مرت أربع سنوات فعلاً على المرة الأخيرة التي شاهدنا فيها فيلماً لأكيرا كيروساوا؟ لا يبدو أن الأمر معقولاً، كيف يكون والمرء يعيش مع صور كيروساوا ترفض مغادرته. يتنفس تلك الصور. يغمض عيناه فتظهر له. ينظر الى فيلم فيه عاصفة، أعشاب، رجل عجوز، امرأة بمظلة، حديقة جميلة، محارب وحيد فيجد كيروساوا فيه. كيروساوا كان واحداً من أولئك العمالقة في تاريخ الفن السينمائي. بقدر ما كان عملاقاً بقدر ما تأتي خسارته. غاب ذلك الذي حاول الانتحار ذات مرة لأنه لم يعد متاحاً له الإخراج. الى هذا الحد كان حبه للسينما. واحد من أبرع وأفضل وأهم مخرجي العالم قاطبة. ولد في 23/3/1910 في طوكيو وفي سن السابعة عشر انخرط في مدرسة فنية عرف عنها تأثرها بالأساليب الغربية. ذلك هو ذاته التأثر الذي ميز كيروساوا عن غيره من مخرجي السينما اليابانية في مجملها أفضل سينما آسيوية الى اليوم، لكنه لم يكن السبب الوحيد الذي جعله أحد أشهر مخرجي العالم، بل القيمة الثرية جداً في الأفكار وطريقة ترجمتها الى صور سهلة التواصل مع الجمهور في أي مكان دون أن تخسر أي من ثرائها الضمني بل تضيف عليه ثراء بصرياً موازياً. سنوات من العمل مساعداً للمخرج كاجيرو ياماموتو جعلته منقذاً مستعداً لخوض تجربة الإخراج بنفسه في العام 1943. حقق ثمانية قبل أن يقوم في العام 1948 على تقديم عمله الناضج الأول "الملاك السكير". الفيلم الذي جمعه مع تاشيرو مفيوني رحل قبل أقل من عام بدوره لأول مرة وكان بداية سلسلة من الأفلام المجتمعة منها "راشومون" و"الساموراي السبعة". هذا الأخير كان مؤثراً في الغرب لدرجة أنه نقل الى وسترن أميركي من اخراج جون سترجز وبطولة يول براينر وستيف ماكوين. لكن لا شيء، على جودة التقليد واختلاف وضعيته معاً، مثل الأصل. لا شيء مثل ذلك الترقب الذي يثيره كيروساوا من دون أن ينقل الكاميرا عن وجه أو وجوه شخصياته الأساسية وهم بانتظار الهجوم الذي ستشنه العصابة على القرية. لا شيء مثل الأبيض والأسود والدكانة وتوشيرو مغيوني يحاول اقناع الساموراي بأنه لا يقل عنهم مقدرة. لا شيء مثل كل تلك الشحنات من القوة العاطفية والدرامية التي تهدر كعاصفة في كل فيلم من أعماله. "كاغاموشا"، "ران"، أحلام كيروساوا" وغيرها ليست صوراً تلخص في صفحات بل هي كتب لا توجز كما هي أفلام لا يمكن وصفها. لذا كله، كان كيروساوا في أوجه حين التحدث عن الساموراي ومرتاحاً للدمج غير الهين مطلقاً بين ما هو ياباني وبين ما هو غربي: "ران" عن الملك لير، "شوكة من الدم" عن "ماكبث"، "الأعماق الوطيئة" عن غوركي و"الأبله" عن دستويفسكي. أي فيلم هو المحبب لدي أكثر؟ جرب كلها ولو أن "درسو أوزالا" 1975 يبرز كأحد تلك التحف المنسية بقسوة اليوم. أول فيلم له بعد محاولة انتحاره التي أقدم عليها في العام 1970 وأحد أكثرها عمقاً في تحليلها لتلك المتغيرات التي شاهدها المخرج تلم بنا. ما أجمل وأرق بدايته" الضابط أحد بطلي الفيلم يبحث عن قبر درسو أوزالا. وما أجمل وأرق نهايته: يجد الضابط قبر درسو أوزالا... حيث الموت بداية كل الأشياء ونهايتها الحتمية