مع سنيِّ المراهقة، تفور الدماء في العروق وتتزايد سرعة جريانها" ولا بد أن ذلك يعمل، بشكل من الأشكال، على تغيير الأخلاق والتصرفات والأمزجة، فيبدأ بالظهور الشعورُ بالعزلة وكذا الشعورُ بالعظمة وحب التحدي واكتشاف المجهول. غير أن الميل الى المقاتلة والتسابق كان يغلب علينا، نحن مراهقي محلة باب الشيخ، في أواخر الثلاثينات من هذا القرن" فبعد استنفادنا للألعاب الهادئة نسبيا كألعاب الدعبل ولعبة حرامية جرخجية ولعبة الزيتون، التي تشبه لعبة "البيسبول" الأميركية، وألعاب الكرة الأخرى وغيرها، كنا ننزع الى المغامرة ومواجهة الأخطار والتقاتل، فنتفق أن نتحارب. قسَّمنا أنفسنا، مرةً، الى فريقين واخترنا ركناً من الدرب تتراكم فيه الأتربة لصق الجدران، ثم قضينا ساعة وبعض الساعة نحفر السوبيرات ونقيم السواتر وننظم الفتحات من أجل النواظير ونبرمج لخطة عسكرية صاعقة لم نكن نعلم كيف سننفذها ولا متى أو أين. بعد الانتهاء من مهام التحضير، أخد كل واحد منا موقعه في الخندق ونحن على أشد ما نكون توفزاً وانفعالاً" وفي لحظة غير منتظرة تماماً، كالعادة، بدأتْ الحرب. تقاذفنا بالحجارة في الدقائق الأولى، واستطاع كل فريق أن يخطىء أفراد الفريق الثاني" ولعدم حدوث ما يمكن أن يوقف هذا التقاذف فقد استمر دقائق أخرى. ثم خطر لواحد منا - لا أتذكر هل كنته أنا أم شخصاً آخر - وقد لاحظ وجود خلية زنابير على الجدار الملاصق للفريق الخصم، فرماها بحفنة تراب ثقيلة أتبعها بأخرى، فإذا بالخلية تهيج فجأة وتثور زنابيرها اللاسعة فتخرج بالعشرات تدافع عن نفسها وتهاجم أصدقاءنا الأبرياء المتخندقين بإصرار في مواجهتنا. وبافتتاح هذه الجبهة الثانية المخيفة ضد خصومنا في لعبة الحرب، انهارت مقاومتهم وتشتتوا بسرعة، هاربين من ملاحقة حلفائنا الزنابير الذين لا يعرفون المزاح أو اللعب في حروبهم الحياتية. وعلى رغم اعتراف الجميع بأن الحرب خدعة، فقد اتفقنا بأن إثارة الزنابير بهذا الشكل ودفعها كي تتدخل في لعبتنا، لم يكن عملاً سليماً أو عادلاً" وهو، بالتأكيد، بعيد عن أن يكون عملاً نبيلاً. لم يُصبْ، مع ذلك، من كل تلك الملابسات غير سلمان بن سيد مكرم" فقد لدغه زنبور حقود في وجنته البضة المدورة فدوّخ رؤوسنا بصراخه بعد ذلك. كانت هذه لعبة صغيرة عابرة، نسيناها بعد حين" إذ كان بيننا، نحن المراهقين الجادين، سر معروف هو الطلوع الى رأس الجول لمكاسرة الآثوريين انطلاقاً من مقبرة الغزالي، وبذل الجهد لدحرهم واجبارهم على التراجع حتى بيوتهم. لم تكن لعبةً، بل عملاً نزقاً، تحفه المخاطر، سمعتُ بعضهم يتحدث عنه. كانت هنالك أقلية من الآشوريين - ندعوهم الاثوريين - تسكن بجوار مقبرة الغزالي في منطقة يُطلق عليها اسم كامب الأرمن، ولعلها كانت، في زمن ما أثناء الاحتلال الإنكليزي، معسكراً فبقي الإسم ملتصقاً بها حتى أيامنا تلك. المهم، ان بعض شباب باب الشيخ كان يجد متعة، في أوقات الفراغ، برمي الحجارة والحصي على بيوت هؤلاء، الأمر الذي يثيرهم ويحفزهم على الرد بالمثل، فتحدث معركة، أو ما يشبهها، تستمر ساعات وساعات، يختلط فيها الجد بالهزل وتنتج عنها أحداث مؤسفة في بعض الأوقات. كان أبناء باب الشيخ أو الشيخلية يستخدمون المعجان لقذف الأحجار من بعيد، وكان الآثوريون يستعملون المصيادة لرمي الحصى أو الصجم وهو كرات معدنية صغيرة" ومن لا يملك احدى هاتين الآلتين يستطيع أن يفيد من ذراعيه لرمي الحجارة. شاقتني هذه الحكايات وسمعت من بعض مَنْ اشترك في احدى المكسرات وصفاً لإحدى الهزائم التي أوقعوها بالأرمن وكيف أجبروهم على الدخول الى بيوتهم وكسروا زجاج النوافذ ثم تراجعوا من دون أن يصيبهم أي أذى. في المرة الأولى، كان الوقت عصراً والشمس حمراء الأشعة حزينتها. أمسكت بي رهبةٌ وأنا أسير مع الجماعة بين القبور المتهدمة، حاملاً المعجان الذي أجيد استعماله. كانت قد أمطرت في الليلة السابقة، فتندى تراب المقبرة وأخذت أقدامنا تنغرس في الطين ونحن نسير. مررنا بأرض مسورة تخلو من القبور وتكثر فيها أشجار النخيل، فقيل لي: هذا بستان جاسم بطاوية. كان الإسم مخيفاً، ملوثاً بسمعة الأجرام" فالكل يعلم بأن جاسم هذا قتل صبياً في الرابعة عشرة من عمره، حين رآه داخل بستانه، يتسلق احدى النخلات ليأكل من تمرها. برأته محكمة الجزاء لعدم توافر الأدلة على ارتكابه لجريمة، على رغم أن التقرير الطبي التشريحي أثبت وجود بقايا طلع في معدة الصبي القتيل. ابتعدنا عن ذلك البستان المشؤوم واتخذنا طريقنا عبر التل نحو كامب الأرمن. توقفنا على بعد مائة متر أو أقل وباشرنا برمي الحجارة من مجانيقنا الصغيرة" غير أننا لم نلق صدى ولم نجد أحداً يرد علينا ولا تعرفنا على هدف متحرك أو ساكن. كان عملنا مضحكاً ولا معنى له، فرجعنا بعد برهة وقد خابت آمالنا في الاشتراك بمعركة حامية. في المرة الثانية، بعد أسبوع أو عشرة أيام، كانت الحال مختلفة تماماً. كنا كثراً" فأخذنا نسير صفاً طويلاً على الحافة السفلى للتل ونطلعه ببطء واصرار. كنتُ على الجهة اليسرى من المتقدمين، أحمل سلاحي البسيط وأحدُّ البصر أمامي مركزاً على الناحية البعيدة الأخرى من التل. لم يتأخر جوابهم على تحرشاتنا طويلاً" فمع أول رشقة من الحجارة انطلقت من مجانيقنا اليدوية، تبدى لنا جمع المتحاربين الآثوريين، يتراصون أمامنا سريعاً، مسلحين بمصياداتهم الخفيفة، ويبادلوننا الحجارة بالحجارة. هتف صديقي عبد الستار من وراء أحد القبور وهو يراقب الوضع: - هذه ورطة يوم الأحد، كنت أعرفها. أولاد الزانية كلهم في بيوتهم، وسيخرجون لنا ويهلكوننا. كانت تلك نبوءة مجرب قديم" فلم تمضِ إلا نصف ساعة قصيرة حتى امتلأت جبهتهم بحاملي المصيادات يتقدمون نحونا بعزم غير متوقع، يسبقهم ذلك الحصى اللعين اللامنظور الذي يلسع الأذرع والسيقان والوجوه بلسعات قوية مؤلمة. لم يكن الأمر أنهم برزوا لنا بجماعات أكثر عدداً منا حسب، بل ان فعالية المعجان في رمي الأحجار كانت أبطأ بكثير من ضربات المصيادة السريعة المتتالية. ولذلك كان تراجعنا منطقياً" فحاولنا أن ننفذه بأقل الخسائر وبأطول وقت ممكن. كنت على جهة بمفردي، أحتمي من مقذوفات الحصى والكرات المعدنية اللامرئية بالانحناء أحياناً وبالاختباء وراء القبور أحياناً أخرى. وبين هنيهة وهنيهة، أخطف حجراً من الأرض حولي، أحشو به كفَّ المعجان وأقف أديره عدة دورات فوق رأسي ثم أفتح احدى طرفيه في اللحظة المناسبة فيندفع الحجر منه بعيداً نحو المهاجمين الآثوريين. كانت لعبة خطيرة كما نشتهيها، تجعلنا، مع دمائنا الفتية الفائرة، مشدودين بحماسة الى مدار المخاطر... تحت حافة بركان فيزوف... متمتعين بهذه الذائقة المختلفة للحياة. صرنا، بعد حين، أسفل التل، من حيث بدأنا حملتنا البائسة قبل ساعة" وكنتُ ما أزال وحدي على الجهة اليسرى. أتذكر أني وقفتُ استريح من عناء التقدم والتراجع ورمي الأحجار، حينما شقتْ سمعي صرخة صديقي عبد الستار يناديني. كان يقف على بقعة عالية من التل، على مبعدة مني. رأيته ينظر بفزع شديد نحوي ويشير الى جهة خلفي بإحدى ذراعيه إشارة لم أفهمها، فالتفتُ الى الوراء. رأيتُ المعول الكبير أول الأمر، مرفوعاً فوق رأسي، وشاهدته في هبوطه المروَّع عليَّ. بذلتُ، خلال لحظة، جهداً للتحرك بعيداً عنه، فنجحت بالكاد وتحاشيتُ سقوطه على رأسي، إلا أنه نال من طرف كتفي اليمنى، فشقَّ قماش سترتي بعنف، لكنه لم يصل الى عظامي. بعد ذلك ظهر لي الوجه الأسمر المحروق لجاسم بطاوية، وعيناه المخبولتان اللامعتان وفمه المغطى بزبد الغضب. لم يدع لي الرعب مجالاً للانتظار، فاندفعتُ - أسرع من حجر مقذوف من منجنيق الطفولة ذاك - أركض باضطراب بين القبور آناً وأقفز عليها آناً آخر، وأنا أمسك بسترتي الممزقة، مذهولاً وغير مصدق ما جرى لي. توقفت بعيداً، عند حافة المقبرة، ألهث من التعب والهلع وأتطلع الى جماعتي ينسحبون وهم يصرخون بوجه ذلك القاتل المطلق السراح ويشيرون بأيديهم مهددين. كان ينظر اليهم بحقد وهو يضع المعول على كتفه متجهاً نحو بستانه من دون اكتراث. قيل لنا إن ذلك الإنسان المستوحش كان يكره من صميم قلبه، عمليات المكاسرة هذه، مثل كرهه لمن يقترب من بستانه أو يحاول جني بعض التمر من النخيل، كما فعل الصبي القتيل. لم أعد مطلقاً الى حافة فيزوف هذه، وفضلتُ أن أمارس حياة جادة على مستوى آخر" حياة يمكنك فيها، على الأقل، أن ترى الخطر حين يقبل نحوك من بعيد" ويمكنك بالتالي أن تختار تفاديه أو... * روائي عراقي.