد، أو على مثقف مارس حريته الفكرية أو الإبداعية، اللهم إلا إذا وضعنا حرية الفكر والإبداع كلها موضع الاتهام، وتحولت محاكم القضاء إلى محاكم تفتيش من نوع جديد. وأوجه الضرر في هذا الحكم متعددة، وتأثيراته سلبية على أكثر من مستوى، مباشر وغير مباشر، في المدى القريب والبعيد، خصوصا إذا وضعنا هذا الحكم في سياقه الكويتي الموصول بالسياق العربي في الوقت نفسه، فالآثار السلبية له لا تؤذي الأستاذ الجامعي الكويتي وحده بل تمتد بأذاها إلى كل أستاذ جامعي على امتداد الوطن العربي. ولا ينحصر ضررها في الكويت وحدها بل ينتقل منها إلى غيرها، فنحن في الهم شرق، والعلاقة بين أقطار الثقافة العربية علاقة عضوية أشبه بالعلاقة بين أجزاء الجسد الواحد الذي إذا اعتل منه عضو تداعت له سائر الأعضاء، فهي علاقة تبادل تأثر وتأثير حتى من قبل أن نردد مع أحمد شوقي أبياته عن قدر أبناء العروبة الذين قضى الله أن يؤلفهم الجرح، وأن يلتقوا على أشجانه. والجرح الذي أصاب أحمد البغدادي بهذا الحكم هو جرح كل أستاذ جامعي عربي. وأول الأضرار المترتبة على هذا الحكم الجائر فردي، خاص بالأستاذ الذي أوذي في عقله الذي اجتهد، وفي مشاعره التي طمحت به إلى إنجاز فكري مغاير، وفي حياة أسرته التي عوقبت بالحرمان من عائلها، قسرا، ومن دون ذنب حقيقي، بوضعه في السجن مع اللصوص والمجرمين، كما أوذي في علاقته بطلابه الذين فرض عليهم رؤية أستاذهم الذي يقتدون به في السجن. وتلك محنة فردية تترك أثرا داميا في الوجدان والعقل، وجراحا غائرة في الوعي، نتيجة ما انكسر ولا سبيل إلى إصلاحه. يؤكد ذلك ما نقلته "الحياة" في عددها الصادر الخميس السابع من تشرين الأول عن بعض الصحف الكويتية من أن الدكتور أحمد البغدادي قرر مغادرة الكويت عند انتهاء فترة عقوبته بالحبس، وقال لصحيفة "الأنباء" التي زارته في سجنه: "سأغادر الكويت وأعيش خارجها رغم حبي الشديد لها ولأهلها". وأرجو أن تكون هذه الكلمات فورة انفعالات عابرة لغضب كظيم، فلا سبيل إلى تأكيد حرية الفكر في مجتمع إلا بانتزاعها مهما كان الثمن، والإصرار على تحقيق هذه الحرية بالمضي في مواجهة خصومها وعدم ترك الساحة خالية لهم. أما الأثر الضار على الجامعة فيرتبط بما يؤدي إليه الحكم من فقدان الجامعة استقلالها. وأول مظاهر ذلك الاستقلال إتاحة البيئة العلمية التي تشجع الأساتذة على الابتكار والإضافة، وتدفعهم إلى حرية التفكير الخلاّق بالمغايرة والمخالفة التي تثرى بالحوار. والنتيجة الأولى لهذا الحكم هي تعمق شعور الأساتذة بأنهم بلا حماية، وعرضة لما تعرّض له زميلهم الذي حاول أن يكون أستاذا جامعيا بكل معنى الكلمة. ومن المؤكد أن كل أستاذ - بعد هذا الحكم - سيفكر عشرات المرات قبل أن يجرؤ على الاقتراب من الدائرة التي قاربها زميله البغدادي، وسينطوي كل أستاذ على رقيب داخله، يقمعه، ويكفه عن التفكير الحر دون قيد أو عائق. وتفقد الأجيال الجديدة من الأساتذة إيمانها بحقها في الاجتهاد، فتميل إلى التقليد وتكرار ما قاله السابقون، والسير في الدروب المألوفة الآمنة التي يقولون فيها ما قيل قبلهم عشرات المرات. وتنتقل عدوى الاتباع من الأساتذة إلى الطلاب، فيشبون على طاعة النواهي التي تنهاهم عن حرية الفكر، ويصلب عقل كل واحد منهم، أو كل واحدة منهن، أو يتصلب على التقليد، الأمر الذي ينتهي بالجميع إلى معاداة أي اجتهاد مغاير أو تفكير حر. وعندئذ، تنقلب عقول الطلاب والطالبات إلى عقول جاهزة لاستقبال أفكار التعصب والتطرف. والمحصلة النهائية تدمير الجامعة من حيث هي منارة للاستنارة والتقدم في المجتمع، ومن حيث هي طليعة المجتمع التي تصدمه بما ينقله من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم. أما الأثر الاجتماعي الضار لهذا الحكم وأمثاله فيتمثل في: غرس بذرة الخوف في عقول المثقفين من المبدعين والمفكرين، وذلك على النحو الذي يؤدي إلى شل أقلامهم، وَجذّ أجنحة خيالهم، فيحل الاتباع محل الابتداع، والتقليد محل الابتكار، ويخلق كل مثقف لنفسه رقيبه الذاتي في داخله، فلا يقول إلا معادا من الكلام المكرور، ولا يبدع إلا كل ما لا ينتسب إلى تمرد الإبداع. وتتحول الصحافة من مرآة ناصعة مَجْلُوَّة لمجتمع حر، تتحاور فيه التيارات المتباينة دون خوف، إلى مرآة لمجتمع مخنوق، مُسَلَّطٍ عليه سيفُ قمعي يهدد كل الكاتبين والكاتبات، ابتداء من رئيس التحرير وانتهاء بأي كاتب أو كاتبة، فتفقد الصحافة دورها القيادي وسلطتها الرابعة وحقها الدستوري في المساءلة والمراجعة والنقد. وتنتقل العدوى منها إلى القراء الذين يتأثرون بها أو يستجيبون إليها اتباعا. ويتأكد تسلط الرأي الفكري الواحد لتيار بعينه في المجتمع، فتشيع فيه أفكار التعصب، ويختفي التسامح الفكري بالقدر الذي يغدو معه حق الاجتهاد أو الاختلاف سببا للاتهام وموضعا للريب، الأمر الذي ينتقل من ممارسة الفكر والإبداع إلى ممارسة السياسة التي تغدو أكثر تقبلا للتسلط، أو يغدو تسلطها في ذاته عونا على التسلط الفكري أو وجهه الآخر. وأخيرا، هناك الأثر القومي لهذا الحكم الذي هو حلقة في سلسلة المخاطر التي تهدد الثقافة العربية كلها. وبقدر ما يعد هذا الحكم امتدادا للحكم على نصر أبو زيد في الجامعة المصرية فإنه تمهيد يمكن أن يجاوز الجامعة الكويتية إلى غيرها من الجامعات العربية، خصوصا بعد أن وجدت المجموعات المعادية للتفكير المدني في دعوى الحسبة ما تنال به من رموز هذا الفكر، وما يقال عن الجامعة بخاصة يقال عن الحياة بعامة، فلولا محاولة اغتيال نجيب محفوظ بسكين صدئة، ولولا محاولة تكفير محمد شكري وسمير غريب على ومارسيل خليفة ما كانت القضايا المرفوعة على ليلى العثمان وعالية شعيب، وما كانت القضايا التي لابد أن تتبعها قضايا تتربص بحرية الإبداع العربي كله. ولذلك فإن الحكم على الدكتور أحمد البغدادي ليس استمرارا لأحكام سابقة فحسب، وإنما استهلال لأحكام أخرى قادمة، لا مفر منها ولا مهرب إلا بخلق رأي ثقافي عام يتحول إلى قوة ضغط حقيقي فعال. وإلى أن يحدث ذلك لا أملك - بوصفي زميلا للدكتور أحمد البغدادي - سوى الشعور بالحزن والغضب، شأني في ذلك شأن كل زملائه وزميلاته الذين يتعاطفون معه على امتداد الجامعات العربية، وشأن كل المثقفين والمثقفات الذين لابد أن يصل إليه صوتهم في سجنه الذي هو سجننا جميعاً.