طرأ بعد الحرب العالمية الثانية، من جراء ازمات اجتماعية واقتصادية وثقافية، تطور جوهري في مفهوم الامن الذي خرج من نطاقه الاحادي العسكري والدفاعي الى ما يعرف اليوم بنظرية الامن الشامل او امن الامة او الامن القومي وتشعبها، الى فروع امنية اخرى كالامن الاجتماعي او الثقافي او المائي او الغذائي او السكاني، بحيث ان اي خلل في اي من هذه المسائل الامنية الفرعية من شأنه اذا ما تفاقم ان يهدد الامن والاستقرار الوطني لهذا البلد او ذاك، او قد يصبح شأناً اقليمياً ودولياً يهدد الامن والسلم العالميين. هكذا حال الامن الثقافي، ماضياً وحاضراً في العديد من بلدان العالم على غرار ما تشهده مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية اليتيمة الوحيدة بين المقاطعات الانكليزية في الاتحاد الكندي التي ما انفكت منذ ان وطأ الجنرال ديغول ارضها عام 1964 ورفع آنذاك شعاره الشهير "تحيا كيبيك حرة مستقلة" تطالب بشخصيتها الثقافية المميزة والتي اجرت في سبيلها استفتاءين شعبيين انفصاليين فاشلين عامي 1982 و1995، وهي الى اليوم ما تزال تحضر لاستفتاء قريب آخر. وكذلك حال الجماعتين الثقافيتين المتنابذتين في بلجيكا الوالون والفلامون Wallons et flamands. من جهة اخرى، ألم يكن الامن الثقافي في مراميه الايديولوجية البعيدة سبباً من اسباب الحرب العالمية الثانية بين الديموقراطيات الغربية والدكتاتوريات النازية والفاشستية؟ ثم ألم يكن الصراع بين الاممية الشيوعية والنظام الرأسمالي مظهراً من مظاهر الحرب الباردة بين الجبارين العالميين الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي السابق؟ أوليس ما تشهده المنظومتان الثقافيتان الدوليتان الفرنكوفونية والانكلوسكسونية من تنافس هادئ الى الآن انما غير بريء، في اكثر من منطقة في العالم، يعيد الى الاذهان بعضاً من مشاهد تلك التداعيات السياسية، او بالاحرى مأساة الثقافة حين توظف في خدمة الاغراض السياسية والتوسعية والمجالات الحيوية الاستراتيجية؟ في هذا السياق كان العرب وما يزالون من ابرز المستهدفين في أمنهم الثقافي الذي شكل بالامس خط الدفاع الاول عن قضاياهم القومية المصيرية وبات اليوم مخترقاً مفككاً وآخر ما تبقى من الخطوط العربية المنهارة. فمنذ اواخر القرن التاسع عشر دخل العرب في مواجهة قاسية مع التتريك وبعده التغريب الذي نجح في تثبيت اقدامه عن طريق البعثات التبشيرية المتعددة الجنسيات لا سيما الكاثوليكية والبروتستانية، وهما الركيزتان التاريخيتان للفرنكوفونية والانكلوسكسونية اللتان بسطتا هيمنتهما شبه المطلقة على مجمل الحالة الثقافية في المشرق العربي وعلى العديد من نخبه الفكرية والثقافية الذين كانوا احياناً اشد نصرة للتغريب من اهله، ما هيأ للدول الاجنبية احتلال الاقطار العربية وتجزئتها وتأسيس انظمة ثقافية وتعليمية تغريبية ما تزال بصماتها عميقة في النفوس والنصوص. تلك مرحلة خلت قامت على انقاضها منظومتان ثقافيتان عالميتان، الفرنكوفونية والانكلوسكسونية، لكل منهما مرجعيتها الخاصة وهيكليتها التنظيمية المحكمة وآلياتها في التخطيط والتنفيذ واستراتيجيتها البعيدة المدى وموازناتها الضخمة وهيئاتها التمثيلية الاقليمية، وهما الى ذلك تخوضان حرباً ثقافية باردة يمتد نفوذها الى اكثر من بقعة في العالم، علماً ان الصراع بينهما لم يعد يقتصر على التبشير كما كان بالامس وانما تخطاه الى كل ما يمت بصلة الى الشؤون الثقافية والفكرية والاعلامية والفنية والادبية والتعليمية واللغوية، لا سيما الجوانب التقنية والتكنولوجية التي تتطلب مهارات وكفاءات علمية عالية. وفيما عنى العالم العربي فانه ما زال موضع تجاذب حاد من كلا المنظومتين بحيث لم يخل اي قطر من اقطاره من ظل وتأثير اي منهما عليه. واللافت اليوم ان بعض الدول العربية المحسوب تاريخياً على هذا الجانب او ذاك يشهد تحولاً كبيراً في اتجاهاته الثقافية. فلبنان، احد ابرز المعاقل الفرنكوفونية التقليدية في المشرق العربي، ينحسر فيه مد اللغة الفرنسية لمصلحة الانكليزية عن الجامعات الخاصة وبعض الكليات الرسمية ذات الطابع العلمي والمهني والتقني، كما تشهد الحياة السياسية اللبنانية منذ بضع سنوات وصول العديد من خريجي الجامعة الاميركية الى مراكز الحكم يشار اليهم بالوزراء التكنوقراط. وثمة من يرد تنامي هذه الظواهر، ربما، الى حرص الحكومات اللبنانية على اقامة نوع من التوازن بين تياري الفرنكوفونية والانكلوسكسونية اللذين يتقاسمان العديد من المؤسسات الثقافية والنخب الفكرية، وربما ايضاً الى اقامة توازن مماثل في جناحي السلطة التنفيذية تطعيم الحكومة بالعناصر الانكلوفونية مقابل الاحتفاظ بالرئاسة الاولى للفرنكوفون معظم رؤساء الجمهورية اللبنانية كانوا من خريجي الجامعة اليسوعية. اما مصر التي تعتبر خارج الدائرة الفرنكوفونية فرانكوفونية جزئية فتحظى بنصيب وافر من المع رموزها ثقافياً وفكرياً وفنياً، وفي طليعتهم بطرس غالي الذي انتقل من امين عام لمنظمة الاممالمتحدة الى الأمانة العامة للمنظمة الفرنكوفونية في العالم. والى جانب ذلك توفر الفرنكوفونية لمصر العديد من المؤسسات الثقافية والمشروعات التنموية، علاوة على تدريب مجموعات من الشباب الجامعيين على احدث وسائل الاتصالات والمعلوماتية والتكنولوجيا العالية. والى جانب هذه الاختراقات الاجنبية المتعددة الوجوه والاساليب والغايات يبقى التطبيع مع العدو الصهيوني من اشدها خطراً على الامن الثقافي العربي خاصة وعلى الامن القومي عامة واهم المؤشرات على ذلك: - اصرار اسرائيل على ان يكون التطبيع في كافة مظاهره جزءاً لا يتجزأ من اية تسوية ثنائية او شاملة. وقد قطعت حتى اليوم شوطاً بعيداً من خلال اتفاقات الصلح والمؤتمرات الاقتصادية الدار البيضاء والقاهرة وعمان والدوحة وفتح المكاتب وتبادل البعثات الديبلوماسية. - قيام مجموعة من المثقفين العرب من داخل اقطار التسوية وخارجها بعقد اللقاءات مع نظرائهم الاسرائيليين في بعض العواصم الغربية جماعة كوبنهاغن والاميركية اجتماعات واشنطن علاوة على قيام غيرهم بالترويج للتطبيع في مساحات كبيرة من الاعلام العربي، وفي الندوات والمحاضرات والجامعات. - عجز القوى المناهضة للتطبيع عن توحيد صفوفها شرائح احزاب ومنظمات ذات ايديولوجيات متناقضة وطنياً وقومياً واسلامياً او تشكيل جبهة شعبية ونقابية وفكرية وسياسية عريضة، وجل ما قامت به لا يتعدى بعض المهرجانات والمؤتمرات التي لا تساوي مثقال ذرة مما تقوم به دوائر السلام العربية والاجنبية والصهيونية. ويكرر المسؤولون في المنظمات الدولية والعربية ان الامن الثقافي العربي بصورته الراهنة بات، بدل ان يكون اداة للسلم الاهلي والقومي، مصدر قلق واضطراب وارضاً خصبة لتفريخ الازمات الاجتماعية والسياسية ومعطلاً رئيسياً للحياة الديموقراطية. ومن ابرز المؤشرات نمطية الانظمة التعليمية وتخلفها اذ ان معظمها من نتاج الانظمة التغريبية القديمة لم يطرأ عليها اي تعديل جوهري. فلبنان على سبيل المثال، وهو الارقى بين المجموعة العربية، لم يغير مناهجه التعليمية الا في العام الماضي بعد مرور حوالي 53 سنة. كما ان التعليم المهني ما زال مهمشاً الى حد بعيد، والتخصص الجامعي تطغى عليه العلوم الانسانية بنسبة 60 في المئة مقابل 30 في المئة للعلوم التطبيقية، ونسبة الخريجين من حملة الدكتوراه والماجستير لا تتعدى 5 في المئة مقابل 22 في المئة لاسرائيل، وازمة البطالة في صفوف المتعلمين باتت من ابرز المسائل التي تهدد الامن الاجتماعي والسياسي، ونسبة الامية المنتشرة في العالم العربي تتراوح بين 30 و50 في المئة، لا سيما في اوساط النساء وفي الارياف، علاوة على الامية الجديدة، امية الكومبيوتر والإنترنت واللغات الاجنبية في صفوف المتعلمين. اضافة الى ذلك مسألة التعددية الثقافية العائدة للاقليات الاتنية التي لا يخلو منها اي بلد عربي تقريباً والتي يأخذ بعضها منحى انفصالياً كما في العراق والجزائر والسودان، فضلاً عن تنامي ظاهرة الاصولية التي تطرح نفسها كبديل ثقافي وايديولوجي مغاير لكل ما هو قائم من انظمة ثقافية وسياسية. واللافت ان الامن الثقافي العربي برمته تقريباً هو جزء من امن السلطة في معاداته للحركة الثقافية والفكرية، فمعضلتهما واحدة، العداء للحرية والديموقراطية. فتحت ذريعة الامن الوطني والقومي يضيق على حريات التعبير والقول والنشر والتأليف وتصادر الكتب والمطبوعات وتحظر التظاهرات وتراقب تحركات الاحزاب ولائحة الممنوعات اكثر من ان تحصى. ويتراكم في المخزون الثقافي العربي لائحة اخرى من المحظورات والمحرمات تابو كالمأزق الذي يعيشه الامن الثقافي في تعاطيه السلبي مع مسائل الجنس وتحديد النسل والاجهاض ما ينذر بتهديد الامن الاجتماعي والسكاني ومستقبل النشء العربي. خلاصة القول ان الامن الثقافي العربي لن يصبح اداة للسلم والامن القوميين ما لم يشهد النظام الثقافي برمته انتفاضة فكرية طموحة تفكك ركائزه التقليدية وتبقي على ما فيه من اصالة وقيم ومثل، وتلفظ ما تراكم من موروثات ومعوقات، وتؤسس في نهاية الامر لمشروع ثقافي ديموقراطي يشكل نواة لمرجعية عربية عليا تواكب مسارات التطور والعصرنة والعولمة، على غرار ما هو قائم حولنا من مرجعيات، تتحصن خلفها الاجيال العربية الصاعدة وتجنبها اهتزازات الداخل واختراقات الخارج على حد سواء. * كاتب لبناني مقيم في كندا.