لا تزال أحزاب وتجمعات المعارضة الماليزية بأطيافها المختلفة مصرّة على اطاحة رئيس الحكومة الدكتور مهاتير محمد، في وقت تقترب البلاد من احتمالات الدعوة الى اجراء انتخابات تشريعية على المستوى الاتحادي، قبل موعدها المقرر في آب اغسطس من العام المقبل. والمعارضة تستخدم كل الوسائل المتاحة لتشويه صورة خصمها بما في ذلك نشر الشائعات حول فساده وفبركة القصص المثيرة التي لم تكن يوماً من الاسلحة السياسية في المجتمع الماليزي المحافظ، ناهيك عن استغلالها كل حادثة او اجراء حكومي لاقامة الدليل على تعسف الحكومة وديكتاتوريتها، على نحو ما حدث اخيراً حينما اعتقل الصحافي الكندي موراي هايبيرت بتهمة اهانة السلطات القضائية في اول حادثة من نوعها منذ قيام ماليزيا، او حينما أثيرت قضية محاولة تسميم نائب رئيس الحكومة السابق انور ابراهيم في معتقله في اوائل ايلول سبتمبر المنصرم. اما آخر المستجدات على هذا الصعيد فقيام المعارضة باستخدام نقل العاصمة الاتحادية من كوالالمبور كسلاح للطعن في سياسات مهاتير الداخلية واقامة الدليل على تبذيره وفساده المزعوم. لقد ساد الاعتقاد لبعض الوقت ان ما واجهته ماليزيا من ازمة اقتصادية جراء الانهيار النقدي الكبير في جنوب شرق آسيا، وما تعرضت له حكومتها من مشاكل سياسية في اعقاب ازاحة انور ابراهيم من مناصبه الحكومية والحزبية الرفيعة، ومن ثم اعتقاله ومحاكمته، سوف يدفع باتجاه تجميد مشروع "بوتراجايا": المدينة التي تم الشروع في بنائها في 1996 على بعد اربعين كيلومتراً الى الجنوب من العاصمة لتكون جاهزة مع مطلع القرن المقبل كبديل عن كوالا لمبور الموبوءة بكل ما يعرقل النشاط اليومي لدوائر الدولة، ويثير اعصاب موظفيها والمترددين عليها من ازدحام وتلوث وتخطيط لا يتناسب مع متطلبات العصر. الا ان طموحات مهاتير محمد التي لا حدود لها، وقدرته الفائقة على لجم الاوضاع السياسية والاقتصادية، ساهمت في ابقاء بوتراجايا على رأس الأجندة الحكومية وبالتالي استمرار العمل في المشروع. ولا يستطيع اي منصف رأى او قرأ عن بوتراجايا الا ان يعترف بأن معجزة ماليزية جديدة قد تكون في طريقها الى النشوء، وان جهوداً جبارة تقف خلفها عقلية مؤمنة بالخلق والابداع والتحديث استثمرت ولا تزال تستثمر من أجل الصالح العام. فتحول مساحات من الأراضي الطينية الموحلة والأدغال الموحشة الى حقول وبحيرات تتخللها الأبنية الجميلة المصممة وفق هندسة معمارية مزجت ما بين الحديث والقديم، وربط هذا كله بالعاصمة القديمة ومطارها الدولي عبر شبكة من الطرق الحديثة والقطارات السريعة، وتجهيز كامل الانشاءات بكل ما هو جديد ومتطور في مجال الاتصالات والمعلومات بما يجعل المدينة تعكس بحق مدى ما حققته البلاد في حقل التقنية الرفيعة، فهذا، لا شك، معجزة تزيد من رصيد الحكومة وزعيمها. لكن خصوم مهاتير الذين بات لا يروق لهم اسلوب عمله وبقاؤه الطويل في الحكم 18 عاماً وما يسمى بنوازعه الديكتاتورية، انطلقوا من دوافع سياسية بحتة يهاجمون المشروع ولا يرون فيه اي حسنة تذكر. فمن قائل ان روائح الفساد والمكاسب الشخصية تفوح منه، الى قائل انه مجرد انفاق وتبذير لا مبرر له في وقت لم تعد البلاد قوية اقتصادياً. وبما انه يكلف دافع الضرائب الماليزي مبلغاً يفوق الخمسة بلايين دولار، كان الأَولى انفاقه على تجديد البُنى التحتية القائمة. ولئن كان انصار الزعيم المعتقل انور ابراهيم وزوجته، وان عزيزة وان اسماعيل، وحزبهما الجديد المعروف باسم "بارتي كعادلان ناشيونال" او حزب العدالة الوطني، يقفون خلف ترديد مثل هذه الحجج، فانهم يتناسون ان انور نفسه كان شريكاً في وضع الخطط الاولية لاطلاق مشروع بوتراجايا. بيد انهم، بطبيعة الحال، ليسوا الوحيدين في توجيه النقد. ذلك ان جماعات الاسلام السياسي الاصولي ممن يتخذون من ولاية كيلانتان معقلاً وينشطون عبر حزب "بارتي اسلام سيماليزيا" الحزب الاسلامي الماليزي المعروف اختصاراً باسم "باس"، دخلت على الخط لتزايد، انطلاقاً من معاداتها مهاتير بسبب سياساته القائمة على رفض تطبيق الشريعة والحدود الشرعية في بلد لا يزيد عدد سكانه المسلمين عن النصف الا قليلاً. وهكذا راحت هذه الجماعات تستخدم المساجد والأئمة وخطب الجمعة للتنديد بمهاتير ومشروعه والقول بأنه لا يسعى من ورائه سوى بناء الأمجاد الشخصية، وأن عمله ينطوي على التبذير والسفه الداعي الى الحجر عليه هكذا!. وذلك في ظاهرة خطيرة لم تألفها الجوامع الماليزية من قبل، وان كان امر نشوئها ليس غريباً، على ضوء ما يجري في بعض البلاد الاسلامية ولا سيما مصر التي تخرج في مدارسها الدينية الكثيرون من شباب هذه الجماعات. ولم يشفع لمهاتير عند هؤلاء ما حققه من انجازات كثيرة في مجال المحافظة على هوية البلاد وقيمها وتقاليدها الاسلامية. فزعيم التنظيم الشبابي لحزب "باس"، محفوظ عُمر، راح يسخر من رئيس الحكومة قائلاً انه يريد دخول التاريخ عبر الأبنية العجيبة على غرار ما فعله الامبراطور المغولي شاه جيهان، باني تاج محل الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع. ويبدو ان المنتقدين شعروا اخيراً بفشل حملتهم الظالمة في تحقيق الاهداف المتوخاة منها، فما كان منهم الا ان غيروا جزءاً من تكتيكاتهم. فبدلاً من مهاجمة المشروع ككل راحوا يركزون على الجزء المتعلق بمسكن رئيس الحكومة ومكاتبه وما تتميز به من فخامة. وليس أدل على المنحى الجديد من تخصيص صحيفة "حركة" التابعة للمعارضة الأصولية، احدَ اعدادها الاخيرة للحديث باستفاضة عن مقر رئيس الوزراء في العاصمة الجديدة مع غلاف مثير يحمل عنوان "قصر مهاتير الجديد". اما أنصار انور ابراهيم فساروا ايضاً على نهج زملائهم من الاسلاميين، لكن عبر اثارة موجة من الاسئلة والشائعات في الشارع حول التكلفة الحقيقية لمقر رئىس الحكومة والاصرار على انها لا تقل عن 200 مليون رينجيت حوالى 52.5 مليون دولار، على رغم نفي الحكومة وقولها انها لا تتجاوز 17.5 مليون رينجيت. وللتدليل على صحة ما يقولون راح البعض منهم يقارن ما بين مبنى المسرح الوطني المتواضع الذي تكلف انشاؤه 225 مليون رينجيت، وما يمكن ان تكون تلكفة مبنى يفوقه فخامة وأُبّهة ويحتوي على مساكن للضيوف وقاعات للطعام والاحتفالات وملاعب وحدائق ونوافير ومقار للحرس. وعلى رغم هذه الموجة الجديدة من الانتقادات، فالرأي الأرجح هو عدم تأثر مهاتير وحزبه الحاكم بها كثيراً. وهناك من يقول ان حملات المعارضة جاءت بنتائج عكسية، وان وضع مهاتير السياسي بات اليوم افضل مما كان عليه قبل عدة اشهر. واذا صح هذا، فان الفضل فيه يعود الى الماليزيين من ذوي العرق الصيني الذين ربما سادتهم مخاوف من احتمالات وصول المتطرفين الى السلطة فقرروا الاصطفاف الى جانب مهاتير ودعمه كشخصية لا بديل لها من اجل ضمان الاستقرار السياسي والاعتدال والوسطية في حل مشاكل البلاد. وبطبيعة الحال فإن تطورات الاوضاع في الجارة الاندونيسية وما لحق بأشقائهم الصينيين هناك من خسائر بعد سقوط الجنرال سوهارتو، لم تكن بعيدة عن اذهانهم وهم يتخذون مثل هذا القرار.