كان منصرفاً الى توضيب مقالاته ومحاضراته الكثيرة والى جمع أبحاثه في السياسة والدين والتاريخ والقانون حين فاجأه المرض العضال. لكنّه لم يأبه له فواجهه بإيمانه الكبير ورجائه، وظلّ عاكفاً على مؤلفاته ليضع عليها اللمسات الأخيرة لتصدر تباعاً. ووافاه الموت ولم يبصر إلا كتاباً واحداً صدر قبل أشهر وعنوانه "في التاريخ والفقه والثقافة". في منفاه الباريسي مات بطرس ديب بصمت عن 77 عاماً أمضى ردحاً منها في خدمة لبنان، ولكن ليس على الطريقة الرائجة سياسياً وإنّما بحسب ما اقتضت مثاليّته ونزاهته ومنزلته العلمية. فبطرس ديب رجل السياسة والعلم والقانون والدين كان بحقّ نموذجاً فريداً في الانفتاح والحوار والعمق وفي العطاء الذي لا حدود له. كان يهيئ نفسه للعودة الى لبنان نهائياً بعدما آلمه البعاد. فإقامته في باريس كانت أشبه بالمنفى في ما يعني من غربة واقتلاع لكنّها كانت حلاً موقتاً ريثما تنتهي الحرب البغيضة التي رفض أن يكون شاهداً عليها وعلى مآسيها وأن يكون ضحيّة من ضحاياها الأبرياء. وحين وجد نفسه فيها وخصوصاً في مراحلها الأولى سعى الى إرساء الهدنة والحوار انطلاقاً من موقعه كسياسيّ وأكاديميّ وكداعية من دعاة الحوار الوطنيّ. وكان له حضوره المميّز في كل الحقول التي عمل فيها وكانت له أيضاً تلك الإطلالة المتواضعة والأليفة، هو الشخص العالم وصاحب الخبرات والكاتب المثقف والباحث العميق. وانتماؤه السياسي الى التيار الشهابي وقد ربطته بالرئيس فؤاد شهاب صلات قربى لم يكن إلا انتماء الى الأصالة السياسية كما رأى اليها هو، والى مشروع البناء الذي نهض حينذاك، بناء لبنان المؤسسات ولبنان المستقبل. ولعلّ مكوثه قرب الرئيس الياس سركيس كمستشار سياسي في أشد المحن والظروف القاهرة كان بمثابة الاضطلاع بمهمّة الانقاذ ومواجهة المؤامرة! ولد بطرس يوسف ديب في 23 آب أغسطس 1922 في البرازيل إذ كانت أسرته من الأسر التي هاجرت في مطلع القرن. لكنّه نشأ في بيروت وتلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدرسة البعثة العلمانية الفرنسية بيروت. نال الدكتوراه في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، والدكتوراه في التاريخ من جامعة ليون فرنسا. درّس في جامعة القديس يوسف والجامعة اللبنانية ومعهد الآداب الشرقية مواد اللاهوت والتاريخ الكنسي والنظم الإسلامية والتاريخ الديبلوماسي العام وتاريخ الشرق العربي. عيّن مديراً عاماً لوزارة الأنباء 1959" وعميداً لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية 1964" ثم سفيراً لدى الأونيسكو 1966" فمديراً عاماً للقصر الجمهوري 1968" فسفيراً لدى الفاتيكان 1975" ثم رئيساً للجامعة اللبنانية 1977" فسفيراً في فرنسا 1980 - 1982. وفي تقديمه لكتابه الذي صدر عن "دار النهار" قبل أشهر وعنوانه "في التاريخ والفقه والثقافة" كتب السفير فؤاد الترك يقول: "كيف لطالب أن يكتب عن أستاذه، حين أستاذُهُ منبرٌ مروَّضُ الكلمات؟ كيف لزميل أن يكتب عن زميله، حين هذا الزميل ممن يهم يُقتدى؟ وهل لصديق أن يكتب عن صديقه ولا يكون منحازاً الى المشاعر والوشائج التي لا تُخفى؟ في مطلع شبابي، تتلمذتُ عليه أستاذاً للتاريخ في الجامعة اللبنانية مع مطالعها الأولى. وانفصلنا، فاتخذت طريقي الى الديبلوماسية، وراح، هو، يشقُّ طريقاً له الى الوظيفة العامة، تطلبه فيلبي، تقصده فلا يتردد عن خدمة لبنان على أعلى المستويات .... ورحت أرافق انتقاله من منصب الى منصب... وفي جميع هذه المحطات والمراحل، يكون دائماً هو هو: المثقف الواسع الاطلاع، الغزير المعرفة، الوفير الانتاج، الدمث الخلق على شمم وإباء، المفرط في الكياسة وعبارته "أبوس روحك" ذهبت مثلاً، الممتلىء لياقةً ومجاملة، المتعلق بالمُثل العليا، الغيري النموذجي في نهجه والسلوك". ويحتفل بالصلاة على نفسه في الثالثة من بعد ظهر غد السبت في كنيسة سيدة لبنانباريس، ويعلن لاحقاً عن برنامج احتفالي خاصّ في بيروت.