يصاب الأفراد - كما تصاب الجماعات والشعوب - بالاحباط، عندما تبنى الآمال الفردية، أو الجماعية على أحلام كبرى قد لا تتحقق أو ينجز منها نزر يسير، وأحيانا يتصور المرء أن الحلم ممكن التحقيق، فإذا به يفيق على وهم كبير. وجيلي - الذي نشأ وترعرع في أحضان حركة الاستقلال الوطني، بنى آمالا عريضة على تحسين أحوال الوطن عندما يرحل المستعمر، ويكون اتخاذ القرار من خلال النخبة الوطنية، وبعد مسيرة الاستقلال - في بلدان كثيرة مماثلة في آسيا وافريقيا - تحسنت الأحوال فعلاً ولكن ليس بالقدر الذي كان مأمولا أو متوقعا، بل نشأت أحياناً صراعات داخلية في بعض البلدان - كما في السودان وبعض الدول الأفريقية - أدت الى ضمور دور الدولة وربما الى ذبولها واختفائها، وبذلك أصيب كثيرون بالاحباط حتى هاجر البعض الى دول غربية كانت تاريخيا بلاد "أعداء الوطن". وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، تركز نظر المفكرين حول مصير الحرب الباردة بين العالم الرأسمالي بزعامة اميركا واوروبا الغربية من جانب وبين المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية في الجانب المقابل، وتكونت مجموعة دول عدم الانحياز كمخرج من التورط في صراع الديناصورات. وكانت النظريات والتوقعات حالمة بمقولات مثل "حتمية الحل الاشتراكي" لمن تصور انتصار الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف، أو ان النظام الرأسمالي يتمتع بآليات التصحيح الذاتي من خلال قنوات وقواعد الديموقراطية وحقوق الانسان وتداول السلطة ولذلك فهو مزود باجهزة المناعة الديموقراطية، وأخذ من النظم الاشتراكية القدر الذي يكفل له النفس الاطول، ومن ثم الانتصار في نهاية المطاف. ومرة اخرى اصيب العالم بالاحباط، فلم يكن متصورا ان انتصار احد اطراف الصراع سيؤدي الى تفجر مزيد من المشاكل، حيث كان "الوهم" بأن العالم صار من الرقي والتقدم بحيث لم يعد هناك موقع لقدم يبني حركته على اساس ديني او عرقي او مذهبي، وعلى الرغم من إمكان تحاشي حرب عالمية ثالثة، اذ بالعالم في نهاية الحرب الباردة يعج بالصراعات معظمها لأسباب مجتمعية ثقافية - لها بُعد تاريخي - داخل الاوطان وليس بسبب عدوان دولة على اخرى في الأغلب الأعم. في هذا المناخ، ظهر محترفو مراكز دراسات استراتيجية يتبارون لتعليل ما جرى وما سوف يجري، وكان السبق - ولا شك - لأحد علماء جامعة هارفرد في اميركا، إذ طرح صموئيل هانتنغتون رؤيته الموجزة في مقال مقتضب عنوانه "صراع الحضارات" في صيف العام 1993، ولما ذاع صيته توسع وصاغ الدراسة في كتاب تحت الاسم نفسه مع اضافة عبارة "وإعادة صياغة نظام العالم" ونشر الكتاب في عام 1996. وبدا واضحا ان استراتيجية الادارة والخارجية والاستخبارات الاميركية تتبنى الاطار العام لنظرية هانتنغتون، وهي ان العالم يعيش فعلا حقبة "صراع الحضارات" السبع "او الثماني"، كما وصف ملامحها وحدد اطرها، حتى رسم خطوط التماس التي يتوقع ان يدور الصراع حولها. واثبتت الاحداث صدق رؤية هانتنغتون الى حد كبير، الى ان تفجرت مباني سفارتي اميركا في دار السلام ونيروبي في لحظة واحدة يوم 7 آب اغسطس الماضي. وجاء رد الولاياتالمتحدة سريعا بعد نحو اسبوعين فتم قصف كل من افغانستان والسودان في مواقع محددة في رسالة قوية وواضحة، وهي ان الصراع الرئيسي المقبل سيكون بين حكومة الولاياتالمتحدة من جانب وبين التنظيمات كافة التي تتسم بالارهاب من جانب آخر. وحرص كل من كلينتون واولبرايت على تأكيد أن الصدام الحالي والمرتقب لن يكون بين الاسلام والغرب، حتى لا يفسر هذا التوجه بأنه تطبيق حرفي لنظريات هانتنغتون الذي توقع أن الحرب المقبلة - ان قُدر لها ان تقع - ستكون بين مجمل الحضارة الغربية، اي تحالف اميركا مع اوروبا الغربية من جانب، في مواجهة تحالف آخر بين الحضارتين الاسلامية والكونفوشية. ولعل ذلك ما حدا بالرئيس الاميركي ان يخطط للتجارة ثم التقارب السياسي مع الصين مستهدفا تأجيل، وربما تحاشي التقارب بين الشرق الأوسط الاسلامي بزعامة مصر والسعودية وايران من جانب، وبين الشرق الاقصى وفي قلبه الصين من جانب آخر. واحسب ان المعركة بين اميركا والارهاب ستكون طويلة الامد ومعقدة لأن الارهاب هو - في التحليل النهائي - نتاج قناعات فكرية، ومن ثم فمن يشعلون هذه الحرب الخفية يعتمدون على اذكاء روح الكراهية والنعرات الدينية او العرقية المبنية على تراث تاريخي. لذلك فإن بعض وسائل الاعلام يثير القضية على انها حرب صليبية جديدة، واعادة صياغة لبعث روح الانتقام من ماضٍ انتهى، او ان الكراهية بين العرب واسرائيل تمتد الى قرون كثيرة مضت، او أن الصراع العرقي مع السود في مواقع كثيرة يمتد الى ازمة الرق، أي إثارة ما كان يجري من بيع الزنوج ونقلهم من افريقيا الى اميركا وما شابه. وعلى الجانب الآخر يوجد تيار فكري يزداد قوة مع الزمن، لعل مركزه الاساسي في دول اوروبية مثل فرنسا او السويد او انكلترا وغيرها، حيث المحاولات مستمرة لخلق مناخ ثقافي مختلف يعتمد على فكرة التسامح وقبول الآخر، وترتكز ايديولوجيته - ان جاز التعبير - على ان احدا منا لم يختر سلالته او وطنيته او ديانته او مذهبه او حتى الطبقة الاجتماعية او الاقتصادية التي ينتمي اليها، ومن ثم فإن الكراهية الجماعية المسبقة للاخر، لا تستند الى اساس عقلاني مقنع، بقدر ما هي إثارة عاطفية او وجدانية من هيئات قائمة دينية او سياسية او فكرية تقوم على أساس احياء تاريخ مضى وانتهى، بهدف تدعيم نظم سياسية او تنظيمات دينية او دول عنصرية، وهم بهذا التصرف يضعون الزيت على نار قديمة كادت تنطفئ أو يصبون الكحول على جروح قديمة كانت قاربت على الالتئام. منذ اسابيع استجبت لدعوة من جماعة "التسلح الخلقي" لحضور اجتماعها السنوي الذي يعقد في قرية صغيرة اسمها كو CAUX على سفح جبل قريب من مدينة مونترو، التي تقع في القطاع الفرنسي من سويسرا على الجانب الآخر من بحيرة جنيف. وكانت صورة جماعة "التسلح الخلقي" لديّ غير واضحة، وكل ما كان قد تبقى عنها في وجداني هو انها جمعية اوروبية اساساً، على الرغم من ان مؤسسها فرانك كوخمان كان بدأ حياته كقسيس بروتستانتي في اميركا، وان اهدافها المعلنة او الخفية كانت مكافحة الشيوعية من خلال تقديم افكار رومانسية تعمل على تدعيم وتقارب الاديان في مقاومة الإلحاد. وعندما حضرت أجتماعاً لهذه الجماعة السياسية في آب اغسطس الماضي، إذ بي اجد نفسي بين خليط متباين من المهتمين بالحياة العامة في اربعة اركان الارض، وان اهتماماتهم في مجملها - تدور حول الحروب الاهلية والصراعات الداخلية التي عمت دولا كثيرة في اعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي. وهذه المجموعة في مجملها كانت تتناقش بهدف تحقيق الاخوة بين البشر من طريق نزع فتيل الكراهية التاريخية بين المجتمعات البشرية المتجاورة، وهو الامر الذي استوقف نظري واعتبره امراً جديداً وجديراً بالتأمل والفحص. ذلك ان معظم ما يبث على الحروب والصراعات في الحقبة الحالية، له ارتباط مباشر او غير مباشر بأحداث تاريخية وحروب طويلة او قصيرة. ومن ثم رغبت في ان اعرض هذه الرؤية - في هذا المقال، فربما يكون في ذلك - ووفق التطبيقات الممارسة فعلاً في مواقع كثيرة من العالم - ما قد يفيد في تحسين اوضاع المجتمعات المختلفة المتصارعة والمتأثرة بثقافات وتراث يختلف من بلد الى آخر ومن حضارة الى أخرى. ومن الامثلة التي تأثرت بها، ما عرفته ثم قرأت عنه، من ان هذه الجماعة المسماة "التسلح الخلقي" قامت بدور غير متكرر لكنه غير معروف على نطاق واسع، عندما مهدت الارض ثقافياً ووجدانياً لنزع الكراهية التاريخية بين فرنساوالمانيا خلال الاعوام من 1946 حتى عام 1951، والتي كان لها الاثر المباشر في نجاح البلدين في تجاوز الماضي. فالمعروف تاريخيا ان ثلاث حروب بين المانياوفرنسا امتدت عبر 70 عاما، كان آخرها الحرب العالمية الثانية وخلفت رصيدا من الحقد والكراهية. ومن ثم لم يكن ممكناً التفكير في مصالحة البلدين الا من خلال عمليات بسيطة بطيئة، وما كان ممكنا ان ينجح مخطط ضخ اموال مشروع مارشال لانقاذ اوروبا الغربية من الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، لو لم يكن مصحوباً بمخطط بارع متواز، لنزع فتيل الكراهية والحقد. فمن خلال المصالحة المعنوية تمت "التوأمة..." بين نحو 300 مدينة في فرنساوالمانيا، ثم انشاء برامج مشتركة للاذاعة والتلفزيون تقرب بين الشعبين. وخلال عشرين عاما تم تبادل خمسة ملايين من الشباب في مشاريع مشتركة شملت مجالات ثقافية ورياضية واجتماعية عدة، ففور ان قامت "جماعة التسلح الخلقي" بجمع التبرعات لشراء مقرها الحالي في قرية "كو" العام 1946، دعت مئات من الفرنسيين والالمان الى عقد لقاء مشترك، وتدريجاً بدا المناخ الثقافي يتغير من خلال الحوار والتقارب الانساني، وهي عملية نفسية وجدانية بالغة الأثر، خصوصاً اذا كانت الدعوة من خلال هيئة "محايدة" ليس لها مصالح مسبقة بين اطراف النزاع وزاد من فاعلية هذه اللقاءات انها تمت في مكان محايد ايضاً. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعندما تأزم الموقف مرة اخرى بين المانياوفرنسا عام 1950 كانت قرية "كو" هي المكان المناسب لعقد اجتماع بين شومان الفرنسي مع ايرلاندر الالماني وامكن من خلال المحادثات غير الرسمية الوصول الى حل توفيقي، وهو ان يصبح اقليم السار تابعا لالمانيا وفي المقابل سوف توافق المانيا على مشروع شومان الفرنسي، والذي كان يهدف الى توحيد المجمع الصناعي للفحم والصلب في كل من المانياوفرنسا حتى يتم تحاشي تعارض المصالح بين البلدين، ويعتقد كثيرون ان افكار شومان كانت البداية العملية التي اوصلت المانياوفرنسا الى الاتحاد الاوروبي، فمنذ عام 1950 تدافعت الاحداث الى ان كان حجر الزاوية في لقاء ديغول مع اديناور في أيلول سبتمبر 1958 في بيت الرئيس الفرنسي، حيث اعلن رسميا ان الصراع بين المانياوفرنسا انتهى الى غير رجعة. وتحتوي ادبيات جماعة "التسلح الخلقي" حالات اخرى متعددة في مواقع كثيرة من العالم، ربما كان في مقدمها ما قامت به من جهد طيب في المسار ذاته وهو تضميد جراح الماضي بين اليابان واميركا. واستمر دور هذه المنظمة في النهج نفسه من اجل المصالحة بين البشر، إما بين شعوب متجاورة كانت بينها عداوة بسبب حروب قديمة، او بين مجموعات بشرية بينها صراعات داخلية بسبب اختلاف الانتماء الى القبائل او الاعراق او اللغات او الاديان او المذاهب. وتجد هذه المنظمة، ومنظمات اخرى مماثلة، صعوبة في ملاحقة عمليات اطفاء الحرائق والحروب الأهلية، وربما اجراء حوارات تؤدي الى الوقاية من اشتعال هذه الصراعات الداخلية، وعلى سبيل المثال كانت هناك محاولات لتضميد الجروح في كمبوديا بواسطة وسطاء من اليابان او بين الفرق والقبائل المتناحرة في الصومال بواسطة وسطاء من السويد. عندما عرفت مجمل هذا التوجه لهذه الجماعة الدولية تشجعت وعرضت ما يجري في السودان، وكيف ساءت احوال البشر بسبب انتشار الكراهية التي زادت بسبب القتال والحرب، وصار هناك ثأر وثأر مقابل ليس بين الشمال والجنوب فحسب، وإنما بين القبائل الجنوبية ذاتها وبين فرق مختلفة تنتمي الى ما يسمى ب "الشمال".. وها هو السودان بعد نحو 42 عاماً على استقلاله، يقضي ما يزيد على 30 عاما منها في حروب اهلية متقطعة توقف فيها كل ألوان التنمية وزاد التضخم بشكل مخيف. وبعد ان كان السودان من ارخص بلاد افريقيا إذا به من اكثرها غلاء وتضخما. ووصل السودان الى طريق مسدود، فالحكومة المركزية في الخرطوم غير قادرة على فرض السلام على ربوعه كافة، وهي اكتفت بالسيطرة على العاصمة وما حولها، كما أن الحرب الاهلية، من خلال كل فرق المعارضة، غير قادرة على اسقاط النظام. والشعب في ذلك حائر وضائع، يعاني من المجاعات حتى الموت بعشرات الألوف، ليس في مديرية بحر الغزال وحدها وإنما يمتد الجوع والخراب والموت الى مناطق اخرى. وكان ان اقتنعت اللجنة السياسية ولجنة المصالحة في قرية "كو" بما قدمته انا وزميلي جوزيف لاغو، والذي كان يوما نائب رئيس جمهورية السودان في عهد الرئيس جعفر نميري. وتشكلت فعلا لجنة من سبع شخصيات من جنسيات وأديان وحضارات مختلفة برئاسة سير هاورد كوك الحاكم العام لجزيرة جامايكا، لعل وعسى يكون في الوساطة الحميدة "المحايدة"، ومن خلال هذه اللجنة العالمية، ما يخفف من آلام الملايين في السودان وتكون البداية المتواضعة هي ان تمدد فترة وقف اطلاق النار بين الفرق المتحاربة، وفي الوقت نفسه تؤمن طرق وصول المعونات الى الاهالي البؤساء الذين يواجهون الموت جوعا في بحر الغزال، حيث المآسي تدمي القلوب. ولعل ذلك يدفع الزعماء في كل من الحكومة والمعارضة، على حد سواء، الى القبول بالحوار في مكان بعيد عن افريقيا كلها حيث مناخ الصراعات يستشري ويمتد، والقبول كذلك بحلول توفيقية تعيد الى هذا الوطن تدريجيا امن واستقرار الاحوال ووقف الحرب في اتجاه الرخاء. ادرك ان هذا الطريق المسالم الجديد يبدو رومانسيا وافلاطونيا ولا يتفق مع ما هو معروف من صيغ صراع المصالح وديبلوماسية الدول الكبرى التي تحكم العالم، ولكن، ربما يكون هذا التوجه الجديد لتضميد جروح الماضي بانياً للثقة بين الشعوب شيئا فشيئا وان يقدم رؤية مغايرة لفكرة ونظرية حتمية صراع الحضارات التي تذكي الضغائن والكراهية من اجل مصالح ورؤى تضغط في اتجاه مضاد. * كاتب مصري