في مطلع الستينات قام الجنرال ديغول بإدخال اصلاح جذري على الفرنك الفرنسي حاذفاً صفرين منه. أربعة عقود تقريباً مضت وما زالت شرائح عديدة من الشعب الفرنسي خاصة من المسنين أو من قاطني الأرياف تتكلم عن الفرنك القديم ثم تتدارك، فتذكر الفرنك الجديد الذي لم يعد جديداً سوى في أذهانهم. أحد أسباب تعلق الفرنسيين بفرنكهم القديم هو الشعور بالمزيد من الثراء معه: صفران على يمين المبلغ الذي يملكونه يجعلان من غالبيتهم أصحاب ملايين. والسبب الثاني يعود الى غياب وسائل الاعلام وقتذاك عن تهيئة الجمهور للعملة الجديدة. قدوم اليورو الى احدى عشرة دولة أوروبية لاغياً عملات يعود تاريخها احياناً الى قرون، جرى وسط تحضير وتعبئة اعلاميين واسعي النطاق. وإذا كان القطاع العام في وسائل الاعلام السمعية - المرئية الأوروبية هو الذي بدأ بث اعلاناته عن اليورو منذ تشرين الثاني نوفمبر الماضي، فإن باقي المحطات الخاصة لم يتأخر في الركض وراء قطار اليورو، بعد ان اظهر مختلف الاستقصاءات ان الموضوع يهم الجمهور رغم صعوبته الفنية. فعلى سبيل المثال، اظهرت الدراسات في فرنسا ان افلام اليورو الدعائية التي بثت على شاشة التلفزيون في الشهرين الأخيرين شاهدها حوالي أربعين مليون شخص، وان ثلاثين مليون مشاهد رأوا على الأقل فيلماً واحداً. هذه الأفلام جرى تحضيرها بإيعاز من وزير الاقتصاد، وهو ما لا يمكن تصوره علناً بالنسبة الى موضوع اخر في فرنسا الحريصة على استقلالية اعلامها السمعي - المرئي. أما سيناريو الافلام فاستوحى من تساؤلات ارسلها الجمهور عبر التلفون أو شبكة انترنت. أفلام "كرتون" مدتها لا تتجاوز الدقيقة وكانت تبث مرتين في اليوم على محطتي التلفزيون الفرنسية العامة لتحضير المشاهدين لمرحلة اليورو، وتغيير صورة وليد بروكسيل الذي غدا في السنوات الأخيرة مرادفاً في أذهان الناس للبيروقراطية. إذن عوضاً عن إظهار تكنوقراطيي بروكسيل وهم يتدارسون مصاعب اليورو، غدت عدسات التلفزيون تسأل الجمهور، وبائعات المحلات الغذائية الكبرى، وأرباب عمل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتطمئن الجمهور التقليدي الى انه بتغيير عملته لن يخسر هويته. النقاش السياسي اليورو خطوة على طريق الوحدة السياسية الأوروبية أو النقاش الاقتصادي كيف يمكن لدولة أوروبية تعديل مسارها الاقتصادي في ظل اليورو؟ غابا تماماً عن التلفزيون، كما غاب أعداء العملة الجديدة أو المشككون بها. وبما ان قيمة اليورو اكثر ارتفاعاً من قيمة معظم العملات الأوروبية، فلم تكن الأمثلة المعطاة للجمهور تدور حول معاشاتهم وقد تحولت الى اليورو، بل حول فواتير استهلاكهم باليورو، مظهرة بذلك عبر مخاطبة لاوعي المشاهد ان رقم ما سينفقه بالعملة الجديدة أقل من رقم انفاقه الحالي. ورغم خوف الصحافة المطبوعة من ان موضوع اليورو قد استهلكه التلفزيون تجرأ عدد من الصحف لوموند عشية رأس السنة على وضع اليورو في عنوانها الرئيسي كما قامت معظم الصحف بإصدار ملاحق خاصة معظمها ريبورتاجات تفسيرية عما سيتغير في الحياة اليومية مع اشارات تدعو الى التفاؤل صحيفة "فرانس سوار" التعبوية عنونت صفحتها الأولى "يوم العز قد وصل". مجلة "الايكونوميست" البريطانية عنونت ملفها:"مغامرة اليورو ابتدأت أخيراً...". الصحافة العربية اخذت تتكلم عن تحويل قسم من ودائع المصارف العربية من الدولار الى اليورو. كوبا أعلنت أنها ستعتمد اليورو في عملياتها الدولية. صحافة جنوب شرق آسيا أخذت تحلم بعملة آسيوية مشتركة، اذ، حسب صحيفة "لوسوار" البلجيكية، آن الآوان للنمور التي خسرت أسنانها وللتنانين التي بدأت تلهث ان تتحد، فبانكوك ومانيلا لا تبعد واحدتهما عن الأخرى أكثر مما تبعد ليشبونة عن هلسنكي. وما قالته صحافة كوبا الرسمية، عبرت عنه صحافة اميركا اللاتينية بمختلف نزعاتها. دول المركوسور برازيل، ارجنتين، يوروغواي، وباراغواي أخذت بدورها تحلم ببناء عملتها: "أمريغو" لمقاومة الغرينغو الاميركي ودولاره. أما الصحف الاميركية فتكلمت عن المغزى التاريخي للحدث. "وول ستريت جورنال" رأت ان العملة الأوروبية الجديدة هي أهم حدث للقارة القديمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. "نيويورك تايمز" أشارت الى ان قدوم اليورو سيساهم في نمو الاقتصاد العالمي، والدولار سيستفيد من وجوده لا العكس. الضجيج الاعلامي لم يمنع بالطبع تجاهل عدد من المواطنين الأوروبيين للحدث وعمليات احتيال قامت بذكرها صحافة البرتغال التي تحدثت عن لصوص سطوا على أموال العديد من المسنين باسم تغيير العملة والتخلص من البطاقات النقدية التي كان المسنون يحفظونها في خزائنهم. الغريب في الصحافة انها لا تحتمل طويلاً مجاراة الرأي العام السائد، فبعد ولادة اليورو والاستقبال البشوش الذي خصصته بورصات العالم لطفل بروكسيل، بدأت الصحف تحذر من التفاؤل المفرط: اليورو قد يعقد الحلول، وقد يؤدي الى الركود حسب "الايكونوميست". التفاؤل هو قبل أوانه حسب "أوبسرفاتوري رومانو". النمو الاقتصادي هو في تراجع في المانيا وايطاليا وفرنسا كما ذكرت صحيفة "ليبراسيون". الظاهرة الصحافية الأخرى في ما خص ولادة اليورو هي التكلم عن أعدائه الوهميين. يوم الاثنين كان انخفاض بورصة لندن لا يذكر -0.05. ولكن هذا لم يمنع الخبر من ان يضحى حدثاً في مناخ مقارنة العملات ببعضها ووضع اليورو في المرتبة الأولى: اليورو يساوي 1.8 دولار، عوضاً عما ألفناه في الماضي: الدولار يساوي كذا. وما دام ان الدولار لم يتعرض للانهيار، ولا فقدت بورصة لندن دورها، فقد تطرقت صحف دول أوروبا "اليوروية" الى عزل الين الياباني عن الساحة الدولية. وجاء هذا البحث عن كبش محرقة كلامي ليذكّر بقصيدة المرضى المصابين بالطاعون، لكن الانقضاض على الين قد يخيب الآمال، لأن العملة اليابانية هي أيضاً في ارتفاع.