حصل تداخل كبير بين عملية توليد الصور النمطية عن الإسلام وبين المشروع الصليبي. وتكوّن المتخيّل الجمعي المسيحي الغربي في تفاعل تام مع الحركية العامة التي انطلقت لاسترجاع المسيحية لسلطتها المفقودة على المصادر التأسيسية للرموز. وقد لعب هذا المتخيل، بصوره النمطية المختلفة عن الذات وعن الإسلام، دور اللحمة التي أعطت للمجتمع المسيحي الوسيط وحدته ضد ما مثلته الواقعة الإسلامية من اختراق وتهديد واختلاف. وهكذا فالقناعة المسيحية المطلقة بصدقية عقيدتها دفعها، بقوة، الى رفض الإسلام والاستعداد لتحجيمه واستعادة المجال الجغرافي والأمكنة المقدسة التي تمكن المدّ الإسلامي الجارف من دمجها والتحكم فيها. لا مجال للتفاوض في المسائل الدينية، أو خلط الأوراق. وما دام الدين يمثل أفقاً حاسماً في النظر الى العالم والإنتاج والسلطة، فإن القطيعة الكبرى التي أحدثها الإسلام في تاريخ المتوسط، والشعور المسيحي الأوروبي العميق بالنقص إزاء هذه الظاهرة المتعددة الأبعاد، دفع بالمؤسسة الكنسية الى التحضير للانتقام من الآخر. انتقلت الكنيسة، بالتدريج، من الموقف السلبي من العنف والحرب كما كان يجسده السيد المسيح ورهبان الكنيسة في بداياتها الى تبنّي مبدأ القوة كأداة للحفاظ على الذات واقتحام قلاع الآخرين. وقد تطورت فكرة الحرب المقدسة وممارستها "تحت قيادة المؤسسة البابوية". وكيفما كانت الاعتبارات التاريخية المعقدة في ذلك الوقت، والعلاقات الصراعية المختلفة التي شهدتها المسيحية الأوروبية في ارتباطاتها المتوترة مع الإسلام في الجنوب الشرقي للمتوسط أو مع الشعوب الغازية التي أتت من الشمال مثل "الفكينغ أو الهنغاريين"... إلخ فإن ما يهمنا، هنا، هو الكيفية التي حولت بها المؤسسة الكنسية موضوع المقدس الى عملية استثمار هائلة في الصراع التاريخي بين الإسلام والمسيحية من أجل انتزاع الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين، واسترجاع سيطرتها على الفضاء المتوسطي. وعلى الرغم من الخلافات الكبرى التي كانت تشهدها الكنيسة بين البيزنطيين والرومان، بين الإغريق واللاتين، فإن المؤسسة البابوية جعلت من الظاهرة الصليبية مبادرة مسيحية عامة، "مبادرة بابوية، وحدودية عدوانية ضد كل العقائد الأجنبية... وحيث ساهمت في تكوين الروح المشتركة للمسيحية الغربية". أي أن المؤسسة البابوية، بسبب التحجيم الذي فرضه عليها الإسلام والهزيمة المادية والنفسية العميقة التي تعرضت لها، وجدت في الظاهرة الصليبية الفرصة التي بفضلها يمكن توحيد المسيحيين حول مبدأ ومهمة محددة لتحرير قبر المسيح واسترجاع الأماكن المقدسة. سيما وأن "الناس في هذه الفترة كانوا يتطلعون الى الخلاص، وتحقيقه سيتم من خلال مبادرات جماعية. وأن المشاركة في الحركة الصليبية، مع ما حملته من وعد بالغفران، كانت شكلاً معيشاً من الشعور المشترك للقديسين، وضماناً جماعياً للخلاص". كتب الكثير عن هذه الظاهرة، ومن زوايا نظر مختلفة ومتباينة، سواء عن أسبابها المعلنة أو المستترة، أو عن وسائلها واستراتيجية تنفيذها، عبر مراحلها المختلفة، أو عن أهدافها وإنجازاتها... إلخ. وعموماً تحدد الحركة الصليبية باعتبارها "حملة عسكرية ودينية تكونت في أوروبا الغربية لاسترجاع الأماكن المقدسة في فلسطين وسورية والدفاع عنها ضد الإسلام". وقد امتدت لفظة الصليبية، فيما بعد، لتشمل كل الحروب التي خيضت ضد "الكفار"، وكل المبادرات التي تمت بإسم قضية صادقة أو اعتبرت أنها كذلك... الحملة الأولى 1096 - 1099 التي سبقت الحملات ضد مسلمي الغرب أدت الى تكوين أربع دول حول القدس، وطرابلس، انطاكية والرها، والتي تشكل مع قبرص والإمبراطورية اللاتينية بالقسطنطينية الشرق اللاتيني... قامت الحملة الثانية بعد سقوط "الرّها" ولم تكن لها نتائج تذكر، وأما الثالثة فقد كانت على إثر سقوط القدس في يد المسلمين، وتمكنت من ضمان الممتلكات "الإفرنجية" على الشواطىء السورية - الفلسطينية" وفشلت الحملة الرابعة في دمياط بمصر، في حين كانت السادسة عبارة عن جولة ديبلوماسية لفريدريك الثاني أدت الى كارثة جديدة بدمياط، وأما الحملة الثامنة، فقد قادت هذا الملك الى تونس وانتهت بعد وفاته". بالإضافة الى هذه المحطات الرئيسية، نظمت حملات أخرى، بشكل متقطع، ضد العثمانيين، إلا أنه بحكم استمرارية الوجود الصليبي طيلة ما يقرب من قرنين في فلسطين وسورية، فإن الحملات الأولى أثرت، بقوة، في نوع التعامل المسيحي والإسلامي مع هذه الظاهرة. هل تمثل الظاهرة الصليبية رد فعل قام به الغرب المسيحي ضد الشرق المسلم؟ وما هو دور مشاعد "الإهانة والهزيمة..." في تكوين المشروع الصليبي وتطويره؟ ثم ما هو دور المقدس في تشكيل متخيل جمعي يدعو الى العنف والثأر والخلاص؟ 1 - "الحج" المسلح وتجييش المتخيل الجمعي تلتقي كل الكتابات في القول بأن الحركات الصليبية تمثل رد فعل ضد الاختراق الإسلامي الواسع للمناطق التي كانت تحت سيطرة المسيحية. ولو لم تقف الجيوش الإسلامية عند أبواب القسطنطينية 718 وانهزامها أمام قوات شارل مارتيل بواتيي 732 لسقطت أوروبا ذاتها في يد المسلمين. غير أن التحولات الكبرى التي حصلت داخل المؤسسة الكنسية، اجتماعياً وسياسياً وعقدياً، والشعور المر بالتحدي الإسلامي، ولّد عند رهبانها ورجالاتها الإيمان بضرورة تنشيط الفكرة المسيحية ونحت الآليات النفسية والرمزية المحرضة، وإقناع المؤمنين بقدسية مهمة الحرب والتحرير واستعادة الأراضي المقدسة. فالصرخة التي أطلقها "أوربان الثاني" الداعية الى التعبئة الشاملة لإنجاز مهمة التحرير أنتجت نوعاً مما سماه البعض ب"العدوى الذهنية" العامة. ومن أجل ذلك ازدهرت الأقاويل والدعايات، وفتح المجال للخيال بالتعبير عن مكبوتاته، ووضعت الشعارات وأعطيت كلمات الأمر للاستقطاب الأقصى من أجل تنظيم الرجال والمؤمنين لهزم الكفار. فكل ما هو خارج الفضاء المسيحي ينتمي الى الشر، والإسلام في أول قائمة من يتعين تدميره وإنهاء سلطته. يتعلق الأمر بإرادة مضادة للقوة، تزاوجت فيها النزعة العدوانية، ذات الطبيعة العسكرية، والميل المقصود الى بلورة متخيل جمعي شرس يعطي للآخر كل مظاهر "الشيطنة" والسلبية. حتى غدا العامل الأسطوري مؤسساً للبنية الذهنية المسيحية إزاء الإسلام. ولأننا تناولنا الصور النمطية المؤسسة للمتخيل المسيحي الغربي في نظرته للمسلم، فإننا نود، بالإضافة الى ذلك، أن نقف عند بعض المظاهر التي اتخذتها الحركة الصليبية في حملاتها وحروبها، وعند الأبعاد الرمزية والدينية التي حملتها معها هذه الظاهرة في صراعها الكلي ضد الإسلام. عملت المؤسسة الكنسية على صياغة "نظرية" عن "الحرب المقدسة". حيث عدّلت من الموقف الكنسي الأصلي من الحرب والعنف، واستثمرت الدين، كمجال قدسي لتسويغ الاستراتيجية العسكرية الصليبية. بل إنها بنحتها لمفهوم "جند المسيح" أعطت لوظيفة المحارب "بعداً روحياً"، وبخلطها المقصود بين توفير شروط الحج للمسيحيين وبين "الحرب المقدسة" تمكنت من تأليب جموع غفيرة من الفقراء والفلاحين ومن تجنيد مئات الآلاف من الناس والزج بهم في حركة عارمة شعارها الصليب وغايتها الأماكن المقدسة. وهكذا "جندت نواة الجيوش المسيحية، من فرسان، وضباط ومرتزقة في المكان عينه. وذلك بفضل تنظيم إقطاعي صارم، قدم فيه الفلاحون الأصليون مساهمات عالية، وفرضوا من خلاله ضرائب قاسية على الأنشطة الاقتصادية فضلاً عن "الهبات" الغربية الكبيرة...". وبالموازاة مع الاستعدادات على صعيد اقتصاد الحرب، تحركت الحملة الدعائية المنسقة، ونشرت الاشاعات على مئات الآلاف من الألسن تروج ما جاء عن مجمع "كليرمون" من قرارات في شأن العودة الى القدس، و"قد بدأت الاستعدادات في فرنسا قبل كل شيء لأنه كان يسود فيها بالذات جو مفعم كلياً بالانفعال الديني. وساعد نشاط رجال الكنيسة الوعظي بقسط كبير في تسعير نيرانه. فإن البابا أوربان الثاني قد جمع الأساقفة في اليوم التالي من إلقاء خطابه وعهد إليهم بأن يشنوا "بكل الروح والقوة" حملة وعظ في كنائسهم من أجل الحرب الصليبية... وفضلاً عن ذوي المقامات الرفيعة في الكنيسة، أخذ يدعو الى الحرب الصليبية وعاظ متعصبون من عداد الإخوة الرهبان ظهروا في مختلف الأماكن، وكذلك مجرد معتوهين شرعوا يدعو المستمعين الى القتال من أجل المقدسات المسيحية. فإن الحرب الصليبية، كما كانوا يقولون، عمل رباني وليست عملاً بشرياً" وللبرهان على ذلك كانوا يروون شتى الخرافات عن الرؤى النبوية، وعن العلامات السماوية التي تنذر بمعركة المسيحيين المقبلة ضد أتباع الإسلام". وبدأت الأساطير تروج بشكل مكثف مصحوبة بإيقاع إعلامي استعملت فيه كل القنوات والوسائل لتكريس القول بأن تحرير القدس عمل رباني، وعلى المؤمنين النهوض لتحقيق هذا القرار بكل ما يملكون من قوة وجهد ومال، بل وانتشرت "شهادات زعم أنها سقطت من السماء وأعلن فيها الرب عن عزمه على حماية فرسان الرب، المقاتلين من أجل الرب". وعلى رغم أن المؤسسة البابوية تمكنت من جعل هذه الحرب ذات طابع شعبي واسع، فإن الظاهرة الصليبية ارتبطت. في الواقع وفي الخيال أيضاً، بالفرسان. وهذا موضوع كتب عنه الكثير، سواء من الزاوية الأوروبية أو من منظور التأثير المتبادل الذي حصل بين الفروسية العربية والفرسان الصليبيين، غير أن ما يثير الانتباه هو الصورة التي نسجت للفارس، والبعد الأسطوري الذي منحته له المخيلة الشعبية. ومن العلامات المرتبطة بالفرسان أنهم حين "يتجهزون لمحاربة المسلمين الأترات والعرب، يخيطون على ألبستهم، على الصدر أو على الكتف. علامة الصليب من قماش أحمر". اقتصاد حرب، تعبئة إعلامية جارفة، استقطاب ديني غير مسبوق، كل ذلك يظهر الى أي حد عبّرت المؤسسة البابوية عن وعي كبير بضرورة إنجاز رد فعل في حجم الاستراتيجية التي أملاها التحدي الإسلامي على المسيحية الغربية. عززت هذا المشروع بترسانة رمزية محكمة استثمرت فيها كل الصور والأساطير والأشكال والحكايات والحيل لتقديم المسلم باعتباره آخراً عدوانياً وتناقضاً مبدئياً يتعين إنهاؤه. فالإسلام فرض ذاته بالقوة في الغرب ويستوجب محاصرته بالقوة كذلك، لأنه ارتكب "خطيئة أصلية"، تمت ترجمتها من خلال سلوكات "بربرية" "عنيفة"، "منفرة"... ومن وسائل رد الفعل التي شغلتها المسيحية الغربية في سياق التصعيد النفسي ضد الآخر، التجأت الى المبرر "العرقي"، حيث عملت على توظيف اللون بشكل مثير للانتباه. فالعدو يختزل في الأسود. وفي الكتابات الأدبية أو الأعمال الفنية في العصر الوسيط، كانت مجموعة من العلامات والإشارات تنسب الى بعض القيادات الإسلامية التي قاومت الاختراق الصليبي المضاد، أو اشتهرت بانتصاراتها أمثال نورالدين زنكي أو صلاح الدين الأيوبي... إلخ وقد وُجدت صور تقدم هذه القيادات بألبسة ودرقات مثل تلك التي يتميز بها الفرسان الصليبيون، غير أن "الوجوه التي يرسمونها لهم مشحونة بدلالات قدحية، مثل رأس خنزير بري مذبوح... رأس تنّين، فهد، ثعبان، عقرب. ونلاحظ أيضاً داخل هذا النظام الشعاري المتخيل المرتبط بالإسلام، استعمالاً كثيفاً للون الأسود". وتجدر الإشارة إلى أن هذا اللون في مرحلة ما لم يعد يمثل لوناً عادياً مثل الألوان الأخرى، بل أصبح يعبّر عن فأل سيّء، وغدا اللون الأبيض لونان متناقضان: الأحمر وهو اللون المفضل عند السكان الأوروبيين، والأسود، وهو لون الخطيئة والوثنية والموت. ومنح هذا اللون الى المسلم كان يمثل، في إطار التعبئة الإعلامية الصليبية، قصة العداء والتشويه المقصود لشحن وجدان الجماهير المسيحية الغفيرة، والدفع بها للاقتناع بحتمية الانتصار على الشر وتحرير الأماكن المقدسة. * كاتب وباحث مغربي