تثير مناقشة مفهوم الحوار الجغرافي في تحليل العلاقات الدولية والنظم الاقليمية أسئلة عدة، مثل: ماذا يقصد بمفهوم الجوار؟ وما هو معيار تحديد الجوار، هل يكون المعيار الجغرافي وحسب. أم معيار حجم وكثافة التفاعلات بين الفاعلين الدوليين بغض النظر عن المسافة الجغرافية التي تفصل بينهم؟ وما هي المداخل النظرية لتحليل العلاقة بين دول الجوار؟ ويطرح، في هذا الصدد، قضايا مثل: توازن القوى، والصراع والتعاون الدولي. ثم ما هو شكل الجوار وإطاره، لأن الجوار قد يتمثل في دولة، أو في مجموعة دول، وقد يتمثل في نظام إقليمي له خصائصه المتميزة؟ إن التعامل مع هذه المواضيع يتطلب مناقشة أربع قضايا تتمثل في: التأصيل اللغوي والاصطلاحي للمفهوم، وتحليل الجوار الجغرافي من منظور دولة ما، ثم تعريف الجوار بين المفهوم الجغرافي والمفهوم التفاعلي. أما من الناحية اللغوية، فتشير المعاجم الى مفهوم الجوار بمعنى القرب المكاني، بما يتضمنه ذلك من صلات وروابط. ففي اللغة العربية فإن الجار هو المجاور، وفي اللغة جاوره - مجاورة وجواراً. والإجارة هي الغوث والنجدة .وفي اللغة الانكليزية neighbouring بمعنى المجاورة أو المتاخمة، وتشير الى الشيء القريب قرباً مادياً في المكان، أو قرباً معنويا، او تشير الى العلاقة او الرابطة التي تشمل معاني: الود، والصداقة، والألفة، والمحبة، والتعاون والمساعدة، كخصائص متوقعة من الجار. وفي اللغة الفرنسية فإن voisinageتعني قرب مكان السكن، وتشير الى قوة الروابط والصلات بين الجيران، وهكذا، فان مفهوم الجوار، من الناحية اللغوية، يشتمل على معنيين هما: المتاخمة المكانية من ناحية، والروابط والوشائح المترتبة على ذلك من ناحية اخرى. وبحكم ارتباط مفهوم الجوار بالمكان، فقد ظهر المفهوم في اطار علم الجغرافيا السياسية، الذي يهتم بدراسة تأثير العوامل الجغرافية على الاوضاع السياسية في مجتمع ما أو دولة ما. ونجد جذور هذا المفهوم لدى عدد من المفكرين السياسيين الذين قاموا بتفسير بعض الظواهر السياسية اعتماداً على الخصائص الجغرافية للدول، مثل: ارسطو، وجان بودان، ومونتسكيو وكارل ماركس، وارنولد توينبي، وعلى سبيل المثال، تحدث مونتسكيو عن الاثر النفسي لوجود حواجز طبيعية فاصلة على الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما، من ذلك مثلا، ميل أهل الجزر للحرية وقدرتهم على الحفاظ على تقاليدهم، بحكم قلة الاتصال بالعالم الخارجي. وهناك اتفاق على ان المفكر الالماني راتزل هو مؤسس علم الجغرافيا السياسية، وهو الذي كتب في نهاية القرن التاسع عشر عن الدولة، باعتبارها كائناً عضوياً له الحق في رقعة جغرافية مناسبة، تكون بمثابة "منطقة البقاء" له، وكان هذا هو الاساس النظري الذي اقامت عليه النازية فكرة المجال الحيوي للدولة، وتوالت اسهامات: ماكندر البريطاني، وماهان الاميركي في مجال تأثير الوضع الجغرافي على الدولة، وتبني عدد من انصار المدرسة الواقعية في تحليل العلاقات الدولية مدخل الجغرافيا السياسية في تفسير السياسة الخارجية للدولة، مثل: مورغنثاو، وسبيكمان وسبراوت. وعموماً فقد تناولت هذه الآراء تأثير الموقع الجغرافي، والخصائص الطبوغرافية للدولة، وجهات سياستها الخارجية، وقام آخرون بتحديد المناطق السياسية الحيوية للدولة التي تمس امنها على اساس جغرافي، ولا يهمنا في هذا المجال مناقشة افتراضات مدرسة الجغرافيا السياسية، وخصوصا في شكلها المتطرف المنطلق من مبدأ "الحتمية الجغرافية" أو مناقشة النتائج المترتبة عليها، والتي تضمنت لدى البعض حق كل دولة في حدود طبيعية تحقق امنها، وهو ما قدم تبريراً فكرياً للنزعات التوسعية القومية، وإنما ما يهمنا، هو ان موقع الدولة الجغرافي هو احد عناصر وجود الدولة، فهو الذي يحدد مجال اقليم الدولة واختصاصها القانوني والسياسي، كما انه هو الذي يحدد دول الجوار التي تقع على حدودها، وهكذا فإن علاقات الجوار تدور في إطار المعطيات المادية التي يفرضها الموقع الجغرافي، والتي لا سبيل الى تغييرها. واختلف الدارسون حول تأثير الجوار على شكل العلاقات بين الدول، فهناك من رأى ان الجوار الجغرافي يضع الاساس لعلاقات التنافس والصراع، بينما كان هناك من رأى ان الجوار يمكن ان يؤدي الى التعاون، ومن انصار الرأي الاول الفيلسوف الهندي كاتيليا، الذي كتب في القرن الرابع الميلادي "ان نقاط الخلاف تزداد بين الدول المتجاورة التي تصبح بالتالي اعداءً طبيعين" وكذلك فريدريك شومان، الذي رأى ان كل دولة هي عدو محتمل لجيرانها وحليف محتمل لجيران جيرانها، وينهض هذا الرأي على اساس ان الجوار يؤدي الى تنافس بين الدول المتجاورة في شأن السيطرة على مناطق الحدود، وانه كلما طالت الحدود الجغرافية بين الدول، وزادت كثافة السكان في المناطق الحدودية، زاد احتمال دخولها في صراعات مع بعضها البعض. وهكذا، فإن الجوار الجغرافي، طبقا لأنصار هذا الرأي، يوجد مصادر محتملة للصراع بين الدول، نتيجة الاختلاف على تخطيط الحدود، او بسبب اكتشاف ثروات طبيعية في المناطق الحدودية، او بسبب التواصل البشري وانتقال السكان عبر الحدود، ويزداد هذا الاحتمال عندما يكون الجوار الجغرافي بين دول متفاوتة في القوة، على نحو يغري الدولة القوية بمحاولة السيطرة على الدول الاقل قوة بدعوى انشاء مناطق عازلة او آمنة، أما وجهة النظر الثانية، فترى ان الجوار الجغرافي يمكن ان يمثل اساساً للتعاون والتكامل بين الدول. والحقيقية، انه لا يمكن اقامة علاقة خطية او مباشرة بين الجوار الجغرافي بين الدول من ناحية، وعلاقات الصراع او التعاون بينها من ناحية اخرى، ذلك ان هناك عدداً من المتغيرات الوسيطة التي تحدد شكل هذه العلاقات، مثل: توازن القوى بين الاطراف، وطبيعة نظم الحكم فيها، وشكل التوجهات الخارجية والتحالفات الدولية لها. كما أن هذه العلاقات تتأثر بالميراث التاريخي لعملية تكوُّن الدول وبطريقة ترسيم الحدود فيما بينها، وما اذا كانت هناك ثروات طبيعية في المناطق الحدودية أم لا، وطبيعة التواصل البشري والثقافي بين السكان المقيمين على جانبي الحدود. ويمكن تحليل الجوار الجغرافي لدولة ما على مستويين: أولهما، الجوار الجغرافي بمعنى الدولة أو الدول التي تقع على حدود الدولة مباشرة، وثانيهما، الجوار الجغرافي بمعنى النظام الاقليمي المجاور للدولة والتي تقع هي على هامشه. أما بالنسبة الى مفهوم الجوار الجغرافي على المستوى الاول، اي بمعنى الدولة، فإنه يثير قضية الحدود السياسية بين الدول، وعما إذا كانت حدوداً طبيعية أم اصطناعية، تاريخية وقديمة أم تم ترسيمها حديثاً، متفقاً عليها أم محل خلاف، كما تثير قضية الحدود مدى تطابقها او تقاطعها مع التوزيع السكاني للبشر القاطنين على جانبيها، وخصائصهم القومية والثقافية. وارتبط تبلور مفهوم الحدود، من الناحية القانونية والسياسية، ببروز مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، فالحدود هي التي تحدد الناطق الاقليمي لاختصاص دولة من الدول، وهي المجال الذي تبسط فيه الدولة سيادتها وسلطانها وتطبق فيه قوانينها على كل الاشخاص الموجودين فيها. والحدود السياسية هي النقطة التي تنتهي عندها سيادة دولة ما وتبدأ بعدها سيادة دولة اخرى، او بعبارة اخرى، هي الخط الفاصل بين دولتين، حيث ينتهي الاختصاص الاقليمي لإحداهما ويبدأ للاخرى. ويمكن درس الحدود السياسية وفقاً للحدود نفسها طبيعية أم اصطناعية، او وفقا لعدد دول الجوار. أما الحدود الطبيعية، فهي تلك التي تتفق في مسارها وتحديدها مع بعض المظاهر الطبيعية: كالجبال، والانهار والبحار، والمستنقعات، والغابات والصحارى غير المأهولة، وفي مثل هذه الحال، نكون ازاء علاقة جوار غير مباشرة، بمعنى وجود منطقة طبيعية عازلة تفصل بين الدول وعادة ما يشار الى ان هذا النوع من الحدود يوفر للدولة شعوراً بالحماية الطبيعية. وتعتبر الدولة التي تتكون من مجموعة من الجزر، كالمملكة المتحدة واليابان واندونيسيا والمالديف، امثلة على الدول التي لا تتمتع بجوار مباشر، وإن كان التأثير السياسي لهذا الموقع قد اختلف من دولة لأخرى باختلاف قوتها النسبية، وفي حال الدولة القوية، كالمملكة المتحدة في القرن التاسع عشر، فقد كان موقعها دافعاً لتكوين قوة بحرية ضخمة. أما عندما تكون قوة الدولة محدودة فإن موقعها الجزري قد يغري دولة اكبر بالسيطرة عليها، لاسغلال موقعها الاستراتيجي او مواردها الاقتصادية. ومن امثلة الحدود الطبيعية في المنطقة، حال الحدود بين العراقوايران، حيث يفصلهما شط العرب، والذي كان محلاً للخلاف لمدة طويلة، او حال الحدود بين ايران ودول الخليج العربي والتي يثار بخصوصها النزاع بين ايران ودولة الامارات العربية المتحدة حول ملكية عدد من الجزر، ومثل نموذج الحدود الشرقية في مصر والسودان حيث يفصلهما البحر الاحمر عن المملكة السعودية، أما الحدود الاصطناعية فهي التي تتم وفقاً لاتفاقات سياسية او لظروف تاريخية، او تبعاً لخطوط الطول والعرض، ولا تأخذ في اعتبارها التقسيمات البشرية او طبيعة التوزيع السكاني، ما يجعل الجماعة البشرية نفسها او الشعب مجزأ بين اكثر من دولة، ومن امثلة ذلك، انقسام الاكراد على جوانب الحدود المشتركة بين العراق وسورية وايران وتركيا، او نموذج انقسام النوبة بين مصر والسودان. ونظراً لان الحدود الاصطناعية عادة ما تعكس الظروف والاحداث التاريخية التي مرت بها الدول والمناطق المختلفة، فإنها تكون مصدراً للنزاع، وتكفي الاشارة، في هذا المجال، الى سلسلة النزاعات الحدودية التي شهدتها المنطقة العربية، مثل "النزاع الجزائري- المغربي، والنزاع الليبي- التشادي، والنزاع المصري- السوداني، والنزاع القطري- البحريني، والنزاع السعودي- اليمني، هذا اضافة الى ما تثيره الحلول من خلافات. * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.