في المقال الذي حمل عنوانه صيغة سؤال: "أي تشاؤم تاريخي يسبب تصديق ملايين البشر خرافة وضعتها... استخبارات؟!" وضع حازم صاغية يده على واحدة من عدة أساطير وخرافات تحيط بنفوذ اليهود في العالم وقدراتهم الخارقة "الحياة" - صفحة "افكار" 3/9/98. هذه الأساطير والخرافات حيكت بطريقة ملتبسة ومحكمة في وقت معاً بحيث باتت اشبه بالمسلّمات في الذهن العربي، والأعجب من ذلك في ذهن غالبية المثقفين العرب والمسؤولين العرب. والأمر الخطير ان هذه الخرافات باتت جزءاً من قناعاتنا السياسية الراسخة. ففي كل يوم تقريباً يطالعنا تصريح لمسؤول عربي يقول فيه ان سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط تصنع في تل أبيب. او نقرأ تصريحاً عن "تزاوج العبقرية اليهودية والمال العربي"، او النفوذ الخرافي للمال اليهودي في اميركا والعالم الذي بلغ حداً من القوة والانتشار بحيث بات يسيطر على معظم المصارف والشركات الكبرى في العالم! أذكر في المناسبة - للدلالة على رسوخ النفوذ اليهودي الذي لا يُقهر في العقل العربي - ان مسؤولاً كبيراً في الحزب الشيوعي السوري اخذ يجادل عن "قناعة راسخة" بأن السبب الأول لانهيار الاتحاد السوفياتي السابق، ومعه الشيوعية في أوروبا الشرقية، هو التخريب اليهودي الهدام! وراح يضرب امثلة حول تسلل اليهود الروس وغير الروس الى المناصب الرفيعة في الحزب والدولة في العهد السوفياتي، وكيف تآمروا مع "اليهودية العالمية" على اسقاط النظام الشيوعي! قلت له: اذا كنت تعتقد ان النفوذ اليهودي في العالم في هذه الدرجة من قوة التأثير والفعالية بحيث يستطيع ان يقهر نظاماً لم تقهره جحافل هتلر ومن قبلها جحافل أوروبا في عهد لينين، وان هذا النفوذ من القوة بحيث استطاع السيطرة على صناعة القرار في اميركا وعلى مصانعها وشركاتها العملاقة، وعلى الاعلام الدولي، ألا يجدر بنا نحن العرب الغلابة ان نسلِّم لاسرائيل بكل شيء وأن نقبل بأي سلام يقدمونه لنا، وأن نقدم لها فروض الولاء والطاعة؟! وبُهت المسؤول الشيوعي الكبير. أهي احباطاتنا المريعة واخفاقات سياساتنا الفظيعة ما يجعلنا نبرر هذه الاخفاقات بالنفوذ اليهودي الجبار في العالم؟! أود في المناسبة ان أنوه بمقالة للكاتب اللبناني صقر أبو فخر، نُشرت في هذه الصفحة قبل شهور، حول "الأوهام السبعة حول اليهودية". وأذكر وقتها انه تناول عددا من الاوهام التاريخية ومنها "فطير صهيون". كما أذكر انني عقبت على مقالة ابو فخر في جريدة لبنانية مثنياً على جهده وطلبت اليه ان يتوسع في دحض تلك الأوهام، كلا على حدة، بمزيد من التمحيص والمناقشة العلمية خدمة للفكر السياسي العربي ولمسؤولينا الذين لا يقرأون. أود هنا، وقد حفّزني كل من ابو فخر وصاغية، على متابعة المناقشة والدراسة العقلانية، حول حقيقة حجم "النفوذ اليهودي" في العالم، محاولاً تبديد ضباب الاساطير والخرافات وواضعاً الأمور في نصابها، وداعياً جميع المفكرين والباحثين العرب الناضجين الى متابعة الدراسة في هذه المسألة المهمة من دون تقليل او تهويل. أتوقف تحديداً لمناقشة مسألتين او لنقل "خرافتين" من الخرافات التي تنسب الى اليهود. اولاهما "العبقرية اليهودية" والثانية "المال اليهودي". من الناحية العلمية البحتة لا يوجد شيء اسمه "العبقرية اليهودية". فاليهودية ليست عرقاً. انها كما هو معروف ديانة عالمية تجمع افراداً ينتمون الى اكثر الأمم تقدماً في اميركا وأوروبا وأكثرها تخلفاً الفلاشا. ومن نافلة القول ان العبقرية العرقية نظرية مرفوضة وعنصرية وغير صحيحة علمياً حتى وإن وُجد بعض المدافعين عنها. والعبقرية لا يمكن ان تنسب الى شعب من الشعوب. فلا يمكن ان نتحدث علمياً عن شيء اسمه عبقرية اميركية أو المانية او فرنسية. العبقرية تضعها جملة عوامل متشابكة ومعقدة، منها الوراثة، والوضع التربوي، والاجتماعي، والتقدم العلمي لهذا البلد أو ذاك. لا اعرف أي عالم اجتماع او باحث في علم الاجناس Ethnogeny او الاعراق Ethnology تحدث عن شيء اسمه "عبقرية يهودية". كما لم اسمع ان عالماً يهودياً تحدث عن عبقرية اليهود. ولو وجد مثل هذا العالم لكان موضع سخرية جميع العلماء المختصين. ونظرية "شعب الله المختار" غير موجودة الا في عقول المتطرفين الاصوليين من اليهود في اسرائيل او غير اسرائيل. وليست لها أية قيمة علمية، ولا يأخذها اي باحث على محمل الجد. بل ان اليهود العلمانيين يرفضونها ولا يرون فيها الا نوعاً من التعصب الديني المصحوب بالعنصرية. اما الحديث عن "العبقرية اليهودية" في الأعمال الأدبية، اي عبقرية اليهود في كسب الربا وجني الأموال بطرق خسيسة، كما في شخصية "شايلوك" مثلاً، فهذه عبقرية كاريكاتورية وساخرة، بل لعلها من نوع الفكاهة السوداء، لأنها كانت مصحوبة غالباً في الآداب الغربية بكثير من اللاسامية والكراهية التاريخية لليهود. يوجد عباقرة يهود، نعم. وهؤلاء ليسوا عباقرة لأنهم يهود. انهم عباقرة لأنهم نتاج بيئاتهم العلمية المتقدمة كأن يكونوا من الألمان او الأوروبيين عامة او الاميركيين. ولا يوجد احد يمكن ان يزعم ان اينشتاين او فرويد كانا عبقريين لأنهما كانا يهوديين. نأتي الى "الخرافة" الثانية، وهي خرافة المال اليهودي. وتتركز هذه الخرافة بشكل خاص في الولاياتالمتحدة، اي في الثراء المذهل لليهود الاميركيين الذين عرفوا كيف يستغلون هذه الثروة للسيطرة على المقدرات الاقتصادية في البلاد: المصارف، الصناعة، التجارة، وبالتالي السيطرة على مواقع السلطة السياسية: البيت الأبيض، وزارة الخارجية، الكونغرس، الأمن القومي... الخ. حين نقرأ او نسمع الأساطير عن حجم المال اليهودي وقوة نفوذه في اميركا يكاد يتملكنا الذهول، ونتساءل بسذاجة ودهشة معاً: كيف استطاعت اقلية لا تتجاوز 2.7 في المئة من سكان البلاد الهيمنة على المقدرات الاقتصادية والمالية لأغنى وأقوى دولة في العالم؟! من الخطأ اعتبار اليهود الاميركيين كتلة اقتصادية واحدة. انهم كأية فئة او طائفة موزعون على مختلف المهن والحرف والوظائف والاختصاصات. وهم موجودون في الريف وفي المدينة، في المعامل الصغيرة او الكبيرة، وفي الوظائف الحكومية والمؤسسات الاقتصادية او العلمية. صحيح ان هناك بعض اليهود الاثرياء جداً، ولهم نفوذ وتأثير اقتصادي ما، لكنهم في المحصلة ليسوا اكثر من سن في دولار الاقتصاد الاميركي الرأسمالي الضخم. ومن نافلة القول ان هناك في المقابل كثرة كاثرة من الفقراء او متوسطي الحال. تقول الكاتبة اليهودية الاميركية نعومي كوهين: "لا يتمتع اليهود الاميركيون بقوة سياسية خاصة. وقد بولغ كثيراً في قوتهم الاقتصادية. صحيح انهم اصبحوا مجموعة ميسورة، لكن ذلك عائد الى تركزهم في المدن وانتمائهم الى اصحاب الياقات البيضاء. لقد لعبوا ادواراً مهمة في عالم الصناعة الخفيفة والمنتجات والخدمات الاستهلاكية، لكنهم كانوا غائبين تماماً عن تطور الصناعة الثقيلة". ويشير الكاتب والمؤرخ اليهودي هوارد مورلي زاخر، في كتابه "مجرى التاريخ اليهودي المعاصر" الى ان يهود الولاياتالمتحدة "لم يكونوا ذوي علاقات قوية بالصناعات الرأسمالية الأساسية مثل الفحم، والفولاذ، والنفط، والسيارات، والسفن، ووسائل الاتصالات، والطيران، وهي الصناعات التي انتجت ثروة اميركا الهائلة. ولم يكن معظم اليهود موجودين بين الاغنياء جداً". هل نحتاج الى استشهادات اخرى؟! حسناً! دأبت مجلة "فوربس" الاميركية المعروفة على نشر اسماء اغنى 50 عائلة اميركية في نهاية كل عام. ومن خلال استعراضي لأعداد هذه المجلة في السنوات العشر الاخيرة لم اجد ذكراً لاسم اكثر من عائلة يهودية واحدة أو اثنتين في كل احصاء. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.