اندلعت في الكويت ضجة شديدة حول موضوع هو ليس بالجديد، كما انه ليس خاصاً بالكويت ومجتمعها الصغير، وإن برزت فيه الظاهرة المختلف عليها في الآونة الاخيرة، ولكنه يتجاوز الكويت ليشمل عالمنا العربي والاسلامي قاطبة. والموضوع هو اصدار احدى المحاكم حكماً بالحبس على استاذ جامعي هو الدكتور أحمد البغدادي لمدة شهر بسبب ما صرح به كتابة حول الدعوة الاسلامية، ليصير بذلك اول سجين للرأي في الكويت. وقد بدأت القضية الحالية بمقابلة صحافية أدلى بها الدكتور البغدادي لنشرة طلابية غير مرخصة يصدرها طلبة كلية العلوم الادارية في جامعة الكويت، ونشرت نصها في عدد تموز يوليو عام 1996، ذكر فيها الدكتور البغدادي - وهو رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة - من بين قضايا اخرى، معارضته لمنع الاختلاط في الجامعة، كما ذكر ما نصه "لقد فشل النبي صلى الله عليه وسلم في فرض الاسلام على المجتمع المكي مدة ثلاثة عشر عاماً الى حين دخل الاسلام قلوب الأنصار من اهل يثرب، أليس هذا الأمر الهام عبرة... لم يكن في المدينة جماعات التأسلم السياسي، ولم يكن هناك اخوان ولا سلف.... التقط البعض تعبير فشل الذي جاء في سياق المقابلة ورفع دعوى قضائية ضد الدكتور احمد البغدادي ادت في النهاية وبعد اكثر من سنتين تقريباً من نشر النص الاصلي والأخذ والرد في المحاكم الى ايداعه السجن لمدة شهر كامل، ليصبح أول سجين رأي في الكويت. مما قاله في تلك المقابلة ايضاً ما نصه: "ايها الطلبة، تذكروا التخلف الذي سوف يسود حياتكم فاسعوا لمواجهة هذا التيار الديني..." و"ايران والسودان وأفغانستان انظمة سياسية تعيش أسوأ انواع الحكم الاستبدادي...". تلك بعض الموضوعات التي تطرق اليها البغدادي في تلك المقابلة القضية، وهي جزء مما يدعو اليه الاستاذ بكل حرارة واستمرارية في معظم كتاباته، وله تاريخ كثيف في مقارعة التيارات السياسية الاسلامية، بعد ان ترك صفوفهم منذ سنوات طويلة. ولعل زلة اللسان في تعبير فشل ان اردنا وصف الأمور كما انتهت اليه، هي التي جعلت اثنين من المواطنين يطلبان الرأي من ادارة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية في ما نسب الى الاستاذ، فأجابت اللجنة ب"ان الكاتب نسب الفشل الى النبي صلى الله عليه وسلم، مما يعتبر اساءة للأدب والجهل بالسنّة". واستناداً الى ذلك رفع المواطنان الدعوى في المحاكم على الاستاذ، ومن ثم حصلا على الحكم بالحبس الذي ينفذه هذه الأيام الدكتور البغدادي. ولأن الأمر قد تم بحكم محكمة، فقد خرجت الأمور من نطاق المحاورة الى نطاق سلطة القانون واحترامه، فحتى المتألمون والناقدون لما آلت اليه الاحداث، يقفون امام حكم القضاء موقف القابل بالمبدأ غير المنازع فيه. الا ان الأمر لم ينته عند ذلك فقد انقسم الرأي الاجتماعي في الكويت حوله بشدة ولا يزال، كما ان نتائجه وذيوله لن تنتهي هنا، انقسم اهل الرأي في الكويت الى مساند يصدر بيانات التأييد، ومندد يصدر بيانات الشجب، ونشرت جميعها في الصحف، وهي معركة لها خلفيات عديدة كانت تحتدم وراء الكواليس منذ فترة غير قصيرة، كما انها معركة فكرية لها امتدادها في الساحة العربية بدءاً من مصر وانتهاء بلبنان. فبداية بقضية نصر حامد أبو زيد التي استمرت لسنوات في مصر وآلت الى ما آلت اليه، وانتهاء باتهام الفنان مارسيل خليفة في بيروت في سنتها الثقافية الدولية تمتد حلقات من سلسلة طويلة تشمل العديد من التجليات بدءاً مما يحدث في الجزائر غرباً الى ايران شرقاً، مروراً بتركيا شمالاً، حيث يثور في كل هذه البلدان صراع في التفسير لنص او سلوك، أهو اسلامي أم لا؟ فهمي لما يحدث انه يرجع الى هذه التغيرات الجذرية التي تصاحب مشهد التطور العربي في قرن تعددت فيه التجارب النهضوية، مع الافتقار الشديد للبوصلة الاجتماعية والسياسية، مع وجود صراع يحتدم بين فريقين اجتماعيين كل منهما يرى الصواب في جانبه، احدهما يرى ان النهضة لا تتحقق الا بإحياء الماضي بكل ثقله، والآخر يرى ان السبيل الوحيد لهذه النهضة هو القفز على ذلك الماضي وتجاوزه بكل ما يحمله من خير وشر، وتتنوع بؤر هذا الصدام المحتدم لتكون تصريحاً في الكويت، ومسرحية في ايران، وفيلماً سينمائياً في مصر، وأغنية في لبنان ولباساً في تركيا. في هذا القرن العشرين الذي يودعنا ننظر للمسيرة العربية في التطور فنجدها بين صعود وإخفاق، بين تمسك بالماضي كما هو، او تقليد لتجارب اخرى من دون تحوير. وما المعارك الثقافية التي مرّ بها العرب وما زالوا الا تعبيراً عن هذه التشنجات. كتب مثل كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين، او رواية "اولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، او كتاب "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد، وكتابات اخرى عديدة وأفكار مختلفة احتدم حولها النقاش الى درجة التنافر الحاد بين فئات من المجتمع في العديد من البلدان العربية، هي تعبير عن هذا الاحتدام بين فئات المجتمع ذات الاجتهادات المختلفة وذات المنحى السياسي المختلف، انه تعبير عن الاخفاق في تحديد الاهداف التي يتبعها المجتمع، وإخفاق في فرز الخصوم والأعداء من جهة والأصدقاء المحتملين من جهة اخرى، كما انه اخفاق في تحديد مناطق الاختلاف وآلية حلها. ليس بالضرورة ان يكون احمد البغدادي على حق، وليس بالضرورة كذلك ان يكون خصومه على خطأ، او العكس، ولكن المؤكد ان الآلية والوسيلة التي يتخذها المختلفون خاطئة وغير ذات جدوى في المدى الطويل، فإن ما تم للبغدادي لن يكون رادعاً لغيره بالضرورة، فسوف تختلف الآراء ما اختلفت الاجتهادات. كما ان افتراض ان يقل حماس المنادي بفك التشابك بين ما هو ديني وما هو مدني ومناقشة القضايا المطروحة مناقشة مستفيضة في ثقافتنا، هو افتراض يخالطه الشك. بل ليس من المؤكد ان تقل شعبية البغدادي، ذلك ان البعض يفترض انه اصبح ضحية، وكان العقاب اكبر بكثير من زلة لسان فسّرها ملياً في التحقيقات التي اجريت معه. فحبس البغدادي، على عكس ما يتصوره البعض، من الناحية السياسية لن يصبّ في مصلحة من طالب بحبسه، لأن مصادرة الرأي هي معاكسة تماماً لمن يريد ان يقنع الناس برأيه، ولعل في مثال الدكتور عبدالصبور شاهين عبرة، فقد كان احد الاقطاب الذين طالبوا بتتبع نصر حامد ابو زيد في المطاردة الثقافية المشهورة، ثم انتهى الأمر بشاهين نفسه مطارداً من بعضهم بسبب ما أورده من آراء رأى فيها هذا البعض غلواً او شططاً، ولو ترك للآخرين هامشاً من التسامح لكان في وضع أفضل الآن. اذا تحول التدين الى عمل سياسي وحزبي، رفعت عن المناصر المحاسبة وأصبح معصوماً عن الخطأ، سواء خاض في امور يعرفها او لا يعرفها من امور الدنيا، كما يصبح التدقيق في لغة وتعابير الخصوم بشكل انتقائي محتماً، وسرعان ما يتحول الحجر على المناوئ ليصبح ذريعة تسلب حريته الانسانية باسم الدين. هذه المعادلة تنحو، الى وضع الدين في مقابل الحرية، وهو خطأ اشار اليه رئيس الجمهورية الايرانية الرئيس محمد خاتمي حيث كتب، مرة، ان وضع الحرية مقابل التدين اساءة لكليهما. ان جعل التماثل والخضوع قانوناً الزامياً، هو شكل من اشكال العصبية في مرحلة تاريخية لا تقبل ظروفها المشهودة هذا النوع من التعصب، حيث تسعى فيها الشعوب للتحرر وممارسة الديموقراطية. فإن كانت الاصولية الاسلامية تبدو للبعض مفاجئة فهي ليست كذلك، انها جزء من تيار عالمي ومناخ سائد في مناطق مختلفة ليس الغرب استثناء منها. وما نشاهده من حرية الرأي في تلك المناطق من العالم ما هو الا نتاج للتوازن الذي تم في هذه المجتمعات، نتيجة تطور تاريخي طويل من جهة، وهو تعبير عن الحاجة الى توافر الوسائل لحل التناقضات الحاصلة في المجتمع بطرق سلمية من جهة اخرى. وفي مناطقنا العربية تنتهج الحركة الاصولية - وهي حركة سياسية في الأساس - المنهج الديني، معتمدة على تحريك عواطف الناس وحشدهم للوصول الى اهداف سياسية، كما تلجأ الى اسكات مخالفيها السياسيين بطرق شتى وتعمد الى الغائهم. وهنا يقع البعض في خطأ التحليل، فيتحدثون عن خلاف "ديني" او خلاف في "الاجتهاد الديني" بتعبير أصح، وبالتالي يختارون الساحة الخطأ، بدل الحديث عن خلاف سياسي. الخلط بين الديني والسياسي يتمخض عن ضرر كبير. فالأصولية، اياً كانت، تعتبر نفسها وحدها مالكة للحقيقة المطلقة، فهي تطلب من مؤيدها التسليم الكامل في السلوك والقناعة، وهي اشد ما تكون على مخالفيها الذين يخرجون من صفوفها، حيث تعتبر نفسها قوة تتجاوز قدرة البشر، وان ما تنادي به لا يقبل المناقشة. فقط يقبل الموافقة والتسليم، وبالتالي لا تعترف بوجود حقيقة او جزء منها لدى غيرها، الأمر الذي يبيح لها اعتبار ان كل الآراء الاخرى تقع في خانة الخطأ، وهو امر سياسي بالغ الخلل ومناقض للسلوك السياسي، وحتى الانساني. لذا فإن التحضير لمعركة قادمة حول الحريات، خاصة موضوع تمكين المرأة الكويتية من نيل حقوقها السياسية، ليس بعيداً عن الضجة المثارة بعد حبس البغدادي استاذ العلوم السياسية، فهي جزء من المناخ العام. * كاتب كويتي