الكتاب: صراع الممالك في التاريخ السوري القديم المؤلف: عبدالله الحلو الناشر: بيسان للنشر والتوزيع - بيروت 1999 بعد أن قضى الإنسان القسم الأعظم من حياته في أطوار التوحش والهمجية، فيما يسمى بعصور ما قبل التاريخ التي استغرقت أكثر من 99 في المئة من حياة الإنسان والتي تقدر بنحو مليوني عام، دخلت البشرية في أخطر تجربة وامتحان لا تزال تعانيهما بانتقالها الى طور الحضارة الناضجة، وقد تحقق ذلك لأول مرة في تاريخ الإنسان بانتقال الهلال الخصيب ووادي النيل من عصور ما قبل التاريخ في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد الى حياة التحضر والمدنية، بمختلف عناصر الحضارة الأساسية المميزة. وعند ذاك شرع الإنسان ينظر في هذا الكون العجيب، ويفكر في الحياة الاجتماعية الجديدة في معانيها وقيمها وموقعها منه. وأخذ يعبّر عن أفكاره وتصوراته بأساليب مختلفة. فتارة كان ينظر الى الأشياء نظرة موضوعية ليفيد من امكانات بيئتهم ويطوعها، فظهرت الممارسات والأساليب الفنية التقنية والمعارف العملية، وطوراً كان ينظر الى الأشياء نظرة خيالية أو أسطورية فيعبر عن الكون والحياة تعبيراً فنياً خلفه لنا على هيئة نتاج فني أو أدبي نسميه نحتاً أو رسماً أو قصة أو شعراً أو ملحمة. لم تتجاوز معرفة الإنسان الحديث بهذه الحقائق المدهشة في تأريخ تطور النوع الإنساني منتصف القرن الماضي، أي زهاء القرن وربع القرن، حين بدأت التنقيبات والتحريات عن بقايا المدنيات القديمة، فكان أروع اسهام للحضارة الحديثة في تقدم المعارف البشرية في الاكتشافات المهمة التي حققها علم الاثار، وأحدث انقلاباً خطيراً في معرفة الإنسان بتاريخه وتطوره في اكتشاف حضارات ومدنيات قديمة سبقت حضارتي اليونان والرومان بعشرات القرون، وغيّرت اراء مؤرخي الحضارات عن أصول التمدن البشري وجذوره. فقد كان الباحثون الغربيون يحصرونها تقريباً في تراث الحضارة اليونانية. وان الكثير من تلك الحضارات القديمة لم يكن يعرف عنها شيء حتى مجرد أسمائها. ولكن الكشف عن مخلفاتها وسعت من نظرة الإنسان الحديث الى الحياة وتطورها والمراحل التي مر بها هذا التطور. ويجمع الباحثون من مؤرخي الحضارة على أن أقدم الحضارات التي كشف عنها ذلك العلم الحديث، أي علم الآثار، هي حضارة وادي الرافدين وبلاد الشام، أو ما يعرف بمنطقة الهلال الخصيب التي نشأت وتطورت من الأدوار البدائية في عصور ما قبل التاريخ. من هذا المنطلق تأتي أهمية كتاب الدكتور عبدالله الحلو الذي نجح بواسطة المنهج العلمي الذي وضعه لإبراز تلك العلوم والمعارف في إطارها الصحيح. وكل ذلك صاغه بلغة مبسطة وسليمة، خلافاً لكثير من الكتب التي عالجت تلك المواضيع، وليتلقاها بالتالي القارىء المتخصص والعادي. وبداية، بدل أن يدخلنا المؤلف في متاهات العصور المجرية والبرونزية والحديدية وغيرها، يتناول تلك العصور ضمن مدخل عام فيقدم لنا الخطوط الكبرى لتلك العصور بشكل موجز ومبسط فيها الكثير الجديد على قارىء العربية. وتبدأ الرحلة مع نهاية الألف السابع وبداية الألف السادس حين حصل في بعض مناطق بلاد الشام وبلاد الرافدين أول تحول جذري للبشر من الحياة البدائية المعتمدة على الصيد وجمع القوت الى الحياة المستقرة القائمة على انتاج القوت بواسطة الزراعة وتدجين الحيوان. وخلال الألفين التاليين ظهرت أيضاً لأول مرة في تاريخ البشرية حياة المدن وبداية الحضارة المتطورة لنلج بعدها الى بدايات العصور السومرية. وفي هذا الصدد يقول المؤلف: "ولما كنا لا نستطيع الإحاطة بهذا التطور الطويل الأمد عبر آلاف السنين من خلال التاريخ المكتوب فإن ما أظهرته التحريات الأثرية في العديد من المواقع المهمة مثل أريحا في غور الأردن وأوغاريت على الساحل الشمالي وتل حلف وقلعة جرمو في شمالي الرافدين، اضافة الى أماكن عديدة أخرى، يسد بعض الثغرات في المعلومات عن هذه الحقب الأولى للمجتمعات المدنية". ولا بأس هنا من اضافة موقع آخر اكتشف منذ فترة ليست بعيدة ألا وهو قرية نمريك في وادي الرافدين والتي تعتبر حتى الآن أقدم قرية في العالم والتي قدمت بقايا الكثير من المعلومات عن تلك الحقبة. وفي هذه الحقبة أيضاً، أي ما بين الألفين الخامس والرابع حققت المجتمعات المستقرة خطوات مهمة في طريق التطور عندما بدأت باستخدام حيوانات النقل والجر والعربات والزوارق ودولاب الخزاف، والأهم من ذلك كله تصنيع النحاس. وكانت الروابط القبلية التي حكمت حياة التجمعات البشرية قد أخذت حينذاك بالانحلال التدريجي مع ظهور الشكل القديم للسلطة الحاكمة. كما بدأت حياة الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي للجماعات القروية بالتبدل من خلال ظهور المراحل الأولى للتجارة والنقل والحرف الاختصاصية وتوزيع الأعمال. وبمرور الوقت أخذت الأعمال في الأبنية العامة وانشاءات الري والتحصين تتطلب تنظيماً مشتركاً واسع النطاق للقوى العاملة. وهذا التطور تطلب امكانات اقتصادية كبيرة، وفي الوقت نفسه نشوء سلطة قوية بصلاحيات واسعة للإشراف عليه. وخلال القرون الأخيرة من الألف الرابع كانت قد نشأت أولى المدن الحقيقية في تاريخ البشرية وخصوصاً في وديان الأنهار وعلى ساحل البحر المتوسط. وبابتكار الكتابة وإيجاد معدن البرونز حققت هذه المدن خطوة مميزة وجذرية في الحياة البشرية اعتبرت نشأةً للحياة المتطورة. كان الشكل السياسي الذي طبع هذه الحقب القديمة هو نظام دول المدن التي كانت بمعظمها عبارة عن مدينة وما يتبعها من الأراضي والقرى. فمنذ القرون الأولى للألف الثالث وجد في بلاد الرافدين وبلاد الشام على السواء خليط كبير من هذه الكتابات السياسية المتفاوتة في أحجامها، إلا أن بعضها لم يكن بمعزل عن بعضها الآخر. فعلى الرغم من تنافسها السياسي كانت الروابط العرقية والثقافية والاقتصادية الوثيقة اضافة الى الواقع الجغرافي تجعل منها بيئة حضارية متكاملة مهدت لوضع أسس نشوء القوى السياسية الكبرى فيما بعد. وهذه ميزة أخرى من ميزات الكتاب فمعظم ما كتب حتى الآن حول تلك الحقب التاريخية، ان لم نقل كله، يتوقف عند سقوط المملكة الكلدية ودخول الفرس الى وادي الرافدين في حين أن الدكتور حلو يتابع مع مملكة ماري في حوض الفرات الأوسط ثم مع إبلا فالسيطرة اليونانية الى زمن السلوقيين فمملكة الأنباط حتى تدمر وسقوطها على يد الرومان. ونتابع مع المؤلف الذي يعتبر النصف الثاني من الألف الثالث بداية لسلسلة من الممالك الكبرى، أو الإمبراطوريات التي قامت خلال فترات مختلفة وامتد بعضها، مع سرجود الأكدي، ما بين البحر الأدنى الخليج والبحر الأعلى المتوسط حسب تسميات ذلك الزمن، أي شملت كل المنطقة المعروفة بالهلال الخصيب، لا بل تجاوزتها في بعض الأحيان، خصوصاً في العصر الأشوري فوصلت الى مصر وأرمينيا. وتلك الفترة بالذات كانت في الوقت نفسه بداية لسلسلة طويلة أيضاً من المواجهات مع قوى خارجية طبعت بطابعها كل القرون اللاحقة.