النقد المزدوج كما نحاول تعريفه وتطبيقه هنا لا يتأتى إلا باستعمال العلامات المتداولة في التبادل والتحاور داخل المجتمعات المغربية نفسها، ومن ضمن ذلك العلامات والرموز اللغوية. ولهذا فعلامات مثل اللائكية العلمانية والعقلنة ودولة القانون والمجتمع المدني لا تفيد في شيء اذا لم تتم ترجمتها وتوضيح قيمها في محيط جديد، والترجمة، والتقييم يأتيان من حيث الالمام بتاريخها الخاص والمفارقات التي تخللت تعريفها وتطبيقها. وهنا يظهر جانب من النقد المزدوج ذو اهمية بالغة ألا وهو ان هذه العلامات والرموز كانت ولا تزال تستعمل في محيطها في اطار صراعات ومجادلات داخل الثقافة المنتجة لها. وأي بحث في مفهوم المجتمع المدني يظهر ان مناقشته وتحليله في المجتمعات الغربية لا يزال، وكما هو طبيعي يتم بتوظيف واعادة نظر مستمرين في سيرورة هذه المجتمعات وحصائل تجاربها العملية والفكرية. هنا إذن تبدو اهمية السؤال الذي يجب طرحه: ما هي قيمة مفهوم المجتمع المدني في محاورة ومناقشة المجتمعات المغاربية لنفسها؟ والجواب عن هذا السؤال كان اما برفض ضمني او صريح لمفهوم المجتمع المدني، وإما بالدعوة له ولبناء صرحه. ولحد الآن لا زال الجواب بالرفض يستند الى مرجعية الأصالة اما بمعناها الديني او بمعناها الثقافي. فيذهب اصحاب الميول الثاني الى النداء بالدمقرطة والتحديث وكأن الأمر يتعلق ببناء مؤسسات حكومية ديموقراطية فقط. وهنا تبدو اهمية السؤال الذي يجب طرحه: ما هي قيمة مفهوم المجتمع المدني في محاورة ومناقشة المجتمعات المغاربية لنفسها؟ ولعل اهم جواب عن ذلك هو المقارنة، التي لها نفس النتيجة، فالمجتمع المدني كان مفقوداً ولا زال شبه مفقود، وبالنضال والدفاع يمكن ان يتحقق في المستقبل، والمستقبل هنا بدون تحديد. وهذه النظرية كانت قد شاعت في بعض اوساط المثقفين، والطبقات المتوسطة والبورجوازية، كما تقر بها بعض الحكومات تحت ضغط الليبيرالية الاميركية الجديدة وبتأثير من هذه الاوساط الداخلية. وقد أقرت بها بعض التنظيمات السياسية كالاحزاب التقدمية الاشتراكية والاحزاب الشيوعية التي بدلت اسماءها مع انها كانت لا تؤمن بها وذلك الى زمن قريب. وقد لا يملك المرء الا ان يتساءل كيف كتب هذا الفتح المبين للمجتمع المدني ضمن هذه الاحزاب من غير اعادة النظر في هيكلتها وسلوكاتها وفي غياب جهد نظري وثقافي لمقاربة فحوى مفهوم المجتمع المدني وتاريخانيته. وعلى ايّ، فان هذه الاجوبة عن السؤال المطروح ترتكز كلها على المقارنة اكانت هذه المقارنة، صريحة او ضمنية، او مورست مع التنكر لهذه الممارسة. وهناك نوعان من المقارنة: نوع متفائل بالنسبة للمستقبل ولكنه يتسرع الى نسيان الماضي والحاضر، ونوع ثان متشائم ينفي وجود تاريخ ومؤسسات يمكن استقراؤها من جديد، ويدعو الى التحديث بقيادة الدولة في حين يهمل التفكير في الدولة نفسها كتركيبة يجب اعادة النظر فيها. وهذا النوع الثاني يميل الى السلطوية رغم ما يظهر من تبن للحداثة الليبيرالية على مستوى الخطاب. فاذا كانت المقارنة الاولى متفائلة بالنسبة للمستقبل، فما مصير الماضي في كل ذلك؟ يتفق الكل هنا على ان المجتمع المدني يجب ان يتم بناؤه على اساس الرصيد التاريخي الخاص بالمجتمعات المغاربية، ولكن كثيراً ما يقع اغفال مواجهة هذا الرصيد. وعلى سبيل المثال نرى ان تنظيم الاحزاب والنقابات والجمعيات يحصل على الشكل المعروف في اوروبا، بينما النقاشات والنشاط يقعان بكيفية خاصة ومغايرة عما عليه الامر في اوروبا، حيث تدفع الموروث التاريخي الاكثر خطورة الى الهامش. فهي تتعرض مثلاً الى المساواة بين الرجل والمرأة وتسكت عن مسألة الارث، وتتطرق الى دولة القانون ولا تتناول اشكالية حرية العقيدة بما فيها قانون الردة الذي اعدم بسببه العديد من الاشخاص. وهناك امثلة شتى، من هذا النوع، تبدي ضمنية مفرطة في المفاهيم، مبدية تجنباً واضحاً للمشاكل الكبرى، فتبقى مناقشات ونشاطات هذه التنظيمات محصورة في فضاء ضيق، يضيق اكثر فأكثر بسبب تناسي قضايا شائكة وقعت معالجتها في سياق المجتمع المدني الاوروبي والاميركي. ويظهر جلياً من خلال هذه الامثلة، ان القصور هنا بنيوي وليس ظرفياً، اذ اننا نجد تنظيمات تتكون على اساس الحرية الفردية لاختيار مجالات العمل والنضال، تحت شعار المجتمع المدني، لكننا في نفس الوقت نفاجأ بكيفيات وطرق العمل داخلها، التي تبدو وكأنها تكبل الارادة والعقل، فتصبح التنظيمات تلعب دور المؤطر لمصالح الفئات الحاكمة ودور المنبت الذي يربى به الشباب تربية تجهض تطلعاته الى الحوار الحر واستعمال طاقاته للاستشراف وبعث الأطوبيا. ولا إشكال إذا لعب المجتمع المدني دور الرحم في إنجاب الأطر الواعية والمسؤولة، وإنما يطرح الاشكال عندما يأتي هذا الدور على دوره الرئيسي وهو انجاب الأطر لبناء تنظيمات دائمة تحتفظ باستقلاليتها وبقدرتها على الخلق والنضال المستمر الهادف الى تنمية المجتمع ومساهمته في بناء مؤسساته. ومن جهة اخرى تكون القيم التي تتحكم في هذه التربية وفي توجيهها مضادة للقيم المعلن عنها دخول التنظيمات على اساس الحرية في الانخراط والمناقشة إذ تتحكم فيها تواصلات وعلاقات ومعايير مبنية على اساس العمر والجنس والقرابة بما فيها القرابة الدموية والمصاهرة: اي على اسس تتحكم فيها العاطفة اكثر من العقل حب العائلة، المروءة والحشمة الخ، وتقيم سيرة الاشخاص بهذه المعايير في اطار مجموعات بشرية، تتكون وتنمو على اسس الصلات الشخصية. واذا اضفنا الى هذه الظاهرة مسألة العلاقة بالفئات الحاكمة والدولة، فاننا نجد ان المجتمع المدني كما يظهر في محيطنا المغاربي لا يتموقع في الفضاء الوسائطي الذي وصفه هيجل، فيصبح من جراء المقارنة المتفائلة وهماً يفنده واقع حكمي الدولة والثقافة. واذا كانت هذه هي حصيلة ما سميناه بالمقارنة المتفائلة فما هي الخلفيات التي يمكن ان تتمخض عن النوع الثاني من المقارنة، التي سميناها بالمقارنة المتشائمة فيما يخص الماضي والحاضر معاً. هناك عدد من المنظرين يرون ان الدور الرئيسي في التحديث يرجع الى جهاز قوي للدولة او الى جهاز سلطوي ومتنور. وجميع هؤلاء المنظرين سواء كانوا مغاربيين او اجانب تتوافق افكارهم فيما يخص المفهوم الليبيرالي للحداثة ذلك بالرغم من الفروقات التي تظهر بين تحاليلهم للماضي ونظرياتهم للتغير الاجتماعي. ويمكن تلخيص المقارنة المتشائمة فيما يأتي: لا وجود للمجتمع المدني في تاريخ مجتمعاتنا ولا في حاضرها، وتركيبته التاريخية منعدمة: فلا سوق حرة واسعة، ولا تنظيمات كثيفة كانت تمارس بداخلها الحريات على نمط حرية المبادلات. وتضيف هذه النظرة في تعريفها للمجتمع المدني، تقسيم العمل والتخصص، بما في ذلك التخصص في ميدان الحرب أي في المهنة العسكرية حيث يصبح مجالاً خاضعاً لمنطق السوق مثله مثل الميادين الاخرى كما يضيف التعريف في كتابات العديد من المفكرين الغربيين امثال إرنيست كيلنير عنصراً آخر يمكن تتبعه عند هيجل وماكس فيبر، ويتعلق الامر بعنصر ثقافي مفاده ان الديانة المسيحية تفرق بين الدين والدنيا وتعترف للحكم بأسسه ووظائفه الخاصة، الأمر الذي أسفر، في نظر هؤلاء، عن ظهور مؤسسات تفصل بين الدين والدولة، وان تاريخ الانتفاضات والحركات الاصلاحية في المجتمعات المسيحية افرزت توازناً في ميزان القوى الاجتماعية، بين الحركات المتطرفة والحركات المحافظة التي تضفي طابع المشروعية على التقاليد الدينية الشعبية، هذه التقاليد التي تمارس وتقبل الوساطة بين الله والانسان وساطة القسيس بالنسبة للمسيحية الكاثوليكية. ووساطة الولاية بالنسبة للاسلام. ان هذا التوازن في القوى، حسب هؤلاء المفكرين، اسفر بدوره عن دفع التيارات الدينية الاصلاحية في اوروبا، وبالخصوص البروتستانت الكلفيينيين، الى تقديس الشغل لبناء عالم جديد مبني على المثل العليا التي آمنوا بها، عالم بحسن بنائه يكون كل معتنق للبروتستانتية قد عبّر عن طاعته لله. وحسب هذه النظرية التي قام بنشرها العديد من الباحثين منذ السبعينات، فقد صادف تطور هذه التيارات الدينية عملياً توسع نظام السوق الحرة وتجاوب معه في تنمية التخصص، وتم بذلك تلقيح السوق والتخصص بأخلاق الشغل الهادف والمستمر الذي أسس رصيداً ثقافياً وضع حداً للاستبداد الممارس من طرف الحكام: فأصبح هؤلاء كرجال حرب وأمن لا يعدو شغلهم سوى تخصص كباقي التخصصات، ومهنة تباشر مقابل اجرة وليس امتيازاً ينتفع به ويمارس عن طريقه الشطط في الحكم. في هذه الرؤية التي تجد مرجعيتها في كتابات آدم وفيركسن وهيجل، تظهر المجتمعات العربية الاسلامية، وضمنها المجتمعات المغاربية، كمجتمعات منقوصة من عدة اشياء، وهذا النقص هو الذي حال بينها وبين نمو المجتمع المدني، حيث يذهب البعض الى ان الأسس الثقافية للديموقراطية تنعدم تماماً في تركيبتها. وكان من المتوقع في نظرهم ان تتعصرن بسبب دخول الثورة الصناعية اليها من الخارج، لكن هذا التغير أسفر عن انتصار التيارات الاصلاحية الاسلامية التي تدعو الى التوحيد والعمل، وهي تيارات تطابق التحول الى المجتمع الصناعي الا انها، في آن واحد، تركز اواصر نوع من الحكم مناف للمفاهيم والممارسات الديموقراطية الغربية بما فيها مفهوم المجتمع المدني. لا تختلف هذه النظرة كثيراً عن نظرية الاستبداد الآسيوية كما جاء بها كارل فيتفوكَل في الخمسينات، والاهمية البالغة التي يوليها اصحابها الى الفصل بين الدين والدولة ووحدانية الرصيد الثقافي الغربي لهما جذور معروفة في نمط من الاستشراق ظل ينادي بالمعجزة الاوروبية منذ القرن التاسع عشر. وهذه النظرة تطالب المسلمين والعرب، ضمنياً او علنياً، بالتخلي عن ثقافتهم والاندماج في الحداثة بمفهومها الاوروبي. ولا زال لها دعاتها الى اليوم من امثال المستشرق بيرنار لويس وبعض اتباعه مثل مايكل كوك وباتريشيا كرون، ومن علماء الاجتماع والسياسة الذين يتخذون من الدراسات التاريخية لهؤلاء اساساً للتنظير هناك إرنست كَيلنر وسامويل هانتينكتون. وهذه النظرة هي نظرة دفاعية/ هجومية على "الحضارة" بمعنى الحضارة الغربية ضد خطر يحدق بها وهو الخط الاسلامي في رأي هانتينكتون والذي يسميه كيلنر بالنمط "المنافس" المتمثل في النظم والقيم الدينية الاسلامية. وقد بين نقاد كثيرون عيوب هذه التصورات التي تدعي الموضوعية مع ان اغراضها السياسية جد جلية، اذ انها امتداد لنظريات تفرق بين هويات مثالية تغض الطرف عن تداخل الثقافات، وتحشر المسلمين في صورة تهمل هومهم واختلافاتهم ومعاناتهم من جراء الاستعمار بالامس، والهيمنة المفروضة عليهم اليوم، بما في ذلك الزعم الهزيل الذي يركز على نظرية الحداثة الوحيدة، ويتغافل عن امكانية وجود طرق مختلفة نحو حداثات مختلفة نابعة من خصوصيات ثقافية يكون من الخطأ الجسيم تكبيلها بنموذج واحد. على كل حال فان نظرية النقص هذه تتناسى ما كان قائماً وموجوداً داخل هذه المجتمعات نفسها وذاكراتها التاريخية، وقد يشجعها على هذا التناسي، اغفال هذه الذاكرات من طرف العديد من دعاة الحداثة من ابناء وبناة المجتمعات المغاربية نفسها، وضمنهم الكثيرون من الذين يناضلون اليوم من اجل المجتمع المدني واقرار دولة القانون والديموقراطية الخ. وتشهد الذاكرة التاريخية على اختلاف رواياتها، عن اهمية الدور الوسائطي بين الدولة والمجتمع الذي كانت تلعبه مؤسسات قروية وحضرية مثل الحنطة والزاوية والجماعة ونقابات الشرفاء وغيرها. ولا يخفى ما كان للعلماء من دور بارز في تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، بل وفي تطوير تفسير الوحي والحديث وسن الشرائع مع الأخذ في الاعتبار تنوع الظرفيات والخلفيات. والانخراط في أي شبكة من هذه الشبكات المنظمة كان حراً، سواء تعلق الأمر بشبكة منظمة كالحنطة والزاوية، أو شبه منظمة كدوائر العلم. وما يهمنا هنا هو الدور الوسائطي لتلك المؤسسات والحدود التي كانت تضعها تجاه سلطة الدولة، واذ تحكم التقليد في شتى الأمور فإنه لم يمنع من ظهور الاختلافات المذهبية والسياسية ولم يمنع من الخروج عن دائرة التنظيم القرابي القبيلة، العائلة في الشبكات العلمية والصوفية والتجارية. وأما الاستبداد وميولات الحكام الاستبدادية، فإنها كانت من المشاكل التي كان يتخبط فيها المفكر المغاربي نفسه والذي كان يشعر بها قبل وإبان وبعد الاستعمار. بل انها طرحت قبل شيوع فلسفة التنوير في البلدان العربية والاسلامية، وكل ما هناك ان تقنيات فلسفية جديدة ما فتئت أن وظفت من طرف المفكرين في تحليل تلك الاشكالية، فالسوق الحرة، والوساطة، والحد من السلطة هي أشياء معروفة في الثقافات المغاربية، وقد تطورت قبل وخلال الاستعمار الى حد النقد الذاتي والدعوة الى الاجتهاد والتجديد، ونما هذا المجهود ونداءاته بتطوير المفاهيم الاسلامية للحكم والشورى على طريق الانتخابات والبرلمانات والتنظيمات النقابية وغيرها. وهذا تراث راسخ قامت عليه أفكار علماء النهضة والحركة السلفية، وما زال حياً وقائماً، ومن الممكن تطويره بالنسبة لحرية الضمير، ومشاكل تهم الردة والمساواة في جميع الحريات والامتيازات بين المرأة والرجل وغير ذلك من القضايا المطروحة لإقامة المجتمع المدني. لكن أي مجهود جديد في هذا الاتجاه يحتم ولوج الطريق الثاني في النقد المزدوج ألا وهو مناقشة ومحاورة الثقافة لنفسها، والمدخل الاساسي لهذه المناقشات هو مفارقات الثقافة في جميع ميادينها: في لغتها وبلغاتها، أي جميع العلامات المستعملة للتبادل داخلها تبادل الآراء، تبادل الطعنات، تبادل الاختراعات الفنية والعلمية والتقنية، أو بعبارة أخرى اللغة كألسنة، وكمعاملات: اللغات الجسدية، لغات اللباس والمطبخ والجنس المغازلة، لغات السلطة والنفوذ والصمود، لغات العمارة والفنون، لغات الخشوع والتناجي مع قوة الوجود، أي اللغات بكل ما تختزنه وتتوالده من علامات تهم كل مجالات التواصل الانساني. ان تعميق النقد الذاتي ومناقشة الثقافة لنفسها انما هو تعميق لمناقشة دشنها مفكرو عصر النهضة وضمنهم العلماء والفقهاء والكتاب. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر أبدى رجال العلم العرب والمسلمين رغبة ملحة في الدعوة الى انبعاث الشعوب العربية والاسلامية، ولا غرابة ان يتداخل في مشروع كهذا الفكر الديني والفكر الوطني، وان يتصلا إما في صيغة الأوطان المستقلة والمرتبطة بروابط القيم والتعاضد على أساس الدين، كما هو الحال عند محمد عبده، أو في صيغة فكر وممارسة وطنيين يحترمان الدين وينبنيان على أساس أهداف الدولة الوطنية والاتحادات الكبرى على أساس القومية. والتداخل الأول جلي في فكر إبن باديس وعلال الفاسي، أما التداخل من النوع الثاني فيظهر واضحاً في فكر الوزاني وبنبركة وفي فكر زعماء ومفكرين ما زالوا يمارسون نفس التداخل. والواقع ان هذه التيارات ما زالت موجودة وفعالة داخل المجتمعات المغاربية، وهي تتعايش مع تقاليد وممارسات أخرى ومع أنواع جديدة من المؤسسات في مجال العلم والاقتصاد والفنون وغير ذلك من المجالات. والأهم في كل هذا هو انه إذا كان هذا الرصيد الضخم وعلى الخصوص ذلك القسط منه الذي نرثه عن زعماء الاصلاح في عصر النهضة وإبان الاستعمار، قد تناول بالنقد بعض التنظيمات العتيقة، كالزاوية والقبيلة مثلاً، فإنه في نفس الوقت ليس فيه ما يتنافى ومنطق العلم أو منطق الزوايا كفضاء للتعبد والتواصل، ولا بالأحرى منطق الجماعة كتنظيم لمجهود جماعي أو منطق الدفاع عن استقلالية التنظيمات التي تنبثق عن حاجات المجتمع كالتنظيمات الخاصة بشؤون النساء والشباب والشغيلة وشؤون الثقافة والفن والتريض والعمل السياسي الى غير ذلك. وتعميق النقاش والتحليل والتنقيب الذي ظهر في محاولة حوار الثقافة لنفسها يتطلب حرية التساؤل كما يشهد على ذلك هذا الرصيد نفسه الذي لا يمكن رميه بالدخيل لكونه نابعاً من صميم الثقافات المغاربية وتاريخ وعيها الجديد بنفسها. وإذا سلمنا بهذا وبمشروعية التساؤل فقد سلمنا بحرية البحث وبحرية الأجوبة وحرية نشرها والدفاع كيفما كانت محتوياتها. وعلى ضوء هذه الحصيلة تظهر المفارقات التي تشوب الفكر الوطني والديني لدى بعض الأوساط المغاربية، اذ كثيراً ما يجدون أنفسهم في موقف المتعارض مع نفسه كلما سمحت هذه الأوساط لنفسها بالتباهي بحرية الأسئلة ونبذت أو منعت في الوقت نفسه حرية الأجوبة. وهذه المفارقة المعضلة هي التي تتجلى في القومية التي ما زالت تعتمد على الحزب الوحيد، وفي ممارسات الجماعات المسماة بالأصولية التي تتطاحن عنفاً في ما بينها وتعلن الحرب على باقي مكونات المجتمعات المسلمة باسم صنف واحد من الأجوبة على مشكل حوار المجتمع لذاته ووعيه بذاته، ويحاول ان يفرض على الجميع ذلك الجواب الذي يختزل الحل لمشاكل مجتمعاتنا الحاضرة في الرجوع الى عصر ذهبي يخرج عن حيز المناقشة والتعميق، وجلي ان زعماء هذا التيار يأتون بتأويلات خاصة بالإسلام يهدفون فرضها كدستور على عامة المسلمين. إذا كان منطق الاستقلالية عن الدولة في النظر الى المصالح الاجتماعية موجوداً في التاريخ الاجتماعي والثقافي المغاربي، وله سوابق مؤسساتية معروفة انقرضت كتنظيم دون ان تنقرض كمنطق وتصور لأنواع جديدة لتنظيمات وسائطية جديدة تلائم المرحلة الراهنة في تطور السوق والصناعة من جهة، ومن جهة اخرى اذا أمعنا النظر في الرصيد الضخم الذي أنجز في سبيل تعميق نوع جديد لوعي المجتمع بذاته، اذا ثبتت هاتان الحصيلتان فإنه يصبح من الممكن التفكير في مفهوم ممارسات المجتمع المدني، كمرحلة جديدة لتضخيم الرصيد المنجز بتطويره، والتطوير يتم بالتفكير في ما يفتقر اليه ذلك الرصيد، مع توليده من مكوناته واستعداداته نفسها. * أستاذ الانثروبولوجيا في جامعة برنستون - الولاياتالمتحدة الأميركية.