عيد الفطر السعيد هو أول عيدي المسلمين، اللذين يحتفلون بهما في كل سنة هجرية. ويسمى هذا العيد في بعض الأقطار الاسلامية "العيد الصغير"، لأن عدد الأيام التي يحتفل المسلمون به خلالها أقل من أيام "العيد الكبير" الذي هو "عيد الأضحى المبارك"، أما المناسبات الأخرى التي يشهدها المسلمون خلال العام، فهي مجرد مناسبات لا أكثر ولا أقل. وكما هو واضح في التسمية فإن عيد الفطر انما هو للصائمين. والصوم، خلاف الفطر، وفي الحديث الشريف: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". وقد أجمع العلماء على أن فرحة الصائم بفطره، انما سببها تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها. وأما فرحته عند لقاء ربه، فبما يراه من جزائه، وحلول نعمته ورحمته تعالى عليه، وذلك انطلاقاً من قول سبحانه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به". ونظر الحسن البصري الى قوم منصرفين من صلاة الفطر يتدافعون ويتضاحكون فقال: "الله المستعان! ان كان هؤلاء قد تقرر عندهم أن صومهم قد تقبل، فما هذا محل الشاكرين، وان علموا أنه لم يتقبل، فما هذا محل الخائبين". وقبل أن نتكلم عن أجواء العيد وبهجته، وما للناس فيه من فنون ومذاهب، نشير الى تلك القيمة الروحية والمادية التي يمثلها الاستعداد للعيد والاحتفال به، من خلال واجب ديني لا يكتمل الصيام من دون تأديته، ألا وهو "زكاة الفطر"، وهي غير الزكاة العادية المعلومة، المفروضة على الأموال. فزكاة الفطر، أو الفطرة، واجبة على الأبدان، يدفعها كل رب عائلة مقتدر عن كل فرد من أفراد أسرته ممن يجب الانفاق عليهم، بل يجب الدفع عن الضيف إذا كان في ضيافة رب الأسرة أيضاً، وقت الغروب من ليلة عيد الفطر، مسلماً كان الضيف أو غير مسلم. ومقدار الفطرة صاع من حنطة أو تمر أو شعير أو زبيب أو ذرة أو نحو ذلك، أي ما يعادل أربعة كيلوغرامات مع جبر الوزن، ويجوز في "زكاة الفطر" دفع القيمة، وهو أفضل من دفع العين، لما في ذلك من اصلاح لشؤون المستحقين بصورة أفضل. وفي دفع هذه الزكاة قبل العيد عند الغروب من ليلة عيد الفطر، أو قبل خروج الناس صباحاً الى صلاة العيد، ثم في استحباب تقديمها للمستحقين من ذوي القُربى أولاً، ثم للجيران، ثم للأبعدين من أهل الحي أو القرية من المستحقين، معانٍ سامية مميزة في التكافل الاجتماعي والانساني، وفي توثيق صلة القربى، وتمتين التواصل الأسري والبشري، فضلاً عن إشراك هؤلاء المعدمين ممن حرموا لذيذ العيش، في بهجة العيد وأفراحه، ولو بهذا المبلغ البسيط الذي تمثله "زكاة الفطر". ودرج - منذ القديم وحتى اليوم - كثير من أغنياء المسلمين، في اقطارهم المتعددة، على اقامة الولائم الكبيرة للفقراء والمعوزين، بمناسبة العيد السعيد حيث يوزعون عليهم أيضاً الثياب والصدقات النقدية. بل لقد ذهب بعضهم الى أن جعل لدار الضيافة باباً مفتوحاً على الطريق، لتمكين من أراد من العابرين من الدخول الى تلك الموائد من غير استئذان فيما أهل الدار يتسابقون في تكريمهم والترحيب بهم... هذا الى جانب الولائم والدعوات التي تتم بين الأهل والأقارب والأصدقاء، وهي أكثر من أن يحصيها عدد، أو يحيط بها وصف. وما دمنا في الحديث عن الولائم والمآدب، فلا بد من ذكر نوع من الحلويات ارتبط اسمه بالعيد ارتباطاً وثيقاً: ألا وهو "كعك العيد". ففضلاً عن حلويات العيد الأخرى، التي هي امتداد للحلويات الرمضانية كالقطائف والكنافة، اللتين يصفهما سعد الدين بن عربي بقوله: وقطائف مقرونة بكنافة من فوقهن السكر المذرور هاتيك تطربني بنظم رائق ويروقني من هذه المنثور... اختص العيد بنوع من الكعك، سهل التداول، لذيذ الطعم، شهي الرائحة، جميل الشكل، في اخراجه فن وصنعة. وقد بديء بصنع هذا الكعك في مصر، في أيام الدولة الفاطمية، التي نال مطبخها شهرة واسعة. ويبدو أن "كعك العيد" نال عناية خاصة من "الوقفيات" التي نصت على توزيعه في عيد الفطر على الفقراء واليتامى، صدقة ينعم بها الصغير والكبير. ونصت وقفية الأميرة "تتر" الحجازية على توزيع الكعك الناعم والخشن على موظفي مدرستها التي انشأتها سنة 748ه. ولشهرة هذا النوع من "الكعك" ورواجه خلال القرون المتعاقبة، تفنن الناس في صناعته واخراجه على أبهى شكل، فصنعوا له القوالب الخاصة المنقوشة بالزخارف الجميلة والعبارات الطريفة، ولا تزال مجموعة من هذه القوالب في متحف الفن الاسلامي في مصر، وقد كتب على بعضها: "كُلْ وأشكُر"، أو "بالشكر يدوم النعم" وغير ذلك. أما في أيامنا هذه، فإن لكل منزل من منازل المسلمين في صناعته بدعة، هذا الى جانب الحوانيت المختصة، التي تتنافس في عرض ابتكاراتها منه، بأساليب جذابة مغرية. والعيد، وعلى رغم قداسته وابتهاج المسلمين فيه، لا يكون عيداً بالفعل ما لم يصبغ عليه الصغار تلك النكهة الخاصة: فيلبسون الثياب الجديدة، وتزيّن أكفهم بالحناء، ويذهبون بصحبة ذويهم أو أقاربهم وأصدقائهم، الى الأماكن العامة، حيث مظاهر الاحتفالات والألعاب، التي أقيمت في كل ركن وزاوية. ولا تسل عن فرحتهم وهم يتراكضون ويتصايحون في الشوارع والساحات، أو وهم يتفاخرون ويتمايزون بأثوابهم الجميلة، أو بما حوته جيوبهم من قطع الحلوى، أو من نقود حصلوا عليها "عيدية" من الأهل والأقارب. وكما كان العيد عند بعض الشعراء، مناسبة للتفكُّه والمداعبة، فإنه كان عند البعض الآخر مناسبة سعيدة للتهنئة بحلوله، أو معبراً من خلال ذلك للوصول أو الوصول أو التواصل، ومن ذلك مدح البحتري للمتوكل وتهنئته له بالعيد: بالبرِّ صُمتَ، وأنت أفضل صائم وبسُنَّة الله الرّضيَّة تُفطرُ فأنعم بيوم الفطر عيناً، انه يوم أغرُّ من الزمان مُشهَّرُ... وقال ابن الخياط الدمشقي يمدح شرف الملك ويهنيه بعيد الفطر سنة 482ه: لنا كل يوم هناء جديد وعيد محاسنُه لا تبيدُ.. فأعيادنا ما لها مشبه وأفراحُنا، ما عليها مزيد وكيف يقوَّض عنا السرور وأنت اذا ما أنقضى العيد، عيد؟.. وكذلك قول ابن حيّوس مهنئاً أمير الجيوش أونشتكين الدزبري، بالعيد: وليهنِكَ العيد السعيد مضاعفاً لك أجر من صلّى وصامَ وأحرما.. ... نعم، انه العيد، بهجة الصغار، ونادي الصالحين والأخيار، فأجعله اللهم في كل دار.