مع انهيار الاتحاد اليوغوسلافي 1991 - 1992 وما خلفه من تصدع بعض الثوابث والمقدسات، اخذت بعض الاسماء "الشامخة" و"المقدسة" بقوة في يوغوسلافيا السابقة تبدو بشكل مغاير مع فتح الملفات المحفوظة ومع انهيار القوى السياسية التي كانت تحمي او تفرض تلك الاسماء على كل البلاد. ومن هذه الاسماء ايفو اندريتش الذي حظي بمكانة رفيعة في يوغوسلافيا السابقة سواء قبل حصوله على جائزة نوبل 1961 او بعد ذلك. ولم يكن خافياً على العالمين بالأمور في يوغوسلافيا السابقة ان اندريتش كان يحظى بدعم سياسي قوي في بلغراد، ورُوّج على هذا الاساس في يوغوسلافيا وخارجها بشكل لم يسبق له مثيل. والحقيقة ان ترويج اندريتش كان جزءاً من مشروع سياسي بدأ منذ العام 1918 ولم ينته بعد، وذلك في مواجهة مشروع آخر كان يروج للروائي الكرواتي ميروسلاف كرليجا الذي لم يحظ بالترجمة خارج يوغوسلافيا في العالم العربي على الاقل كما حُظي اندريتش لاسباب سياسية بطبيعة الحال. ومن هنا يستحق الذكر ما قاله الاديب البوسني اليهودي المعروف اوسكار دافيتشو حين علّق على حصول اندريتش على جائزة نوبل للأدب بأن "اندريتش لم يكن افضل كاتب في يوغوسلافيا، ولكنه حصل على الجائزة لأن اللجنة التي تقدم الجائزة تهتم بالجانب السياسي للكتاب اكثر من اهتمامها بالاعمال نفسها". ومن الملفت للنظر في الفترة الاخيرة، ومع ازدياد الاهتمام العربي الاسلامي بما يحدث في اطراف يوغوسلافيا البوسنة وكوسوفو، ان ملف اندريتش يفتح من جديد في الصحافة العربية. فقد كتب الروائي عبدالرحمن منيف مقالة عن ايفو اندريتش بعنوان "زرقاء يمامة البلقان" في جريدة "الرأي" الاردنية 14/2/1998 ركّز فيها على "الروح النبوية" عند اندريتش التي تكمن في اختياره ل "الهواجس التي كانت تملأ نفسه حول مصير بلده يوغوسلافيا، هذا البلد الشقي الذي تحول الى شظايا والذي لم تنته مأساته بعد". وردّ على هذه المقالة الكاتب الاردني اسماعيل ابو البندورة الذي كان ترجم قصص اندريتش من لغته الاصلية في جريدة "العرب اليوم" الاردنية 31/3/1998 بعنوان "زرقاء يمامة البلقان بين رؤيتين - ملاحظات على مقالة عبدالرحمن منيف". وفي هذه المقالة المهمة، التي تكشف للمرة الاولى في العربية عن بعض الجوانب غير المعروفة في شخصية اندريتش انتقد ابو البندورة ما اسماه "سهو" عبدالرحمن منيف عن "الانحيازات القومية" عند اندريتش وبيّن المغالطات التي تعمدها اندريتش فيما يتعلق بالاسلام والمسلمين في البوسنة، مستنداً الى الدراسات الحديثة التي صدرت في السنوات الاخيرة في البوسنة نفسها. وفي شهادة نادرة يعترف ابو البندورة عن اندريتش بالقول "انني قمت بترجمة اعماله الادبية الى اللغة العربية مدفوعاً بقوة نصوصه وعالميتها، الا انني وقعت ضحية الاستعجال فلم أقرأ ما بين السطور…" ويختتم ابو البندورة مقالته بحادثة مشهورة عن اندريتش في خريف العام 1944 ولكن بشكل مختزل جداً. والحقيقة ان هذه الحادثة تستحق اكثر من ذلك لأنها احد المفاتيح للولوج في الدهاليز الغامضة لاندريتش ولانها يمكن ان تكون المدخل لرؤية موسعة تربط ما بين البوسنة وكوسوفو وغيرهما من الامور. كان اندريتش شخصية سياسية معروفة في يوغوسلافيا الملكية 1918 - 1941 اذ ساهم "باخلاص" كما يقول في اعترافاته في تكوين يوغوسلافيا 1918 تحت حكم اسرة كاراجورجفيتش الصربية. ولذلك كوفئ بالعمل في وزارة الخارجية، فعيّن في روما وبوخارست ومرسيليا وباريس ومدريد قبل ان يعود للوزارة ويصبح نائباً لوزير الخارجية 1937 - 1939 ثم سفيراً ليوغوسلافيا في برلين 1939 - 1941. وبعد الهجوم الالماني على يوغوسلافيا في نيسان ابريل 1941 عاد الى بلغراد حيث تفرّغ تماماً للقراءة والكتابة من دون ان يهتم بما كان يحدث حوله. في تلك الفترة كانت قد انطلقت حرب التحرير الشعبية بقيادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي الذي دعا الى تأسيس يوغوسلافيا جديدة فيديرالية مختلفة عن الملكية السابقة. وحين وصلت المعارك الى بلغراد المحتلة واحتدمت في تشرين الثاني نوفمبر 1944 حتى اصبحت تدور من شارع الى شارع، اقتحم احد الانصار - البارتيزان ميروسلاف رادويتشيتش بيتاً مغلقاً في شارع بريزرن فوجد اندريتش "جالساً على طاولة ومستغرقاً في قراءة كتاب من دون ان يعنيه كل ما يدور حوله". وحين أفاق من دهشته وسأله عن موقفه مما يحدث اجاب اندريتش: "في السنوات الاربع تحت الاحتلال كان لي هدفان: ان ابقى حياً وان ابقى انساناً. اعتقد بأنني حققت هذين الهدفين. الآن يأتي مجتمع جديد. اذا قبلني سأمنحه كل ما لدي، واذا لم يقبلني فإنني ببساطة سأعيش ما بقي لي من عمر". وفي الحقيقة كان اندريتش يكتب في تلك الايام اهم اعماله "جسر على نهر درينا". الا ان النظام الجديد لم يقبل اندريتش فحسب، على رغم ماضيه الفكري والسياسي، بل جعله اهم ادباء يوغوسلافيا الجمهورية وحظي فيها بما لم يحظ به في يوغوسلافيا الملكية. ومن الملفت للنظر آنذاك ان اندريتش برز كأديب فقط من دون اية اشارة الى ماضيه الفكري والسياسي، وذلك بفضل مراكز القوى الجديدة التي تدعمه. وهكذا فرضت الصمت حول ماضي اندريتش حتى وفاته العام 1975، عندما تم فتح ملفه السياسي للمرة الاولى في الكتاب الذي اصدره كوستا ديمتريفيتش في بلغراد العام 1976 بعنوان "احاديث وصمت ايفو اندريتش". وكان من الواضح ان الاهتمام بالماضي المقفل لاندريتش انما كان يتصاعد مع رغبة الاطراف الاخرى المعارضة للاتجاه الذي كان يمثله في التعبير عن رفضه للسياسة التي كان يمارسها ذلك الاتجاه القومي الصربي التوسعي. وفي هذا السياق فاجأ المؤرخ الكرواتي بوغدان كريزمان اليوغوسلاف في العام 1997 حين نشر دراسة عن اندريتش السياسي في "مجلة التاريخ المعاصر" عدد 2، زغرب 1997 بالاستناد الى وثائق الخارجية اليوغوسلافية التي كُشفت للمرة الاولى، بعد وفاة تيتو وتزايد الاستقطاب الصربي - الكرواتي - البوسنوي - الألباني في الثمانينات، اصبح اندريتش ضمن اوراق الاستقطاب والاستقطاب المضاد الذي ميّز السنوات الاخيرة من وجود يوغوسلافيا. ومن الطبيعي انه بعد انهيار يوغوسلافيا واستقلال الجمهوريات كرواتيا والبوسنة الخ لم يعد هناك اي حرج في تناول موضوع اندريتش. وفي هذا الاطار تجدر الاشارة بشكل خاص الى الكتاب الضخم الذي ألّفه الباحث البوسنوي المعروف محسن ريزفيتش بعنوان "المسلمون البوسنويون في عالم اندريتش" الذي صدر في ساراييفو العام 1995 والذي يستحق وقفة خاصة في مرة قادمة. ومع تطور الوضع في كوسوفو، التي اصبحت تستقطب الاهتمام الآن، تجدر بنا العودة للدراسة المذكورة للمؤرخ كريزمان التي تكشف عن التفكير السياسي لاندريتش والاتجاه الذي يمثله حين كان نائباً لوزير الخارجية خلال 1937 - 1939. والواقع ان نظام بلغراد كان آنذاك يلقى مقاومة قوية من الكروات والألبان وغيرهم في سبيل المساواة القومية، ووصلت المعارضة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي الى حد المطالبة باستقلال كرواتيا وتأييد ضم كوسوفو الى ألبانيا. وفي هذه الجواء اخذ النظام يخشى من استغلال النظام الفاشي في ايطاليا للمعارضة الداخلية في يوغوسلافيا من اجل تحقيق طموحات روما في التوسع البلقاني. ولذلك رحب رئيس الحكومة، وزير الخارجية اليوغوسلافية ميلان ستويادينوفيتش بعرض وزير الخارجية الايطالية الكونت تشيانو لتقاسم ألبانيا خلال زيارته الى بلغراد في كانون الثاني يناير 1939، على اساس ان يرضي هذا طموحات ايطاليا في التوسع في البلقان. وفي هذا السياق طلب ستويادينوفيتش من نائبه ايفو اندريتش ان يضع تقريراً حول تصوره للخيارات الممكنة مع ايطاليا حول مصير ألبانيا. وفي التقرير الذي وضعه في 30 كانون الثاني 1939 نشر للمرة الاولى في العام 1977 يطرح اندريتش خيارين امام الحكومة اليوغوسلافية: استمرار ألبانيا كدولة مستقلة فاصلة بين يوغوسلافيا وايطاليا، وتقاسم ألبانيا بين الدولتين. وينطلق اندريتش من جملة اعتبارات كأهمية ألبانيا الجنوبية لمصالح ايطاليا واهمية ألبانيا الشمالية لمصالح يوغوسلافيا، وضرورة تجنب اية مواجهة علنية او مقنعة مع ايطاليا، وضرورة تجنب قيام ايطاليا لوحدها باحتلال ألبانيا، ولذلك يرى ان الحل الافضل تقاسم ألبانيا بين يوغوسلافيا وايطاليا بحيث يسير الخط الفاصل بين الدولتين مع نهر مارت ودرين الاسود. وفي ما يتعلق بهذا الخيار التقسيم فان اندريتش يبّرره كحل لمشكلة اخرى كانت تزعج نظام بلغراد، ألا وهي مشكلة كوسوفو. فقد سعى نظام بلغراد منذ العام 1918 الى التفكير بأكثر من طريقة لتقليص الاغلبية الألبانية في تلك المنطقة، لأنه كان يعتبر ان كوسوفو هي "مهد الصرب" و"الارض المقدسة". ولكن ذلك لم يكن مقنعاً لأحد بوجود أغلبية مسلمة. الا ان كل اجراء كانت تتخذه بلغراد ازاء الاغلبية الألبانية من ترويع وتهجير للسكان كان يقابل بتوتر العلاقات مع ألبانيا التي كانت تعتبر نفسها ملزمة بالدفاع عن حقوق الألبان هناك. ولذلك رأى اندريتش ان تقسيم ألبانيا انما يحل مشكلة كوسوفو بشكل نهائي بالنسبة الى يوغوسلافيا. فمع اختفاء ألبانيا من الخريطة يتلاشى مركز الجذب الدولة القومية بالنسبة الى الألبان في كوسوفو، الذين يصبحون الآن امام خيارين فقط كما يذكر اندريتش: الذوبان في الاطار اليوغوسلافي او الهجرة الى تركيا! واذا كان ذوبان الألبان المسيحيين الكاثوليك الذين ينضمون الى يوغوسلافيا سيتم بسهولة فان تهجير الألبان المسلمين الذين لا يقبلون الذوبان سيتم بسهولة ايضاً حسب رأي اندريتش، لأنه لن تكون هناك دولة ألبانيا تحتج على ذلك! والواقع ان الخيار الآخير التهجير كان وارداً بقوة لدى اندريتش لانه خلال وجوده في الخارجية 1937 - 1939 وكان رئيس الحكومة هو وزير الخارجية ولذلك كان اندريتش على رأس الوزارة جرت مفاوضات مع الخارجية التركية لوضع اتفاق ينص على تهجير 200 - 250 الف من الألبان المسلمين الى تركيا. ومع ان الاتفاق وقع في صيف العام 1938 الا انه لم ينفذ بسبب وفاة اتاتورك واندلاع الحرب العالمية الثانية. وفي ما يتعلق بتقرير اندريتش حول ضم ألبانيا الشمالية ليوغوسلافيا وتهجير الألبان المسلمين من كوسوفو الى تركيا الذي يقرر فيه على الورق مصير شعب، تجدر الاشارة الى ان ايطاليا لم ترض بنصف ألبانيا فقط، ولذلك احتلت كل ألبانيا بعد شهور من وضع هذا التقرير ابريل/ نيسان 1939 وسعت الى ضم كوسوفو الى ألبانيا لتوسيع نفوذها في البلقان، وهو ما نجحت فيه في نيسان ابريل 1941. * مدير معهد بيت الحكمة للدراسات السياسية والاستراتيجية - الاردن