كان الرعيل الأول يربط وحدات القراءة الثلاث: وحدة الطلاقة اللغوية، ووحدة الحفظ، ووحدة الفهم الشامل، ثم يربطها بوحدة العمل الشامل. فالتلاوة الحقة هي التي تنسجم مع هذا التصور. وهذا المعنى واضح من ضرب المثل لأربعة نماذج من الذين يقرأون القرآن، فمنهم مؤمن لا يقرأ ولكنه يعمل، وهذا نموذجه التمرة الحلوة. ومنهم مؤمن يعمل ويقرأ، وهذا نموذجه الأترجة الحلوة العطرة. ومنهم فاجر لا يقرأ وهو يشبه الحنظلة المرة. ومنهم فاجر يقرأ وهو يشبه الريحانة في تأرج شذاها، ومرارة طعمها. وهذا التنبيه على الربط بين القراءة والموقف جاء في أحاديث عدة، تؤكد أن القرآن شاهد للقارئ أو عليه، شفيع يسوق إلى الجنة أو خصيم يقود إلى النار، كما في الحديث الذي صححه الألباني "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه ساقه إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار"... وهكذا فهم الرعيل الأول. أما نحن فقد حفظنا في ذاكرتنا فضل القرآن الكريم وأجره كطلاقة لغوية، وغفلنا -على مستوى الأفعال لا الأقوال، وعلى مستوى الممارسة لا المدارسة- عن تبعته ودوره، كميثاق غليظ، ففصمنا الهدف عن الوسيلة، وغفلنا عن أنه "لا يزيد الظالمين إلا خسارا"، لأنه "في أذنهم وقر وهو عليهم عمى". وغفلنا عن أنه، باعتبار هذه الوظيفة، جاءت عشرات الأحاديث التي تؤكد فضل قراءة القرآن. ومن أجل فهم الرعيل الأول هذه المعاني، بنوا حضارة عالية حققت سعادة الدنيا والآخرة، على رغم أنهم "كانوا قلة في العدد، و]في[ ضيق من الأرض، وخشونة من العيش، ونسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم، ولا محفوظة عندهم لندرتها وقلتها، ولكنه كان محفوظاً في صدورهم، محفوظاً في أخلاقهم، وأعمالهم" الصواف 26. لماذا نحفظ ولا نتقدم ؟ والمسلمون بالأمس القريب واليوم يقرأون القرآن، وهم عدد كثير، وأصوات عالية، والقراء في كل حارة، والحفاظ في كل منبر، والمصاحف والأشرطة في كل بيت ومسجد، وعلى رغم كثرة لغاتهم وبلدانهم وأقوامهم، فإنهم كغثاء السيل، عالة على المشاريع الحضارية للأمم الأخرى، وليس لهم إنجاز أو مشاركة تذكر، بل ينخر فيهم الجهل والمرض والفقر، على رغم ما لهم من ثروات طبيعية وافرة، وتنمو بينهم الأحقاد التي يرسم جزءاً من ألبومها المأساوي فنانو الأفغان والجزائر ومصر والصومال. شقاق بين المذاهب، وشقاق بين الطوائف، وشقاق بين الحكومات، وعنف وقتل ورعب وتطرف، تفضي إلى الانتحار الذاتي والحضاري، وأمراض من التواكل والخمول، وأخرى من الانبهار بحضارة الغرب وقيمه. ما سبب الأزمة إذن؟ هل الاسلام لم يعد صالحاً للحياة الحديثة؟ نحن بسلوكنا السائد في التعامل مع القرآن نقول: نعم. ولكن الله يقول: لا "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا". إذن هناك أزمة "فهم" للقرآن وليس هناك أزمة "منهج"، فالمنهج موجود، بدليل أن الرعيل الأول عرف كيف يقرأ القرآن، فأدرك وظيفته فنجح، فرفعه الله بفهم القرآن، ووضعنا بسوء فهم المنهج، القرآن لم يتغير، لا زال محفوظاً بين الدفتين في المصاحف، ولا زال محفوظا في الصدور، ولكن روحه غابت عنا. إذن نحن نعاني من غبش في رؤية وظيفة القرآن الكريم، على مستوى الثقافة الإسلامية بصورة عامة، لأن مقاصد القرآن التي أشرنا إليها. لم تكن محاولة يقفز بها الباحث فوق النص المحكم، بل هي عودة إلى الجذور، وهي واضحة في القرآن الكريم وضوح الشمس لا سحاب دونها ولا ضباب، لأن وظيفة القرآن مكررة في آيات قرآنية محكمة، عبر مئات الإشارات والمواقف، لا تحتاج إلى تحر ولا تخمين، ولا إلى شرح ولا تفصيل، لكي ترسخ في ذهن المتلقي. ثم إن وظيفة القرآن الكريم واضحة صريحة، في تطبيق الجيل الأول الذي كان قرآنا يمشي ويتحرك، لأن خلقه كان القرآن، وما وصل إليه من تقدم حضاري معنوي ومادي معاً، ثم أمامنا مقياس الصحابة رضوان الله عليهم، فما كانوا عليه فهو الأولى بالقبول، وكما قال الإمام مالك "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". ثم أمامنا دليل رابع هو واقعنا المؤسف، فنحن، على رغم كثرة قرائنا وحفاظنا ومصاحفنا، لم نتقدم قيد متر واحد. ونحن إذن قد قرأنا الحروف والألفاظ، فصرنا كالذي يشغل مضخة من دون أن تخرج ماء يسقي به شجرة الحياة. فإذا كانت الوسيلة لا تؤدي إلى الهدف، فليست هي القراءة المطلوبة في خطاب التكليف إذن، ويكون ثمة خلل ما، إما من الموّلد، وإما من المتلقي، وإما من طريقة التشغيل. وما دمنا نؤمن إيماناً راسخاً بأن الله أكمل الدين وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً حتى قيام الساعة، فليس هناك إذن خلل في المولد. وما دمنا نؤمن بأن الله لا يكلف عباده بمحال لا يمكن تحقيقه، فليس هناك إذن خلل في الإنسان المتلقي. الخلل إذن في طريقة التشغيل، هذا الخلل أدى إلى عطل في ذهن المتلقي، إذن ينبغي أن نتأمل ونتذكر. ثقافة الاسئلة لا النقول ولن نتذكر إلا بنقلة تربوية تعيد لمنهاج التعليم الديني عموماً والقرآن خصوصاً، ما فقده أثناء مروره بالأزمنة والأمكنة، والبيئات والمناخات. ومن أجل ذلك لا بد من أن نؤمن بثقافة الأسئلة، في إطار احترام النصوص القطعية، وأن نتعود على سماع الآراء التي تخالف ما ألفنا، ونبتعد عن منح آراء العلماء السابقين قداسة تغلق الأبواب عن المناقشة. نعم نستأنس بها عند الحاجة، ولكن ينبغي إخضاعها للتجريب في الميدان، لأن نظام التعليم الذي نحوطه بالاحترام مسؤول عن جانب من المأزق الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية، إن لم يكن مسؤولا عنه كله. ولا بد من فتح ملف هذا التعليم عبر التجريب، فما نفع أبقينا، وما لم يثبت نفعه شككنا فيه، حتى يتبين عبر التجربة، وإن لم نفعل ذلك فسنقول: إلى الوراء والتقهقر مرحى! وسنظل نتدحرج من سفح إلى هوة، ولا عجب أن يكون اليوم أسوأ من الأمس القريب، فسيأتي الغد أسوأ من اليوم. فليطمئن المحافظون الذين تأخذهم الرجفة من التجديد والحوار، وليدركوا أن الدعوة إلى التجديد لا تقل عن رغبتهم في خدمة الدين. ولكن المحافظين يعتقدون بأن خدمة الدين بالمحافظة على كل قديم، سواء كان من الثوابت أم من المتغيرات، والآخرون يرونها بالتجديد الذي يحافظ على الثوابت، ويحرك المتغيرات، حسب النوازل. وعسى أن يتحاور الجميع كي لا يأخذهم التعصب والتحجر بالإثم والذوبان الحضاري. والبرهان هو الفيصل بين المدعين. ومن أجل ذلك لا بد من تنشيط العقل الإسلامي ليمارس الحرية المشروعة في النظر والتأمل والبحث والتجريب والحرث والتجديد، لتفكيك التراث البشري، من أجل إدراك العلاقات، ومحاولة إعادة التركيب، على ضوء مقاصد الشريعة التي أكدت أهمية إدراك شبكة العلاقات الكلية، قبل الوقوف على الجزئيات، ولا بد من الوعي بهذه الوحدة العضوية إذن. الاجتهاد الجمعي لا الفردي إن المشكلة عويصة، لأن كثيراً من الممارسات التقليدية للدين حولت مفهوم الدين، وحورت خطابه التنويري، بصفته إشعاعاً مولداً للحيوية، إلى مولد لقابلية الاستعمار. ومن هنا تأتي مشروعية التفكيك ومحاولة التركيب، وغسل الجراح قبل الضماد. وقد لا تكون المحاولات أجوبة شافية كافية، لكن محاولة تصوير المشكلة تصويراً صحيحاً خطوة نحو الحل، وتطارح الأسئلة مشروع جيد، يوصل إلى اقتراح الأجوبة. ولأن محاولة الصواب جزء من الصواب، فالذي يحفر الأرض بحثاً عن الماء، ثم يتوقف عجزاً أو كسلاً أو يأساً، يمهد بتجربته لمن يكمل الحفر حتى يخرج الماء. ولذلك حث الإسلام على الاجتهاد في المنطقة الفارغة من النصوص، أو التي بدا فيها التعارض بين النصوص. ومحاولة الاجتهاد تعني إمكانية الصواب والخطأ معاً. والاجتهاد في الأمور الجلى ينبغي أن يكون جماعيا، مجموعة من الأشخاص، ومجموعة من التخصصات، تتواصل بجهودها حتى تصل إلى الحل الأمثل، لأن رؤية الجسم المتعدد الأبعاد والزوايا، لا تمكن إلا بإحاطته من الجهات الست، وذلك يدعو إلى أن تحدق فيه أكثر من عشر عيون... وإذا لم يحصل صار إدراكنا للأمور كإدراك العميان للفيل الهندي، حيث لمس كل واحد منهم عضوا ، ثم تصوره بحسب خلفيته الثقافية. ومن هنا تأتي مشروعية التفكير بصوت عال، والتواصل في البحث والنقاش، فليس الحل درساً تلقينيا في صف يلقيه عالم على طلاب جهلة، بل هو محاولة للفهم والتفهيم معاً، والإنارة والاستنارة معاً، والتأثر والتأثير معاً، والتعلم والتعليم معاً. وبذلك تتواصل العقول عبر التجربة والتحاور، والخطأ والصواب، وتنمو الأذهان، ثم تتبلور إلى حركة تفكير ناضج مستنير منير. * أكاديمي سعودي.