سيدة أنيقة، وقورة، تضع نظّارة ومنهمكة في تفحّص اوراق على مكتبها الأنيق على غرار سيدة اعمال عصرية. هكذا تمضي اللبنانية الأولى السيدة منى الهراوي معظم وقتها في "مركز الرعاية الدائمة" الذي أنشأته لمعالجة الأطفال المصابين بمرضي السكري والتلاسيميا، تهتم بشؤونهم وترعاهم وتسهر على تأمين احتياجاتهم بمحبة وحماسة. بالكلمة اللطيفة والوجه البشوش تستقبل السيدة الأولى ضيوفها كباراً وصغاراً، وقد دفعها ولعها بالعمل الانساني وحبها الصادق للأطفال الى المشاركة في اداء دور في مسلسل تلفزيوني لبناني للتحذير من مخاطر العمل في سنّ مبكرة. فما كان من الاطفال البائسين إلا ان تهافتوا اليها من كل حدب وصوب وهم يتوسّلون بالجملة الشهيرة "تانت منى ساعديني"! ويعود هذا التعلق الغريب ل "التانت منى" بالأطفال الى طفولتها المعذبة والحزينة، إذ فقدت والدها ابراهيم جمّال في سن مبكرة، ولم يبرحها الألم في مرحلة الأمومة، اذ عانت كأم وفجعت بطفلها الأول اثر مرض عجز عن معالجته الأطباء، فأصيبت بانهيار وتعذّبت طيلة عامين بين المستشفيات ثم فقدته. "هذا الأمر بدّل مجرى حياتي"، تقول، "وصرت أتأثر جداً كلما سمعت بطفل يتعذب او بأهل لا امكانات لديهم لمعالجة طفلهم. وأدرك تماماً معنى هذا العذاب لأنني ذقته وأضناني". مَنْ أفضل من منى الهراوي تتحدث عن الأسرة والأمومة وتجربة المرأة في السلطة؟ هناك في منطقة الفياضية القريبة من القصر الجمهوري، وفي "مركز الرعاية الدائمة" بعيداً عن البروتوكول الذي تكرهه، استرسلت اللبنانية الاولى في الحديث عن تجربتها التي تجمع بين الفرح والألم والرضى والتخطيط للمستقبل... بعد انتهاء العهد. وهنا نص الحديث: حرمت حنان الوالد في سن الثامنة بعدما قتل في قذيفة، كيف شحذ هذا الحادث شخصيتك كإمرأة؟ - من الطبيعي ان خسارة الطفل لأحد والديه في سن مبكرة تولّد في قلبه حزناً، خصوصاً عند الفتاة التي تتعلق غالباً بوالدها. وفقداني لوالدي نمّى فيّ ضرورة الإعتماد على النفس. لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة إليّ، خصوصاً في مراحل صعبة من حياتي، اذ كنت افتقد الى من يساندني، ما جعلني اشعر بضرورة ان اتحمّل مسؤولية نفسي وأعطاني قوة شخصية وسلّحني بالإرادة لكي أتخطى الصعوبات. شخصياً اعتقد بأن الانسان إما يخلق بشخصية قوية او بشخصية ضعيفة ويلعب التكوين الفيزيولوجي دوره ويمدّ الانسان بقدرة على التحمّل. في الحرب اللبنانية مثلاً ثمة اشخاص تخطّوا الواقع وواجهوا المشكلات بشجاعة بينما هاجر البعض الآخر. وأنا أشكر الله لإعطائي شخصية سمحت لي بتخطّي الصعوبات في ايام الحرب، والأمر يعود الى الإيمان بالله الذي تربّيت عليه وهو يخفف من المشكلات التي نواجهها ويمدّنا بالوعي اللازم لإيجاد الحلول. كيف تصفين اجواء الأسرة التي ترعرعتِ فيها؟ - كان كل شيء مختلفاً عن اليوم، تربيت في عائلة محافظة مؤلفة من ثلاث شقيقات ولم نملك حرية عشوائية، وشخصياً لم افكر يوماً بالحياد عن المبادئ السويّة، حتى في الحب وضعت ضوابط وحدوداً تحترم الأصول والتقاليد. اليوم يختلف الأمر، ويفرض التقدم الذي نعيشه ان نعامل اولادنا بطريقة مختلفة عن طريقة اهلنا. الجيل الجديد منفتح على العالم عبر الإعلام المرئي والبرامج التلفزيونية، واليوم اصبح الاهل يفسحون في المجال لأبنائهم للدخول الى المجتمع والاختلاط مع الغير في سن مبكرة، والأمر طبيعي لأنه اذا لم يرافق الاهل تطور العصر يقوم الاولاد بردّ فعل عكسي فيتعذب اهلهم اكثر. ينبغي على الاهل ان يتحلّوا بالوعي اللازم في تربية اولادهم، ويقدّموا لهم النصائح من دون ان يرغموهم، وفي بعض الحالات يترتب على الاهل ان يجاروا اولادهم في افكارهم على رغم التحفظات ويرضخوا للأمر الواقع ولو على مضض كي يتجنّبوا الصراع غير المفيد. كيف تخطّيت التصادم في العقليات بين الأجيال، وما المبادئ التي رسّختها في افراد عائلتك؟ - ربّينا اولادنا على مخافة الله والصدق واحترام الآخرين، وأن لا يؤذوا احداً ولا يستخفوا بالناس، كما نمّينا فيهم روح الحوار، وهذا الأمر يخلق صداقة وتعاوناً بين الأولاد وأهلهم. طبعاً يتعذب الاهل عندما يرون الشواذ ويجرّبون مواجهة اولادهم، وهذا خطأ اذ عليهم ان يتقبّلوا رؤية ابنائهم ينتقلون من البيئة البيتية الى حياتهم الخاصة. بعد تسعة اعوام في منصب اللبنانية الأولى كيف تلعبين دورك كربّة اسرة، خصوصاً بعدما كبر اولادك؟ - اولادي لا يرونني كما في الماضي، فهم تزوجوا وأسّسوا عائلاتهم، لكنني احرص على جمعهم وأولادهم مرة اسبوعياً ليبقى شملهم مجموعاً ولتمتين الروابط والألفة والمحبة في ما بينهم. هذا الامر يعطينا الارتياح، فليس اجمل من الاطفال نراهم يلعبون ويفرحون اذ يجعلوننا ننسى هموم الحياة ويعطوننا املاً جديداً بأن الحياة مستمرة. ما هي برأيك مقوّمات الأسرة الناجحة؟ وأي دور اهم في تمتين اواصرها: دور الرجل ام دور المرأة؟ - لا شك في ان دور المرأة اساسي في الأسرة الناجحة، وأحياناً يشذّ احد الاولاد على المبادئ التي ربّاه عليها الأهل وهذا لا يلقي اللوم عليهم. دور الأم اساسي في تربية الاولاد وهذا عمل مهم، فمن غير المقبول انجاب الاولاد وتوكيل الخدم بهم، لأن العاطفة والحنان والتربية الصالحة التي تمنحها الأم ضرورية لتربية اولاد صالحين ولا يوازيها شيء. من جهة اخرى، الاسلوب في التربية مهم ومن الخطأ تلبية مطالب الاولاد كلها ومن الضروري وضع ضوابط تحسس الولد بأنه ما من امر يأتي في سهولة وإلا يصبح غير مؤهّل لتحمّل المسؤولية. اما بالنسبة الى دور الرجل فهو مكمّل للمرأة والتوافق ضروري بين الاثنين كي لا يقع الولد في الحيرة. ويتعيّن على الأم والأب ان يكونا متفاهمين على اللغة والتصرفات ذاتها لتكون جذور العائلة متينة وقوية. نلاحظ اليوم وجود ضغوطات نفسية ومادية تفرضها متطلبات الحياة الحديثة وعدم وجود وقت كاف لتوثيق اواصر الاسرة والتواصل الدائم مع الابناء، كيف يمكن تخطي هذا الوضع برأيك؟ - على عكس الماضي اصبحت عائلات اليوم مفككة خصوصاً بسبب سفر افرادها. نحن نمرّ اليوم في مرحلة صعبة تجعل اي شخص يفكر بالسفر والعمل في الخارج بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي. وهذا لا يعني ان العمل في بلد آخر افضل منه في لبنان، بالعكس لكن اللبناني يخجل من العمل في بلده بسبب الكبرياء. من هنا يأتي دور الدولة في المساعدة على خلق فرص عمل لهؤلاء الاشخاص كي يصمدوا في وطنهم وإلا لمن نترك لبنان؟ بالانتقال الى وجهك الآخر كزوجة رجل سياسي، كيف تحددين دورك الى جانب رئيس الجمهورية منذ بداية حياته السياسية؟ - السياسة ليست جديدة على عائلة زوجي، كان والده وأخوه قبله، وأنا بطبيعتي احب العلاقات مع الناس. وبرأيي انه يترتب على زوجة المسؤول واجبات تجاه الناس الذين تتعامل معهم، لا سيما ان الرجل الذي يشغل مركزاً مهماً لا يتمكن من القيام بكل شيء، من هنا دور زوجته المكمّل له. هل تؤيّدين تدخّل المرأة في اتخاذ القرارات السياسية على غرار هيلاري كلينتون التي واجهت انتقادات عدة بسبب هذا الأمر؟ - هيلاري محامية وشخصيتها مكوّنة على هذا النحو ولا يمكن لومها. لا يمكن لزوجة رئىس الجمهورية ان تبقى على الهامش بل يجب ان تلعب دوراً فعّالاً. وغالبية زوجات الملوك والرؤساء قمن بأدوار مهمة عبر التاريخ. فاذا استطاعت الزوجة مساعدة زوجها من دون المضاربة عليه يكون الأمر مهماً لأن الشعب يحتاج الى ان تقوم زوجة المسؤول بدور اجتماعي وثقافي يكمل العمل السياسي. نلاحظ ندرة النساء الطموحات للعمل السياسي في العالم العربي. على من يقع الحق برأيك: على المجتمع الذي صقل شخصية المرأة الأم على حساب المرأة السياسية ام على المرأة نفسها؟ - ليس على المرأة بالتأكيد. في عالمنا العربي قلّة هن النساء اللواتي تعاطين مباشرة في الشأن العام بسبب المعتقدات والتقاليد. طبعاً حصل تطور كبير لكن المجتمع لا يسمح بإعطاء المرأة فرصة الظهور في العمل السياسي. وأنا شخصياً قابلت الكثير من السيدات العربيات الناشطات في العمل الاجتماعي، لكن في الخفاء، اذ يُمنع عليهن الظهور بسبب التقاليد. الى اي مدى تلاحظين ان المرأة اللبنانية خصوصاً والعربية عموماً متساوية مع الرجل؟ وما هو مفهومك للمساواة؟ - نحن كلجنة وطنية للمرأة في لبنان سعينا كي تحظى المرأة بحقوقها، وتوصّلنا الى انتزاع بعضها. شخصياً أرى ان المرأة قادرة على اثبات نفسها بجدارتها. ولا نريد هنا ان نحارب الرجل للحلول مكانه البتّة، فالمرأة انسان ولديها كفاءة مساوية للرجل، فلماذا الامتناع عن اعطائها الفرصة لإظهار كفاءتها؟ الرجل هو المسيطر في المجتمعات العربية ومن الصعب تغيير هذه العقلية الموجودة في لبنان ايضاً. وكثيرون هم الرجال في لبنان الذين يتظاهرون بالانفتاح بينما يعملون ضمنياً عكس ذلك، وأكبر دليل انه ما من امرأة تولّت حقيبة وزارية في الحكومات اللبنانية، كما ان حظ النساء اللبنانيات ضئيل في العمل السياسي لأن الرجل يعتبر نفسه اهم من المرأة على رغم امتلاكها الثقافة والرؤية مثله. قلت مرة في حديث صحافي "متى وضع الانسان حدوداً لطموحه ينتهي"، الى اي حد يمكن للمرأة الشرقية ان تطمح ولا يؤثّر طموحها عليها كسيدة أسرة وأم؟ - اذا وضعت المرأة هدفاً نصب عينيها تحققه ولا يقف في وجهها شيء، ومن الطبيعي انه عندما تصبح المرأة ربّة اسرة تجد صعوبة في بداية زواجها بسبب مسؤولياتها في التربية لكن هذا لا يمنعها من العمل والعودة الى المنزل للقيام بواجباتها. والزيجات اليوم تتطلّب التعاون بين المرأة والرجل، ويعود الأمر في النهاية الى مقدرة المرأة على التحمّل. ماذا حققت اللجنة الوطنية للمرأة منذ انشائها العام 1995 بعد مؤتمر بكين؟ - وضعت اللجنة استراتيجية للنهوض بالمرأة وتمكينها في المجالات كافة لا سيما في المجال الاقتصادي وذلك بالتعاون مع اللجنة الأهلية. كما وضعت بنك معلومات عن واقع المرأة في لبنان يتألف من اربعة اجزاء وهو يعطي صورة واضحة عن المرأة بالوقائع والأرقام. وشاركت اللجنة في مؤتمرات عدة محلية وعالمية ونظمت ورش عمل في المجالات المختلفة ووفقاً للاستراتيجية الموضوعة. وتقوم اللجنة حالياً بتنفيذ برامج محددة لتمكين المرأة والمساهمة في تطور وضعها وذلك بالتعاون مع منظمة اليونيسف، ومنظمة الأممالمتحدة للتنمية المستدامة، ومؤسسة فردريك ألبرخت. الى ذلك خطت اللجنة خطوات نحو المأسسة، ووضعت مشروعاً قدمته الى مجلس الوزراء وهو حالياً في المجلس النيابي. وهكذا تكون اوجدت، وفقاً لمقررات مؤتمر بكين، مرجعية لمعالجة امور المرأة ومتابعتها والنهوض بقضاياها. ما سر علاقتك الحميمة بالأطفال المرضى بالسكري والتلاسيميا، وما هو جديد مركز الرعاية الدائمة؟ - أكنّ عطفاً خاصاً لهؤلاء الأطفال لأنهم مهمَلون ولا يفكر بهم احد. وأنشأت هذا المركز لكي يشعر الناس بأن الانسان المريض فعّال في مجتمعه إذا لاقى العلاج اللازم واستُثمرت طاقاته. ونحن في المركز توصلنا لجعل المريض يعيش في شكل طبيعي ويشعر بأهميته، ونحن اليوم في صدد إنشاء مختبر جيني للقيام بتحاليل جينية للسكري والتلاسيميا ولأمراض اخرى وسيتم افتتاحه في العام المقبل. وأعتبر المركز انجازاً مهماً وهو كان حلماً تحوّل الى حقيقة، ونحن نحاول ان نطوّره بالتعاون مع الدول العربية، وبعض العرب الذين يزورون لبنان للاصطياف ويزوروننا للإطلاع عليه او لمعالجة اولادهم. بين منى الهراوي المرأة الأم وربّة الأسرة قبل تسعة اعوام ومنى الهراوي اللبنانية الأولى اليوم ماذا تبدّل؟ - تضحك اولاً كبرت تسعة اعوام وكبر عقلي تسعة اعوام وصرت اتقبّل الامور بسهولة اكثر وأواجه الصعوبات بقوة اكبر، كما انني افرح بأحفادي وهم لم يكونوا موجودين قبل تسعة اعوام. هل سينتهي عهد الرئىس الهراوي ام سيتم التمديد له؟ - سينتهي العهد بالتأكيد، تسعة اعوام تكفي ونحن يهمنا ان نذهب بكرامتنا. والرئيس عمل وتحمّل كثيراً وهو سيعطي المجال لغيره ليحكم لبنان. بعد انتهاء عهد الرئىس ماذا سيكون حلمك المستقبلي بعد ان حققت "المشروع الحلم" المتمثل بمركز الرعاية الدائمة؟ - سأستمر في العمل في "مركز الرعاية الدائمة" وأطمئن الجميع الى انه باقٍ وأنا لا استطيع ان اترك 1030 ولداً من دون علاج. ونحن سنطوّر المركز كما سنستمر في ورشة تأهيل المتحف الوطني كمؤسسة وطنية للتراث. وشخصياً لا استطيع العيش من دون عمل، وبرأيي ان كل زوجة وأم قادرة على افادة مجتمعها في كل عمل تقوم به