"كل صورة تستدعي فكرة... وكل صورة تثير معاني سياسية وعاطفية اكثر من مئة ورقة مكتوبة. هذا هو سبب تفضيلي اللجوء الى الصور الفوتوغرافية بدل الوثائق المكتوبة". بهذه الكلمات عبّر السلطان عبدالحميد الثاني عن اهتمامه بفن التصوير الفوتوغرافي الذي انتشر في الامبراطورية العثمانية بعد اختراعه عام 1839 بفترة قصيرة. ومنذ العام 1855، بدأت محترفات المصورين الفوتوغرافيين تظهر في تركيا، وكان معظمها انحصر في منطقة بيرا في اسطنبول التي استقبلت حرفيين جاءوا من كل ارجاء الامبراطورية ومن خارجها. ولكن الاسم الذي برز فيها على مدى ثلاثين او اربعين سنة كان اسم الأخوة عبدالله الذين اصبحوا المصورين الرسميين للبلاط العثماني. عن هذه العائلة التي حملت آلاف الصور الفوتوغرافية توقيعها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خصصت الباحثة التركية أنجين أوزنديس كتاباً صدر باللغة التركية في آذار مارس الماضي ونُقل لاحقاً الى الانكليزية عند "منشورات يابي كريدي للثقافة والفن". تنشر أوزنديس عدداً كبيراً من الصور الفوتوغرافية ونصاً يروي تفاصيل من حياة وعمل الأخوة الثلاثة الذين عرفوا ببراعتهم وتملّكهم فناً صعباً كان ما يزال في بدايته فاستقطبوا اليهم المشاهير، ولكنهم صوّروا ايضاً الحياة اليومية في الشارع، كما صوّروا المواقع التاريخية في اسطنبول ومدن تركية اخرى، كالمساجد والقصور والنوافير والاسواق... كان الأخوة عبدالله من عائلة ذات اصل أرمني عُرفت بعائلة عبدلّهيان، ولكنها اخذت كنية عبدالله مع الجد الذي استقر في اسطنبول نهاية القرن الثامن عشر، وفي عاصمة الامبراطورية العثمانية ولد فيسين وهوفسيب وكيفورك. وكان هذا الاخير مولعاً بالفنون منذ صغره، وفي الثالثة عشرة من عمره اقنع والده بضرورة ارساله الى إيطاليا للالتحاق بمدرسة مراد رفائيليان في البندقية التي اشتهرت ببرنامجها المكثّف في الفنون. وعندما عاد كيفورك الى اسطنبول عام 1858 قرر التفرّغ للتصوير الفوتوغرافي، ومع اخويه فيسين وهوفسيب، اخذ المحترف الدغريّ نسبة الى داغير الذي اخترع اول طريقة في التصوير الفوتوغرافي اعتمدت على ألواح فضية الذي كان اسسه في منطقة بيرا عالم الكيمياء الالماني رباخ، وحيث كان فيسين يعمل كمنمّق للصور الى جانب رسمه المنمنمات الدقيقة. وفي مذكراته، يكتب كيفورك: "نحن الأخوة الثلاثة، عملنا بعزم وإخلاص، ولم نوفّر اموالنا ولا جهودنا. قمنا بتجارب جديدة وبحثنا في جميع الوسائل التي تمكننا من ارضاء الزبائن والوصول الى افضل نوعية. لم يكن احد منا يكتفي بما كان يبلغه بل كنا نجاهد الى اقصى حدّ من اجل تحقيق اعلى درجة من الكمال". وكان الأخوة الثلاثة يتابعون عن كثب الاكتشافات الجديدة المتعلّقة بالفن الجديد ويلاحقون آخر التطورات، حتى ان كيفورك وفيسين قرّرا الذهاب الى باريس، مركز علم التصوير آنذاك، للتعرّف على الكونت أولامب أغوادو الذي لمع بأبحاثه في تقنيات التصوير الفوتوغرافي. وعندما قدّما اليه مجموعاتهما الكبيرة التي ضمّت صور البورتريه والاشخاص بالازياء الشرقية، أُعجب أغوادو بهما وتولاهما برعايته. وبعد اقامة دامت شهراً في العاصمة الفرنسية تعرّف خلالها الشابان على آخر التطورات وعلى المصورين الفرنسييين. وحين عادا الى اسطنبول كانا يحملان رسالة من أغوادو الى السفير الفرنسي في تركيا يطلب منه فيها تعريف الأخوة عبدالله على السلطان والباشوات ورجال الدولة. وفي 1863، نزولاً عند توصية من الوزير فؤاد باشا، طلب السلطان عبدالعزيز من الأخوة عبدالله ان يلتقطوا بورتريه له. وعندما جاءت النتيجة ممتازة، أعلن السلطان: "رزانتي وشبهي الحقيقي يظهران تماماً في الصورة التي أخذها الأخوة عبدالله. من الآن فصاعداً، آمر بأن يتمّ الإعتراف بصورهم فقط كصور رسمية وأن توزّع في كل أنحاء الوطن". وأما الاعتراف الدولي بعمل الأخوة الثلاثة فجاء سنة 1867 خلال "معرض باريس" الذي حضر افتتاحه السلطان عبدالعزيز وكان أول سلطان يقوم بزيارة خارجية في التاريخ العثماني. ومن بين الصور التي عرضها الأخوة عبدالله: بورتريه للسلطان وآخر للماركيز دو موستيي، وزير خارجية فرنسا وسفيرها السابق الى اسطنبول، وحاكم لبنان العام، داوود باشا، وصوراً لعدد من النساء الشابات والجميلات، اضافة الى أربع لقطات بانورامية لمدينة اسطنبول. وقد لقيت صورهم اقبالاً واهتماماً كبيرين، فكتبت صحيفة "ذي تايمز" ما يلي: "في قسم التصوير الفوتوغرافي لمعرض باريس، شاهدنا عدداً من الصور يحمل توقيع الأخوة عبدالله. لا نعرف الى أي دولة ينتمون، ولكن صورهم رائعة". وأصبح محترف الأخوة عبدالله محطة ضرورية لزائري اسطنبول من شخصيات سياسية امثال أمير ويلز والامبراطورة أوجيني، ومن سائحين عاديين، وكان "دليل المسافر" الذي صدر عام 1867 قدّم مصوري اسطنبول كالتالي: "الأخوة عبدالله الذين يُقال عنهم انهم معتمدو القصر يملكون اوسع وأشهر محترف. يأتون من عائلة نبيلة وقد أمّنت لهم مهارتهم سمعة دولية. لم يتمكن احد بعد من ان يدانيهم في مجال التصوير الفوتوغرافي ...". ومع شهرتهم المتزايدة، طلب منهم خديوي مصر، توفيق باشا، ان يفتحوا فرعاً لأعمالهم في القاهرة. وفي 1886 سافر هوفسيت وكيفورك الى مصر حيث اسسا اول محترف في العاصمة لقي نجاحاً كبيراً منذ بدايته. وبقي الأخوة يعملون وينشطون في مجال التصوير الفوتوغرافي بين القاهرةواسطنبول وبشكل خاص خلال عهد السلطان عبدالحميد الثاني 1909 - 1876 الذي كان شديد الاهتمام بالتصوير، يهواه بنفسه حتى انه خصّص محترفاً له في قصر يلدز. ويُقال بأن السلطان الذي كان عالماً بسيماء الوجه، كان يختار الشبان المتقدمين الى الاكاديمية الحربية بعد تفحّص دقيق لوجوههم في الصور الفوتوغرافية التي كانت تقدّم له. ويبدو ان مصير الأخوة عبدالله كان مرتبطاً بطريقة وثيقة بمصير الامبراطورية العثمانية. فمع بداية انهيار الامبراطورية في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ نجم المصورين بالافول حيث، بعد اقفالهم المحترف في منطقة بيرا، انطووا في النسيان. الا ان الصحف، برغم ذلك، سجلت تاريخ وفاتهم: فيسين عام 1902، هوفسيب 1908 وكيفورك 1918. خلّف الأخوة الثلاثة آلاف الصور الفوتوغرافية التي حُفظت في ألبومات عديدة وفي المحفوظات، ويقدّم كتاب أوزنديس مجموعة من افضلها تعرّفنا على وجوه غابت ومناظر تحولت او ما زالت، وتظهر لنا، بالدرجة الاولى، عملاً تقنياً لافتاً في التصوير.