هناك رحلة طويلة من الكفر إلى الإيمان، وكان على العرب الذين تركوا عبادة الأوثان ودخلوا دين الإسلام أن يدركوا أبعاد هذه الرحلة، وأن يعرفوا ما يستوجبه الإيمان الحق من التزامات. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "كنا جلوساً عند الرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رجل من العالية، فقال: أخبرني يا محمد عن أشد شيء في هذا الدين وألينه؟ فقال له الرسول ص: يا أخا العالية، ألين شيء في هذا الدين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأشده يا أخا العالية الأمانة، ألا إنه لا دين لمن لا أمانة له وإن صام وصلى". وعلى هذا فقد قام الرسول صلوات الله عليه في المدينة بجهد كبير ليقدم للمسلمين الآداب الجديدة التي خلقها الإسلام، والأخلاق السامية التي لم يكن للمجتمع البشري عهد بها، وبذل الرسول ص في ذلك أقصى الجهد لإعادة بناء الفرد عقب دخوله الإسلام، فأخذ يعمل في جانبين متوازيين: الجانب الاول تطهير الفرد المسلم من أنواع الشرور والآثام التي كانت متفشية، والتي تميل لها النفس الأمارة بالسوء. أما الجانب الثاني فهو العمل ليكسب الفرد المسلم أسمى الصفات وأكرم السجايا، وذلك بتحديد الفضائل والحث على اتباعها والتمسك بها. وكان الرسول صلوات الله عليه يتخذ كل الوسائل لتربية الفرد المسلم وإعادة بنائه بالقول حيناً وبالسلوك حيناً آخر. وكان تأثير الرسول ص بكلامه وفعله شديداً على المسلمين، فظهرت طبقة من الصحابة برزت فيهم صفات البر، واختفت صفات الانحراف. وسنعيش مع سيدنا رسول الله نعرض كلامه وتصرفاته وهو يعمل على تجنيب المسلمين الرذائل، وعلى شدهم إلى الخير وتمكين الفضائل من نفوسهم. وليس ما نعرضه هنا إلا محاولة لتجديد العهد بصدر الإسلام حتى نستجيب لرسول الاسلام وهو يرشد ويعلم ويوجه. وأول ما نبدأ به من صفات الرذائل التي حاربها الرسول ص صفة الظلم، فالظلم من أخطر الصفات التي تهدد المجتمعات وهو عدوان قوي على ضعيف، كأنما ظن القوي انه سيظل قوياً، وحسب ان الضعيف سيظل ضعيفاً. وهو حساب خاطئ فليس هناك شيء يدوم، ولذلك نجد سيدنا رسول الله يهاجم الظلم ويحذر منه ويقول عليه السلام: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، و"اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه. وبيّن رسول الله أن الظالم سيقاد منه، ولن يفلت من العذاب، فقال عليه السلام: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذ، لم يفلته". وإذا كان الظلم نهباً أو استيلاء فإن الظالم يطوق يوم القيامة بما نهبه أو اغتصبه، قال عليه السلام: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين" متفق عليه. ويكون الظلم أبشع وأفحش لو كان واقعاً من ولي الأمر على الرعية. فولي الأمر، يُفترَض ان يكون حامياً من الظلم وحارساً للرعية. فإذا انقض عليهم ظالماً وجائراً كان عقابه مضاعفاً، وحسابه عند الله شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به". ومن الظلم ظلم ينزله الابن بوالديه وهو يسمى العقوق، والرسول يعد هذا العقوق نوعاً من الكبائر ويخوّف بأن عقوبته لن تكون في الآخرة فحسب، وإنما يعجل الله بها في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: "الكبائر ثلاث: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس". و"ثلاث لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف". و"كل الذنوب يؤجل الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات". ومن الاخلاق الذميمة التي نهى الرسول ص عنها وكرر النهي: الرشوة، وهو داء يصيب بعض الناس ويوهمهم بأنه يجلب لهم الخير، وهو في الحق يجلب عليهم البلاء. وفي عصرنا الحاضر تنتشر الرشوة باسمها الحقيقي أحياناً، وباسم الهدية أحياناً أخرى، وهي هنا وهناك سحت وضلال، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" رواة الاربعة، و"من ارتشى في الحكم شدت يساره الى يمينه ثم رمي به في قعر جهنم" رواه الحاكم، و"الرشوة في الحكم كفر وهي بين الناس سحت" رواه الطبراني، و"هدايا العمل غلول" متفق عليه. ويحذر رسول الله من الكبر، ويدل تحذيره على أن المتكبر جاهل نسي تكوينه ومبدأ حياته ومنتهاها، ولو أنه تذكر ذلك او تذكر من سبقوه بما كان لهم من جاه وسلطان، ثم ما انتهى إليه أمرهم ما بقي في نفسه شيء من الكبر. وعن خلق الكبر يقول صلى الله عليه وسلم: "من كان قي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبّه الله على وجهه في النار" رواه أحمد، و"من تعّظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تعالى وهو عليه غضبان". وفي بناء الفرد المسلم يهتم الرسول ص اهتماماً كبيراً بالنهي عن التجسس ومحاولة كشف مساوئ الناس وعيوبهم، قال صلوات الله عليه: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقئوا عينه"، و"من استمع لحديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الانك الرصاص المذاب، و"كل أمتي معافٍ الا المجاهرين فإذا كان الله قد ستره فليس لمسلم ان يكشف ستره"، و"لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله". وليس من التجسس ان تتبع انساناً غلب على الظن انه يريد الفتك بإنسان او ارتكاب كبيرة لتمنعه من ذلك. وينزه الرسول ص الانسان المسلم عن الخلاف، وقد ورد ان الرسول ص عندما أرسل عمرو بن العاص على رأس بعث، ثم أمده بجند بزعامة ابي عبيدة بن الجراح أوصى الرسول أبا عبيدة بقوله:"لا تختلفا". وكم من مفاسد ترتكب بسبب الخلاف والصراع، وفي المجتمعات أفراد كأنما يبحثون عن مواطن الخلاف، ومثل هؤلاء يتخلقون بأخلاق تدمر المجتمع وتأتي عليه. وفي بناء الفرد المسلم نجد الرسول صلوات الله عليه يتبع أرقى ألوان الفكر عندما يقول: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر". وينهي الرسول عن الجلوس على الطرقات إلا بعد أداء حقها، فعن أبي سعيد الخدري، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: يارسول الله: ما لنا بد. فقال: فإن أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه، وقالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". تلك وقفة قصيرة مع الرسول صلوات الله عليه، وهو يجنب الفرد شرور النفس وآثامها. فإذا جئنا الى الجانب الاخر الذي يحث الرسول فيه الفرد المسلم على كريم الصفات وجميل السجايا، وجدنا ثروة هائلة تجعل من الانسان صورة طيبة ونموذجاً حياً يتناسب مع الصورة التي آرادها الله للانسان المسلم. وسنذكر في هذا المجال بضعة احاديث تصور أهم الجوانب في بناء الانسان المسلم. واحاديث الرسول ص في هذا المجال تتدرج في بناء الانسان، فهي تتجه في المقام الاول لتعليمه الصدق والامانة والكرم والإخلاص في العمل وما ماثل ذلك، ثم تتجه به بعد ذلك لتعلمه رعاية الآخرين، فتحثه على صلة الرحم وأداء حق الجار والتنفيس عن المعسر. وتنتقل الاحاديث خطوة فتحث على الدقة في اختيار الصديق، ولما كانت الحياة تحتاج لحراسة فإن الاحاديث توضح أن المجاهدين والمرابطين لهم عند الله أحسن الجزاء فهم يقدمون النفس والدم اذا قدم الكرماء المال والمتاع. وتتجه أحاديث الرسول في مجال بناء الفرد إلى اتجاهات أخرى متعددة سنراها لاحقاً. وعن الامانة يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحديث الذي سبق أن أوردناه في مطلع هذا الكلام مرتبطاً بالرجل الذي جاء من أهل العالية. وعن الإخلاص في العمل وإجادته يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وعن أنسب وقت للصدقة يروي ابو هريرة "أن رجلاً جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت هذا لفلان وهذا لفلان". وعن صلة الرحم يروي أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في عمره فليصل رحمه" متفق عليه. وعن حق الجار يقول صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلكرم جاره". وقيل للرسول: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل لكنها تؤذي جيرانها. فقال: هي في النار". وعن التنفيس عن المدين يقول أبو قتادة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره ان ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، ويروي جابر ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلاً سمحاً اذا باع، واذا اشترى، واذا اقتضى". وعن الدقة في اختيار الصديق يقول صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، ويقول: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". رواه أبو داود. وعن جزاء المجاهد يقول صلى الله عليه وسلم: "من قاتل في سبيل الله وجبت له الجنة". وعن الحث على البعد عن الفقر والحرمان والعوز يقول صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" متفق عليه. وعن الرفق بالناس يقول عليه السلام لعائشة: "يا عائشة عليك بالرفق، فإنه لا يدخل شيئاً إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق" رواه مسلم. وعن حسن معاملة الخدم يقول ابن مسعود: "كنت أضرب غلاماً لي فسمعت صوتاً من خلفي يقول: اعلم يا ابن مسعود ... فلم افهم الصوت من شدة غضبي، فلما دنا مني صاحب الصوت وجدته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اعلم يا ابن مسعود ان الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله تعالى: فقال: لو لم تفعل للفحتك النار" رواه مسلم. تلك نماذج قليلة، وهناك آلاف مثلها من أحاديث الرسول وهو يربي الفرد المسلم، مرتبطة هذه الاحاديث بأحداث ومواقف، أو كانت من التوجيه العام. ولا شك في أن هذا اللون من التربية شغل حياة الرسول في مقامه وسفره. ويجب على كل مسلم ان يتعرف على هذه التوجيهات وأن يعمل بها ليسعد في الدنيا والاخرة. وأول موقف يلحظه الباحث ان الرسول أتخذ المسجد مكاناً للقضاء. واتخاذ المسجد مكاناً للقضاء يحمل معنى أشار إليه ابن القيم، وهو قدسية القضاء، فما دام القضاء يعقد في بيت الله فإن قدسيته تصبح واضحة. واذا كان القضاء عقد بعد ذلك في امكنة اخرى، واتخذت له قاعات خاصة فقد انسحبت القدسية الى كل مكان يقام فيه، وذلك ضماناً للعدالة واحساساً بالمهمة الكبرى التي يزاولها القاضي. وانعقاد جلسة القضاء في المسجد وضع أساساً ضرورياً لهذه الجلسة هو "العلنية" أي ان تكون جلسة القضاء مفتوحة للجميع. وحضور الجماهير هذه الجلسة سيكون نوعاً من التعليم والتدريب من جانب، وسيضمن من جانب آخر عدالة الحكم، لأن الجماهير ستكون بمثابة المراقب الذي يحس بقدر التهمة ومدى الادلة ونوع الحكم. وبعد الحديث عن مكان التقاضي نتابع الرسول صلوات الله عليه وهو يبرز لنا أهم شروط القاضي والتزاماته. ولعل أول شرط نقتبسه من كلام الرسول هو شرط العلم الذي لا يجلس الانسان مجلس القاضي من دونه. يقول عليه السلام: القضاء ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار. فالجزء الاخير من الحديث يقرر ان القاضي الجاهل بالاحكام يدفع للنار وإن اصاب في قضائه، لان اصابته جاءت مصادفة، والقاضي لا بد ان يكون على درجة كافية من العلم ولا تتحكم المصادفة في احكامه. ونستمر مع هذا الحديث الشريف فنرى جزءه الاوسط يقدر ضرورة العدالة، ويراها من أبرز شروط القاضي، فالقاضي الذي عرف الحق وقضى بسواه يدفع به الى النار مع القاضي الجاهل، لانه لم ينتفع بما علم ولم يؤد حق الله. ويتكرر هذا المعنى في حديث آخر رواه البيهقي ونصه: "اذا جلس القاضي في مكانه هبط عليه ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه، ما لم يجر، فإن جار عرجا وتركاه". وهكذا نجد عون الله مع القاضي الذي يتجه للعدالة اما الذي يتجه للجور والظلم فيكله الله لنفسه، والويل كل الويل لمن لا يكون معه عون الله وتوفيقه. وهناك خصلة يبرزها الرسول للحكام بوجه عام وللقضاة بوجه خاص، تلك هي البعد عن شبهات الرشوة والهدايا. يقول صلى الله عليه وسلم: "هدايا العمل غلول". ويعد القاضي من اول العمال الذين يحرم عليهم أي شيء يشكك أو يؤثر في عدالتهم، حتى ان القضاة المسلمين كانوا يكرهون ان يتخذوا أصدقاء يكثرون التردد على منازلهم، اذ قد يتوهم الناس أن هذا الذي يتردد على بيت القاضي له عنده منزلة قد تتخذ اساساً لاستغلال غير مشروع.