عام 1969 على الأرجح، وقعت في يدي، مصادفة، مجموعة قصصية صغيرة الحجم عنوانها «القاهرة» لكاتب لم أكن سمعت باسمه من قبل هو علاء الديب. في تلك الفترة، كان عمري تسعة عشر عاما وكنت غارقا في قراءات تقليدية، لذلك بدت لي تلك المجموعة عاصفة حقيقية، وأدركتُ على نحوٍ غامض، منذ القصة الأولى التي تحكي قصة رجل يقرّر ان يتحرر من كل شيء وأن يطير، أنّ ثمة كتابة أخرى، جديدة ومغايرة. لم ألتق بعلاء إلا بعد سنوات من هذه الحادثة، وتحديداً عام 1984 بعدما صدرت مجموعتي القصصية الأولى «السير في الحديقة ليلاً»، وفوجئت بأنه قرأها وكتب عنها في صفحته الأسبوعية في مجلة «صباح الخير» من دون أن يعرف أحدنا الآخر، والأهم أنها نالت إعجابه. أظنّ أن عبوره إلى الأجيال يمكن أن يكون أحد أهم ملامحه. لقد ولد عام 1939، وتسكع قليلاً وهو طالب في الجامعة بين التيارات السياسية المختلفة، كعادة شباب تلك الأيام، وارتبط بعض الوقت بتنظيم الراية الشيوعي السري، ومالبث أن أُخرج منه لأنه لم يكن ينفذّ تكليفاته الحزبية، وفق ما صرّح ساخرا في حوار مع جريدة «أخبار الأدب» قبل رحيله. وبعد تخرجه في كلية الحقوق التحق في مجلة «صباح الخير» في عصرها الذهبي في أوائل الستينات، ولحق بواحدة من أهم التجارب الصحفية العربية المتحررة والمنفتحة والمختلفة بشدة مع صحافة ذلك الزمان. وإذا كانت مجموعته القصصية الأولى «القاهرة» صدرت عام 1964، فهي تاريخياً أقرب إلى الكتابة التقليدية السائدة (ما عدا يوسف إدريس الذي يشكل عالماً وحده). لكنّ المجموعة القصصية للديب كانت استكشافاً واستشرافاً لكتابة جديدة ومختلفة، والواقع السياسي العالي الصوت والصارخ بالانتصارات والمجلجل بالأكاذيب الضخمة في ستينات القرن المنصرم، في ذروة صعود الناصرية ومجدها، لم يجد كل ذلك له مكانا في مجموعة الديب. أما الشك والتوجس والعجز والخوف والصوت البالغ الانخفاض فكانت كلها من بين ملامح تلك المجموعة، فضلاً عن اللغة الحريصة على تجاوز المجاز وألاعيب البلاغة السائدة، والابتعاد من «الحكاية» واستبدالها ب «الحالة» غير المقيّدة بالزمن أو الأحداث المتتالية. لكل هذا، فإن هناك كاتبين كانا علامة فارقة واستشرافا لكتابة الستينات التي اندفعت مثل سيلٍ لم يتوقف ربما حتى الآن، بعد كارثة 1967. سيل من المغامرات والتجديد والاقتحام والمغايرة. الكاتبان هما إدوار الخراط في مجموعته القصصية» حيطان عالية» (1959)، وعلاء الديب في مجموعته» القاهرة». «عصير الكتب» سوف أؤجل الحديث عن منجزه الإبداعي قليلاً، لأشير إلى منجز آخر لا يقل أهمية يؤكد كونه عابرا للأجيال. لقد ظل الديب لأربعة عقود متصلة يكتب باباً أسبوعياً هو «عصير الكتب». بدأه في مجلة «صباح الخير»، واصطحبه معه أينما حلّ. فعندما غادر المجلة، سواء برغبته أوبسبب منعه من الكتابة، واصل كتابته في جريدة «القاهرة» و «المصري اليوم» وغيرهما. كان يختار كل أسبوع كتاباً جديداً، وغالباً لكاتب جديد لا يعرفه على المستوى الشخصي، ويكتب عن إحدى المجموعات القصصية أو الروايات، وأحيانا كتب أخرى في السياسة أو الاقتصاد وغيرها من المعارف. أن يكتب الواحد أسبوعياً وعلى مدى أربعة عقود متواصلة عن كتاب ما، ويستطيع في الوقت ذاته أن يتجنب شبكة المصالح وتوكيلات العلاقات العامة، وأن يثق فيه القرّاء ويعتبرونه ضميراً صاحياً بسبب اختياراته المتجردة، لهو أمر بالغ الصعوبة على الأقل. لم يعن علاء بكتابة مقال نقدي صارم للمتخصصين، بل اهتم بأن يكون واضحاً يكتب مقالا سهل الاستيعاب ويتسم بالعمق في الوقت نفسه، ويعتبر أن الوصول الى القارئ العادي أمر يستحق العناء. كتب عن عشرات وعشرات الكتّاب الجدد والطليعيين، وظلّ عابراً للأجيال التي توالت خلال الفترة المذكورة. على هذا النحو كان علاء ضميراً صاحياً على الدوام. لم يهتم إلا بالكتابة ولا يحتاج إلا إليها، ولم يحصل إلا على ما يحتاجه وربما أقل مما يحتاجه. أكتب هذا بعدما شرفت بصداقته ومحبته لما يزيد عن عشرين عاما، أي أنني شاهد عيان على الحياة المتقشفة التي اختارها علاء بملء إرادته الحرة. لقد ولد وعاش ومات في البيت ذاته في ضاحية المعادي، ولم يشعر يوماً بالندم أو الظلم بسبب اختياراته. وإضافة إلى كتابته الحوار السهل الممتنع لفيلم «المومياء» الشهير الذي أخرجه شادي عبد السلام، ترجم أيضاً منذ عام 1961 عدداً من الكتب المتنوعة مثل «لعبة النهاية» لصمويل بيكيت، و «عيد متنقل» لهيمنغواي، و «الطريق إلى الفضيلة» عن فلسفة الطاو، وغيرها من الكتب المتنوعة التي اختارها بعد تفكير وتدبر وليس ترجمة عشوائية. كانت له أيضاً تجربة قصيرة جداً في السفر والعمل في الخليج بسبب ضيق الحال، لكنه لم يستمر سوى شهرين فقط وتم فصله بسبب وشاية أحد زملائه المصريين بأنه شيوعي. تلك التجربة فتحت له أفقاً جديداً ليتأمل ذلك الواقع الجديد الذي تم فرضه إبان الحقبة النفطية، وكتب كتابه المهم «وقفة قبل المنحدر... أوراق مثقف مصري». وإضافة إلى مجموعاته القصصية الأربعة التي تعد إضافة كبيرة إلى القصة العربية القصيرة، أصدر أيضاً ستّ روايات قصيرة هي على التوالي: «القاهرة»، «زهر الليمون»، «أطفال بلا دموع»، «قمر على المستنقع»، «عيون البنفسج». وعلى رغم صدور هذه الأعمال متفرقة على مدى عقود، كان علاء الديب حريصاً على ضمّها في مجلد واحد صدر عام 2012 عن مكتبة «الأسرة» في القاهرة. وربما هي المرة الأولى التي يكتب فيها مقدمة لأعماله، إذ كتب أن الروايات الثلاث الأولى «سيطرت على الأفق كله فاجعتان: الهزيمة العربية الكبرى في 1967 واندحار الاشتراكية في الداخل والخارج». ويضيف أن الروايات الثلاث التالية سيطرت عليها «تجربة الذهب الأسود، النفط الذي دخلت أمواله إلى حياتنا المصرية في وقت حرج ففعلت بها الأفاعيل». الرواية القصيرة في ظني هي إضافته الكبرى للمتن الكتابي العربي، وستة أعمال متوالية في الشكل ذاته هي اختيار وليست مصادفة.