تقف مفيدة التلاتلي مع فريد بوغدير في طليعة السينما التونسية، اذ لأول مرة في تاريخه يشاهد التونسي صورته، صورة مجتمعه المحلي وان كانت "نوستالجية" عن تونس الخمسينات قبل ان يجيء بورقيبة بجمهوريته الاتاتوركية ليخرج الفرنسيين وينزل ملك البلاد عن عرشه، ويغلق جامع الزيتونة، ويختزل صورة البلد وهويته في شخصه. وكان لا بد ان يقبل التونسي بعد غياب بورقيبة على هذه الأفلام التي تمثل الهوية المصادرة، اذ تونس لم تعرف روائيّها الذي يقدم صورة بانورامية لمجتمع المدينة ومجتمع الطبقة المتوسطة، كما فعل نجيب محفوظ في مصر، لذا تولت السينما التونسية الى حد ما، هذه الوظيفة، فقدم بوغدير الحارة الشعبية في فيلم "الحلفاوين" بأجوائها، وأساطيرها، وقدمت مفيدة التلاتلي الحياة من داخل القصر، ومن مجتمع النساء في رائعتها "صمت القصر"، الفيلم "الأوتوبيوغرافي" ان صح التعبير، الذي قفز بها فجأة الى الواجهة كفنانة قديرة. ولأن مفيدة التلاتلي عايشت السينما التونسية من بداياتها الى اليوم، بل كانت وراء النجاح التقني لكثير من الاعمال، ولأنها تصور الآن شريطها الثاني "موسم الرجال" الذي تدور أحداثه في جزيرة جربة التونسية التقيناها في حوار التفاصيل هذا لتحدثنا عن تجربتها الشاملة. وكان السؤال الأول عن طفولتها التي تبدو حاضرة بشكل ما في الشريط، فقد استعادت مفيدة التلاتلي في "صمت القصر" كل شاعرية الحياة اليومية التونسية في الخمسينات وايقاعها، اذ ان من يتفرج على الشريط يحس ان هذه الشاعرية لا تخلو من انبهار طفولي بالعالم... - في طفولتي البعيدة كنت مغرمة بالخرافات، كنت أحب ان أسمع الخرفات التي تقصها علي جدتي في الليل، وكذلك جارنا الذي كان يجمع كل الأطفال ويروي لنا القصص. منذ اليوم التالي كانت تلك القصص تصبح ملكي. فقد كنت أجمع صديقاتي وأسألهن: هل تردن سماع قصة خرافية؟ فيجبن: نعم، حينئذ أقص عليهن ما سمعت من خرافات، وفي كل مرة أنسى أجزاء من الخرافة التي سمعتها البارحة، فأجد نفسي ملزمة بإكمال القص، وهكذا اخترع أحداثاً، ووقائع من عندي. وتتكون لدي خرافة نصفها حقيقي، ان شئت، ونصفها كذب. في المدرسة أيضاً كنت مغرمة بدروس التعبير، والانشاء، وغير ميالة الى المواد التجريدية، هكذا كنت في فجر طفولتي الأولى. مصر والهند أولاً ومتى بدأت بالتعرف على السينما؟ - بدأت بالتعرف على الأفلام المصرية، وعلى الأفلام الهندية التي كنت مغرمة بها جداً، كنت أفعل أي شيء، اختلق الأسباب لوالدي لأخرج من البيت، وأذهب مع صديقاتي الى السينما في ضاحية المرسي، وهو مكان يبعد حوالى كيلومترين عن البيت لنتفرج على أفلام، أظل بعدها ليالي، وليالي مع صديقاتي ونحن نتلذذ باسترجاع أحداثها. من هناك جاء غرامي الأول بالسينما، بعدها وفي المدرسة، وكانت السلطة الفرنسية لا تزال تحكم البلد، وكان معلم الفرنسية رجلاً مغرماً هو ايضاً بالسينما، وأراد ان يغرس فينا حب السينما، فكان يحدثنا عن نوع من السينما لم أكن أعرفه على الإطلاق، فقد شرع يحدثنا عن سينما الغرب، عن سينما انغمار برجمان، وفلليني. وعندما بعث ناد للسينما في المرسى، اشترك هو في النادي، وأراد ان يحبب النادي الينا فسجلنا في هذا النادي، فكان يأخذنا نحن الهواة كل يوم احد الى مقر النادي، حيث نشاهد أفلاماً تتماشى مع الدروس النظرية التي كنا نقرأها أثناء الاسبوع، وهكذا كان يستطيع أثناء الفصل ان يربط بين ما يقوله وبين ما شاهدناه. وفي أيام الآحاد من تلك الأيام البعيدة شاهدنا أفلاماً من نوع "الاخوة المتوحشون" وغيرها من الافلام. وهكذا عندما نجحت في امتحانات البكالوريا، وجاءت لحظة اختيار التخصص الجامعي للحصول على المنحة الطالبية، اخترت معهداً سينمائياً ولم أكن أدري أيامها ان كان هناك معهد للسينما في تونس. بالطبع رفض طلبي. وقيل لي أنني جيدة في الجغرافيا وفي التاريخ وفي الفلسفة. وأرادوا تعييني معلمة بالمدارس الابتدائية. كان والداي يحبان هذه المهنة، ولكنني أصررت على السينما، واحتلت على ذلك بأن سجلت نفسي في قسم علم الاجتماع للتضليل. بعدها أين درست؟ وما هو الاختصاص الذي وقع عليه الاختيار؟ - درست في فرنسا، في معهد "الإيداك" في باريس. وتخصصت في المونتاج. كان أغلب الطالبات في المعهد يُوجهن الى قسم المونتاج، كانوا يقولون هذا اختصاص نسوي، اما الاخراج والكاميرا والصوت فاختصاصات رجالية. وفي الحقيقة أعجبني المونتاج فقبلت. بعد ذلك كيف تدرجت في عالم السينما؟ - حصلت على شهادة المعهد. ثم اشتغلت في فرنسا ثلاث سنوات. عملت ملاحظة سيناريو، مدة عام واحد، في التلفزيون الفرنسي، بعدها انتقلت الى قسم البحوث في التلفزيون نفسه. بعد المونتاج كان "صمت القصر" فيلمك الأول كمخرجة، كيف بدأت الفكرة، اذ يبدو هذا الفيلم ومن بعض النواحي، كأنه سيرة ذاتية؟ - قصة هذا الشريط تتمثل في أني انسانة مغرمة بالمونتاج، كنت أعمل مرتاحة البال. ولم يخطر على ذهني مطلقاً أني سأقوم في يوم من الأيام بالتوقف عن المونتاج لانجاز شريط أكون أنا مخرجته، ومنشئة قصته، وكاتبة السيناريو. الذي حدث ان قصة الشريط هي التي جاءتني، وفرضت علي نفسها. لقد عشت فترة عصيبة جداً من حياتي، وذلك حين مرضت والدتي. لقد مرضت والدتي في سنوات الثمانين، اذ دخلت هي نفسها في صمت كبير، وصمتها ذاك هو الذي جعلني اتساءل عن حقيقة الصمت، لم أكن أدري أن الصمت أيضاً قد يكون تراجيدياً، وموجعاً. نحن نعرف الصمت ظاهرة بسيطة، مجرد التوقف عن الكلام. في حين أنك كشفت في هذا الشريط عن أبعاد أخرى انسانية وموجعة للصمت، فكيف كان هذا الصمت الذي اكتشفتيه، والذي كان يضج في الأعماق؟ - اكتشفت ان هذا الصمت الذي وصلت اليه أمي، كان صمتاً مطلقاً. كانت قبل هذا الصمت المطبق داخل صمت آخر، كان هو نفسه مقدمة لهذا الصمت... وشيئاً فشيئاً بدأ يتطور هذا الصمت الى ان وصلت الى صمتها المرضي، والمطلق. هذه الحادثة زعزعتني... زعزعت حياتي كلها، مما دفعني لأن أعرف لماذا وصلت أمي الى ذاك الحد المرضي من الصمت؟ وكيف عاشت حياتها؟ وهذه الأسئلة قادتني الى البحث عن قصتها السابقة. وعن حوادث سنوات الأربعينات والخمسينات التي عاشتها. ثم وجدت ان هذه الأسئلة تحيرني، وتسكنني الى هذا الحد، فلا بد أنها تمس حياتي أنا ايضاً اليوم. واكتشفت كذلك أني أنا نفسي قد تسرب الى صمتها، وأني أنا كذلك قد عشت حتى الآن حياة مليئة بالصمت، انا نفسي كان لدي أشياء كثيرة أقولها، ولكن عجزت عن التعبير عنها، ولم استطع ان أقولها. وشيئاً فشيئاً أغرمت بشخصية الأم، وتشكلت لدي شخصية الأم التي أرادت ان أتكلم عنها. وقد عبرت عنها أول الأمر كتابة. ثم اكتشفت بعد ذلك اني بصدد تكوين إطار شامل لها. وهكذا تشكلت لدي هذه القصة، وعندما اكتملت تشجعت، وقرأتها على بعض الاصدقاء المقربين، ولما وجدت لديهم قبولاً حسناً، شرعت في العمل. إذن تقوم قصة الفيلم على حادثة واقعية؟ - لا، هي لا شيء، هي قصة لا تمس أي انسان، هي قصة خيالية بالكامل، أما الاحاسيس والمشاعر التي تتخللها وكذلك مكنونات ومكونات شخصياتها فإنسانية، انها تتضمن تجارب، إما عشتها أنا، أو التقطتها من محيطي، أو أحسست بها لدى الآخرين. وحولت الصمت الذي هو جزء أساسي من تجربة المرأة التونسية والشرقية عامة، الى شريط يقول أشياء كثيرة، فالشريط هو نشيد تحرر ايضاً؟ - ذاك الصمت كان يقول أشياء كثيرة... يكف الانسان عن الكلام، ويدخل الصمت عندما يكون لديه شيء خطير يقوله، ولكنه، ولخطورة هذا الشيء، يعجز عن الافصاح عنه، ويسكت حتى لا يقوله. والكلام الذي نتلفظه قد يكون بلا معنى، اما إذا ما وصل الأمر بالإنسان الى ان يسكت عن أشياء خطيرة يعيشها، فمعنى ذلك ان الشيء المسكوت عنه هو من الخطورة بمكان، وأنه قوة تشتغل في الداخل، انه صمت مليء بالمعاني، صمت ضاج. الحوادث كما تدرين غير مهمة، ولكن المهم في الفن هو المعالجة، والرؤية الانسانية، أنت ماذا أردت ان تقولي للمتفرج؟ - أردت ان أبلغ المشاهد ان هذا الصمت يستطيع ان يؤلم كثيراً، بل أكثر مما قد نظن، وان البنت، أو الولد الذي يكبر وسط عائلة يحكم علاقاتها الصمت، فإن أشياء كثيرة، وغامضة تستطيع ان تتسرب الى نفسيته، فتؤذيه في ما بعد على امتداد أيام حياته، وقد يعلق بك ذاك الصمت، ويظل يعذبك حتى الشيخوخة، وقد يكبل قواك الابداعية، ويمنعك من انجاز اشياء كثيرة في حياتك، لتظل متخوفاً، ويظل ذلك الصمت معطلاً لك في حياتك، ويشكل كوابح داخل نفسك، لا تشعر، ولا تعي بها، وانما تعاني نتائجها السلبية، اذ تظل تعمل عملها التدميري، والسري على مستوى اللاوعي. - إذن للشريط قيمة أخلاقية، هو دعوة للتحرر الروحي الشامل. ولكن لدي ملاحظة حول السيناريو. اذ فيه صمت كثير هو ايضاً، وهذه ظاهرة تنسحب على أغلب الافلام التونسية، اذ يكاد السيناريو فيها يكون غائباً لشدة فقره اللغوي، وتبدو حوارات هذه السيناريوهات أشبه بلعبة البيغ بونغ، حيث تتلقف الكلمات ويجاب عنها باختصار سريع، مما يخلق فراغات مزعجة لدى المتفرج؟ - الفراغات التي لاحظتها داخل السيناريو مقصودة، لقد تقصدت هذا الصمت في نسيج السيناريو، الفيلم فيلم صمت مبنى ومعنى، وكما نقول في تونس اسمه على جسمه، لقد أردت في هذا العمل التعبير ليس باللغة فقط، لأن ما كانت تحس به أولئك النسوة كان من القوة بحيث لا يمكن التعبير عنه باللغة، أنهن لم يتعودن الكلام عليه، لو كان هناك كلام لانتفى مبرر هذا الشريط. ولكن، ولو انه شريط عن الصمت فهو في حقيقته العميقة تعبير، وهنا تكمن المفارقة الاساسية للفن، انك أردت من خلال تصوير الصمت التعبير، وبقوة عن المسكوت عنه في عالم هؤلاء النسوة؟ - لقد أردت التعبير، ولكن بوسائل اخرى غير الكلام، لقد جعلتهن يفصحن عن أنفسهن كل حسب امكاناتها، حسب طاقتها، واحدة تعبر بالغناء، وأخرى تعبر بالطبخ، وثالثة تعبر بالموسيقى وبالعزف على العود. فطاقة الصمت الكامنة انفجرت في أشكال مختلفة، واشتغلت ايضاً كثيراً على التواصل برؤية العين، جعلت الصمت يتكلم بالنظرات، فهؤلاء النسوة كثيراً ما يتكلمن بالغمزات، فقد كنت أقترب من الوجوه بالكاميرا لأفصح عن كلام العين هذا بالصورة، أريد ان أجعل عينها تقول ما لم يقله فمها. عن السينما التونسية كيف تجدين السينما التونسية اليوم، هذه السينما التي مضى على بداياتها أكثر من ثلاثين سنة، وعلى رغم ذلك لم تنتج أفلاماً كثيرة؟ - أراها سينما حية، ويبدو لي ان هناك موجة تحملنا جميعاً. كان إقلاع هذه السينما في الأول صعباً، واستمر زمن الاقلاع طويلاً. أما الآن، فيبدو لي انها انطلقت. هناك أفلام تونسية كثيرة جيدة أذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر: أفلام نوري بوزيد، وعبداللطيف بن عمار، وشريط "حلفاوين" الذي له رؤية أخرى مختلفة، وأفلام ناجية بن مبروك، ومحمود بن محمود. لكل شخصيته وهويته وطعمه وايقاعه. أذكر ايضاً شريط ابراهيم باباي الأخير الذي عالج موضوعاً لم يسبق اليه، موضوعاً سياسياً آنياً. أين تموضعين السينما التونسية داخل أسرة السينما العربية؟ - يبدو لي ان السينما المصرية، هي التي كانت متفوقة بالكم، بإمكاناتها السينمائية، وبحرفيتها العالية. وقد مضى زمن كانت فيه كل البلاد العربية عالة على مصر، ويبدو لي اليوم أننا وصلنا الى تقييم للسينما يتحدد بنوعية الأفلام، وليس بعددها. ولكن لا أنسى صلاح أبو سيف، ولا يوسف شاهين، ولا شادي عبدالسلام وشريطه "المومياء"، تاريخنا كله خرج من مصر، وقد تعلمنا منهم. كانت السينما المصرية هي السينما التي اعتمدنا عليها للانطلاق. اليوم حيثما تذهب تجد أفلاماً ذات قيمة، في الجزائر، في المغرب، في سورية... يبدو لي اليوم ان كل بلد يجهد لانتاج سينما الكيف الممتازة، وليس سينما الكم. لم يعد هناك مكان لسينما الكم، صحيح هناك جمهور لسينما المسلسلات، للشريط القديم الميلودرامي الهابط، ولكن حتى هذا الجمهور بدأ يتطلع للعمل الفني الممتاز. ونحن نرى هذا الجمهور اليوم في المهرجانات، وقد بدأ يقبل بنهم على السينما الجديدة. وصار أيضاً يقبل بتحمس على مشاهدة صورته الجديدة. لأن التونسي يرى صورته في هذه الافلام لأول مرة، لقد تعود على رؤية كل الصور عدا صورته، درامته هو؟ - هناك ظاهرة لم أفهمها، ولم استطع تحليلها، وهي ان الجمهور التونسي كان قبل عشرين سنة رافضاً صورته السينمائية. لم يكن يقبل على الافلام التونسية الأولى، والتي لم تكن سيئة. في البدء لم تكن هناك علاقة بين الفيلم التونسي وجمهوره. وأول فيلم شد الجمهور التونسي اليه، كان شريط نوري بوزيد رجل من رماد. انه أول فيلم جعلنا منبهرين بهذا الجمهور الذي أقبل بكثرة، وقد شكّل هذا الشريط منطلقاً لهذا اللقاء الرائع الذي نشهده اليوم بين الشريط التونسي وبين جمهوره.