في يوم، في شهر، في سنة، في عقد، في قرن تهدأ جراح الناس وتنام... وعمر جرح العرب أطول من الأيام، بالإذن من اغنية عبدالحليم حافظ الشهيرة والمأخوذة اصلاً من عنوان رواية للكاتبة الفرنسية فرانسواز سيغان. ولا مانع من التعريب، حتى قبل عصر العولمة ما دمنا نعتمد في كل شيء على الآخرين ونستورد من الخارج ما نحتاج اليه من الابرة حتى المصنع ومن الزبدة حتى المدفع ومن البوصلة حتى سجادة الصلاة ومعها "الشماغ" العربي الأصيل! تذكرت هذا المقطع من اغنية العندليب الراحل بعد أن ودّعنا عاماً حافلاً بالهموم والمشاكل واستقبلنا عاماً جديداً هو الاخير في عقد التسعينات الذي هو بدوره الاخير في عقود القرن العشرين. والذكرى ليست للبكاء على الاطلال وإقامة مجالس العزاء والحزن بل لممارسة حق التساؤل والأمل ورفع الصوت عالياً لعل البسمة تعود الى شفاهنا والضحكة البريئة تزور اطفالنا ولو مرة في السنة بعد غياب طويل. التساؤل عن سبب استمرار الاحزان العربية ومعها الهموم والشؤون والشجون والآلام والجراح والخلافات والهزائم والانتكاسات والتراجع في جميع المجالات ومناحي الحياة العامة والخاصة. وعن الأوضاع الراهنة ومتى تنتهي لنبدأ عهداً جديداً يعيد للعربي ابتسامته وكرامته وحريته ورفاهيته وحقوقه ومكتسباته، وينفض عنه غبار المآسي والنكبات وعذابات الفرقة والخلافات والحروب والازمات. والأمل بأن نودع مع هذا العام المنصرم هذه الهموم والاحزان ونستقبل فجر عهد جديد لا بقيمته الزمنية وأيامه ولياليه وأحداثه، بل بالمعنى الشامل للكلمة تنطلق فيه امتنا الى رحاب التقدم والعزة والقوة وتستعيد امجاد حضارتها الغابرة التي تعرضت لمعاول الهدم والتشويه من قبل الابناء قبل الغرباء والاصدقاء قبل الأعداء... وكلهم في الاساءة اليها سواء. ومع اطلالة فجر العام الجديد، ونحن في شهر رمضان المبارك، يحلم كل انسان عربي بغد أفضل ومستقبل زاهر لا حروب فيه ولا خلافات ولا شروخ ولا انتهاكات لحقوق الانسان، ولا اهانات من اجل لقمة العيش ولا جوع ولا حرمان ولا غلاء ولا فساد ولا عنف فيه ولا ارهاب ولا تسلط ولا اضطهاد. نتمنى ونحن على عتبة فجر جديد ان يسارع حكماء العرب، او من بقي منهم، الى العمل على رأب الصدع وإعادة ترتيب البيت وتوحيد الصف وتحقيق التضامن والتكامل والتكافل حتى نطمئن الى حاضرنا ومستقبلنا ونتمكن من الوقوف في وجه الهجمة الشرسة الرامية الى طمس هويتنا وحضارتنا العربية والاسلامية، تحت راية العولمة والغزو الثقافي والهيمنة الصهيونية الكاملة على مقاليد العالم السياسية والاقتصادية والمالية والاعلامية. نتمنى ونحن نستقبل تباشير فجر جديد ان يتحد العرب ويتخذوا موقفاً موحداً في وجه اسرائيل لاجبارها على اعادة الأراضي والحقوق العربية الى اصحابها الشرعيين. ونتمنى ان يستعيد العرب امجاد صلاح الدين بتحرير القدس وانقاذ المقدسات من براثن الاحتلال الصهيوني الأثيم. فكفانا هواناً وسكوتاً، وكفانا خوفاً وقلقاً وحزناً... فنحن نستحق الفرح والراحة والاستقرار، وأطفالنا يستحقون اعادة البسمة المسروقة الى شفاههم، ويستحقون السلام الحقيقي الذي لا ظلم فيه ولا اجحاف. ففي مثل لمح البصر تمضي السنون وتهرول وتدخل في سباق جنوني مع اعمارنا... وآمالنا. كأن دولاب الزمن قد ضاعف من سرعته، او اننا، كعرب، نتخيل ذلك لأننا ما زلنا متوقفين في محطة الانتظار، لا نتقدم، وكل من لا يتقدم يتأخر كما علمتنا التجارب. متغيرات كبرى يشهدها العالم، وتطورات خطيرة تجري من حولنا، ومعظمها يتعلق بحاضر العرب ومستقبلهم ومصير اجيالهم ووجودهم ولكنهم بكل أسف لا يتفاعلون او يتعاملون معها بجدية وجرأة وإقدام، او يتباطأون في فهم ابعادها وكيفية مواجهتها في استمرارية عبثية لسياسة ردود الأفعال بدلاً من الافعال ولعب دور "المفعول به" بدلاً من "الفاعل"! فمن يصدق اننا كنا نتحدث ونكتب ونحلل بالأمس، وكأنه الأمس القريب، صبيحة اليوم الأول من عام 1990 عن التسعينات وما ستحمله الينا من احداث وما يجب ان يفعله العرب لمواجهتها والتعامل معها والمسارعة الى اعادة ترتيب البيت من الداخل، لمواكبة روح العصر وقطع تذكرة او حجز موقع أو مقعد في رحاب النظام العالمي الجديد والاستعداد لاستقبال القرن الحادي والعشرين باستراتيجية جديدة وأسلوب مختلف وعقلية نيرة متيقظة. وهذه الأيام نستقبل اطلالة اول يوم من عام جديد هو الاخير في عقد التسعينات، وفي القرن العشرين، ويمكن القول انه حمل في كل يوم من ايامه زلزالاً خطيراً احدث تحولاً في مسيرة العالم وانتكاسة في مسيرة العرب، بكل أسف. وقد يقول قائل: ما الفرق بين يوم جديد او عام جديد او عقد او قرن، فالأيام تدور والحياة تسير بايقاع واحد، ولكن علينا ان لا ننسى ان العالم يتغير من حولنا بكل مفاهيمه وأسلوبه وممارساته وعلومه واستراتيجياته، بشكل يؤثر مباشرة لا على اوطاننا وأوضاعنا العامة فحسب بل على كل شأن من شؤون حياتنا اليومية، كما انه علينا ان نعرف ان الوقت كالسيف ان لم نقطعه بالعمل والجد والمثابرة والجهد الايجابي بالطبع قطعنا! خلال عقد التسعينات انقلب العالم رأساً على عقب، انتهت الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهار المعسكر الاشتراكي وهُدم حائط برلين واتحدت اوروبا وأعلنت عملتها الموحدة "اليورو" في مطلع العام وهيمنت أميركا على مقاليد العالم، وصعدت النمور الآسيوية ثم انهارت أو "حُجمت" وأعادت الصين النظر في سياساتها لتواكب روح العصر والانفتاح بعد استعادة هونغ كونغ، وقامت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والانترنت والبث التلفزيوني المباشر عبر الاقمار الصناعية وتحول العالم الى قرية صغيرة وقامت منظمة التجارة الحرة، ودخلت الهند وباكستان النادي النووي وبدأت ايران مسيرة الانفتاح. في المقابل، وفي ديارنا العربية العامرة، استمرت الخلافات ووقع المحظور الذي هدم الآمال العربية من خلال الغزو العراقي للكويت عام 1990 الذي تسبب في استنزاف الثروات العربية وإحداث شرخ في الجسد العربي لم يتم حتى يومنا هذا ردمه او تضييقه. ودخل العرب في مسيرة سلام بموقف موحد وصف واحد وخرجوا متفرقين وباتفاقات منفردة وتنازلات زادت من طمع الذئب الصهيوني الذي ماطل وراوغ وتعنت بعد قدوم نتنياهو وليكوده، ليفرغ السلام من محتواه ومبناه ومعناه فيما يتلهى العرب بالخلافات وتضميد الجراح ومواجهة مصاعب اقتصادية وتنموية وأعمال عنف وتطرف وارهاب. فهل من امل او مخرج ونحن نستقبل عاماً جديداً ونستعد لوداع عقد وقرن؟! نتمنى ذلك من صميم قلوبنا حتى نتبادل التهاني ونقول لبعضنا بعضاً: كل عام وأنتم بخير، خصوصاً اذا تحقق الأمل وسقط بنيامين نتانياهو وعهره وعهده المشؤوم وتياره المتطرف في الانتخابات المقبلة، بعد ان حاول نسف حلم السلام والامعان في إذلال العرب والفلسطينيين. فاذا كان عام 1998 هو عام العواصف والانتكاسات والجمود و"تجميد" مسيرة السلام، فان هذا العام 1999 بدأ ساخناً منذ يومه الأول وحاملاً بذور ارهاصات كبرى ان على صعيد مسيرة السلام في ضوء نتائج الانتخابات المرتقبة، او على صعيد حسم مسائل كثيرة معلقة مثل المسألة العراقية، ومصير الرئيس كلينتون، والاوضاع الاقتصادية في ظل انهيار اسعار النفط وعشرات المسائل العربية الاخرى التي تظللها معادلة سحرية من التساؤلات... والآمال! * كاتب وصحافي عربي.