جوزف زعرور، شاعر الصداقة في لبنان، غَدَرتْني فجأةُ غيْبوبته وغيابِه. أنا وحْدي. وحْدي مع الحزن. الجلطة الدمويّة التي أسكتتْ زعرور، عطّلتْ قلمي، الى حين. الكتابة الآن، ولو في صديقي الأحب، فنٌُ باطل. أمام الموت لا كلام. حسْبي أن أتذكّر آخِر أيام لي معه صيفَ 1997. فأَسكتُ، أَفسحُ له في الكلام، أُعِيرْه أخوّةَ قلمي. وصل جوزف زعرور الى لندن في أواخر آب اغسطس من السنة الماضية. كان يحمل حقيبة سَفر مختصرة ليس فيها إلا الضروري. فالرجل شديدُ التقشّف، شبهُ ناسك. كان قادماً من فرنسة وقد لبّى دعوة الى حفلة عرس في بعض قرى الريف الفرنسوي. الاحتفالات بالعرس هناك تستمر أياماً تُنسى فيها - أو تُتناسى - الخلافات الحزبية وسائر الخصومات، اذ يُدعى جميع أهل القرية الى احتفالات العرس قرىء مقطع عن الزواج من كتاب "النبي" لجبران، ترجمة كميل ابو صوان. والقصد تعميم الفرح على الجميع. قال زعرور انه يرى ان هذه الاشتراكية الاحتفالية هي الاشتراكية الوحيدة الناجحة 100 بالمئة - الى الآن - في فرنسة، لأنها اشتراكية بريئة من السياسة، ومن العقائد ومن تضارب المصالح. وبينما كنّا في حديث العرس القرويّ، إذ أذيع نبأ مقتل ديانا أميرة ويلز ودودي الفايد. فوجمنا، زعرور وأنا، ثم قال: "تُقْبر ها الدنيا. فرحُ ساعة. وترحُ ساعات". ثم أخذتْ تتوارد الأنباء عن الحادث وعن أصدائه في العالم وخصوصاً في الجزر البريطانية. فراقب جوزف زعرور ذلك كلّه أيّاماً تردَّد في خلالها الى حدائق كنسنغتن يختلط بالجماهير، يشاهد، يَسمع، يستخلص. قال: "ديانا نتيجة لشيء ما، لظاهرة سياسيّة واجتماعية تشتغل في الشعب البريطاني، في عقله وفي قلبه، وأُرجّح ان وفاة ديانا ستكون مُنطلقاً لتطوّر في النظام الملكي. الشعب هنا يصوّت بالزهور وبالحضور وبالشموع، وبمواكب الصمت، فضلاً عن قصائد الرثاء، وأحايين كثيرة بالدموع. نعم هناك عشرات من الباكين والباكيات بين الجماهير. صوتُ الشعب هنا فعلٌُ لا قول. الشعب يعرب عن موقفه، فيتمسك به، ولا يحيد عنه. ويبقى الشعب هنا في حدائق كنسنغتن يوماً فيوماً، وليلة فليلة، الى ان يشعر ان صوت الشعب وصل الى حيث يجب ان يصل. ومع ذلك فالشعب البريطاني محافظ - محافظ على رباطة جأشه، وهدوءِ أعصابه، ومحافظ، ايضاً، على تراثه وتقاليده. أكثرية الشعب مع النظام الملكي، إلا أنها تريده ان يتطوّر، أنْ يطوِّر نفسه، وإلا طوَّرته هي. هذه هي الديمقراطية الحقيقية. الآن لمستُ لماذا يسمّى مجلس العموم أُمَّ الديمقراطيات. مقتل ديانا فجَّرَ موقف الشعب، الا انه انفجار مسالم، غير عنيف، وإنْ يكن شديد الإصرار. ولا شك ان علماء السياسة والاجتماع سيدرسون تلك الظاهرة فيستنتجون اموراً كثيرة سنرى تأثيرها في المملكة المتحدة. ولا شك ان طوني بلير عرف كيف يسيطر على الموقف". وختم زعرور تعليقه على مقتل ديانا، قال: "ليتنا، في لبنان، نتعلّم كيف نستنتج!". لمّا رأى جوزف زعرور قصائد معلّقة على درابزون حدائق كنسنغتن، نظر اليّ وقال: "بحكم تداعي الافكار، ولأسباب اخرى، يسرّني أني ترجمتُ وأُترجم قصائد لأنسي الحاج ستُنشر في باريس نُشرتْ. وأني أتأهب لكي أترجم قصيدة أنسي: "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" بعدما نشرتْ طبعتها الثانية "دارُ الجديد" في بيروت. أنسي الحاج يمكن ان يترجَم بلا صعوبة، ولست أقول بسهولة. نَصُّه قابل للسفَر من لغة الى لغة، وهنا من العربية الى الفرنسوية، من غير ان يظهر على النص أي أثرٍ من وعثَاءِ السَفَر. المسافة الشعرية عند إنسي، مع كل أبعادها، قريبة من القلب. وكلُّ قريبٍ من القلب، قريبٌ منّي". ثم التفت اليّ، فقال: "عندي خبر عن ترجمة اخرى أنوي أن أقوم بها بعد انتهائي من أنسي. الترجمة هي لبعض أشعار أدونيس. أفكّر في "أغاني مهيار الدمشقي". لكنْ أرجو منك ان تُبقي الخبر بينك وبيني ريثما اكون قد تفرّغتُ لهذا المشروع. ان أدونيس يستحق ان يُترجَم أَحسَنَ مما تُرجِمَ بعض شِعْره. لكن عالم أدونيس الشعري، وما فيه من إشراقاتِ تصوّف، يستدعي الرجوع الى ينابيع التصوّف العربيّ قبل أن أترجم". سألتُ زعرور عن رأيه في لبنان 1997. فقال: "صحيح ان حروب - لبنان 1975 فما بَعْد - انتهتْ في الميدان او في الميادين، وصحيح انه كلما تقدّمتْ بنا السنوات، ازددنا إبتعاداً عن جوّ الحرب، الاّ ان معضلة لبنان اليوم هي لبنان ما بَعْد الحرب. القضية الاقتصادية - الاجتماعية قلبُ مشكلتنا. الطبقة الوسطى الله يرحمها. لم يبقَ منها شيء كثير. انها ضاعفت الطبقةَ المحرومة أضعافاً. سوادُنا الأعظم هو من الطبقة المحرومة. ألوف اللبنانيين نُسوا طعم الفواكه، وطعم السمَك. أثرياء الحرب أكلوا وهضموا الأخضر واليابس. إنهم أقليّة. ولكنهم أقليّة ضارية. لا يقدر لبنان ان يعيش بلا الطبقة الوسطى، ولا يقدر لبنان ان يحيا اذا لم يَقدر ان يعيش". وضع زعرور يده على قلبه، فنظرتُ اليه كأنني خفتُ ان يكون شعر بتعب. فشعر بما شعرتُ به: فقال: "بقلبي وجَعٌُ. وجعي من لبنان لا من قلبي إنني آخذ كل يوم حبّة اسبيرين. وأكثر ما يوجعني أن أرى مَن لا يشعرون بوجعِ لبنان. صحيح انهم أقلية. ولكنهم - وأُكرّر - الأقلية الضارية. ما أصدق قولك في أحد مؤلفاتك: "أمةٌ ضارية تفترس معنى الانسان كأنّ كل ما فيها أنياب"! لبنان لا يسعه ان يحتمل هذا التناقض الفاحش بين جماهير الأكثرية وأقليّة الأقلية - هذا التناقض بؤرةُ أخطار". توقف لحظة، فتناول حبّة أسبيرين، ثم قال: "لم تسألني عن ترويكا لبنان. الترويكا الحقيقية في لبنان هي ترويكا صفير - بطرس - تويني. البطرك صفير بشمولِ حَكْمته، فؤاد بطرس بعمقِ حنكته وتجربته، غسان تويني بألمعيّة جدارته وعموميّة علاقاته. هذا المثلّث حبّذا لو تُقابله في الجانب المسؤول ترويكا تستحق التسمية. التاريخ لا يَرحم. والرجال، عندنا، أقل من القليل. وكلما غاب رجل ازداد الفراغ وخصوصاً أن المواهب الطالعة تُفضّل ان تهاجر إن استطاعت. والقضايا المتراكمة اكثر من الهَمّ على القلب". هنا قال لي زعرور: "تعَبٌُ كلّها السياسة. فهاتِ ما عندك". وقبْل أن أجيب، وقع نظرُه على كتاب "عهد الندوة اللبنانية". فابتسم وقال: "لولا غسان تويني لما تيسّرَ نشرُ هذا الكتاب في الشكلِ وفي المضمون اللذين نُشر فيهما. تويني مؤسسةُ إعلام ونشر وسياسة وعلاقات عامة وخاصة تشغل في لبنان وفي الخارج مركزاً رئيساً لولاها لكان بقي شاغراً. أهمَّ ما صنعت هذه المؤسسة الكبرى هي انها لا يُستغنى عنها". وبشيء من تداعي الافكار، او بتوازنها وتَعادُلها، انتقل جوزف زعرور الى فؤاد بطرس، صديقه الكبير، فقال: "اقترحتُ على فؤاد بطرس أن يكتب مذكّراته فلا يكتفي بنشر مجموعة مقالاته ومحاضراته "كتابات في السياسة" وإن تكن هذه المجموعة مَرجعاً وشهادةً لمن يريد ان يَفهم لبنانَ. وقلتُ لبطرس: لأنك حكمتَ لبنان ست سنوات في الأقل، من خلال الياس سركيس لا مِن ورائه، ولأنك تمرّستَ بالشؤون الدولية من عالمية واقليمية، اضافة الى قضايانا الداخلية، فقد اصبح واجباً عليك، واجباً وطنياً، ان تكتب مذكّراتك فتنشرها مع الوثائق. فشعرتُ ان كلامي أقنع فؤاد بطرس فوعدني بأن يدرس اقتراحي ويوليه العناية التي يستحقها، وعند رجوعي الى لبنان، ارجو ان اسمع منه ما أتوقع". سألت زعرور هل يحب ان نمضي في نزهة مشي يومية، في اثناء زيارته لندن. فرحّب بالفكرة وقال ان المشي، في الريف اللبناني، سهلاً وجبلاً، هواية زعرورية قديمة منذ ايام المدرسة. فالطبيعة اللبنانية فاتنة. الشجر والزهر والصخر والينابيع والطير، فضلاً عن ثمر لبنان وخُضره، آيات تسبّح الله في جمال عطائه "لكننا، كما يقول الأخ جوزف، اخذنا نقتل الطبيعة، لا نكترث. عدم الاكتراث آفة من افتك الآفات في لبنان. وهناك ايضاً التعديات على اصول التمدّن، التعديات المهندَسة بلا شعور بالمسؤولية. تلك مهنة يرتزق منها سماسرة مختصون بفنون اللاتجميل. ان الجمال الطبيعي والعمراني يحتضر في كثير من مناطق لبنان". وختم زعرور يقول: "ان شجرة بول فاليري يرافقني حوارها في كثير من نزهي الريفية". فقلت له: هل تحب البحر؟ فقال: "احبه للسفر لا للسباحة! البحر، كما نعلم، رمزٌ للانفتاح والحرية - وللتحرر ايضاً. وأحب الجبل، لكن حبي له غير حبي للبحر. الجبل، عندي، رمزٌ للصلابة وللثبات ولمغامرات التسلق. البحر افقي. والجبل درب صعودي. انا ابن الجبل ورفيق البحر". فأحسست ان الشعر قد سرت انفاسه في نفس زعرور وهو يكلمني على البحر والجبل والطبيعة. قلت له ما آخر كتاب قرأت؟ فقال: "طواسين الحلاج. اعدت قراءته. الحلاّج والنفري والسهروردي كتاب إميل المعلوف كتبٌ كثيراً ما رجعت اليها، وكلما رجعت اكتشفت فيها ابعاداً جديدة". "ثم انني، في بعض الأيام، اقع تحت تأثير باخ. فأبقى معه اصغي اليه وخصوصاً على الارغن. باخ طريقي الى الصلاة. وأحياناً الى الله. كما ان اوليفيه مسيان - عزف ناجي حكيم - ينتشلني من مهاوي اليأس". قلت له: أية مسرحية تحب ان نرى هذا الاسبوع؟ وعرضت عليه البرنامج فقال: "جان درك" لجورج برناردشو. الاستشهاد هنا يتخطى قصة جان درك، الى صميم معاني الفداء. والغريب ان شو، غير المؤمن، قد انتهى - من حيث يدري او لا يدري - الى موضوع الفداء عبر جان درك". شاهدنا المسرحية. فلما خرجنا قال لي: "نذهب الى الكنيسة، اقرب كنيسة". فقلت له: الآن الساعة 11 ليلاً والكنائس مقفلة. المطاعم وتوابعها مفتوحة. ونحن هنا في جوار منطقة "سوهو"... فما رأيك؟ فقال: "من بعد "جان درك" الصوم حلال. والصلاة حق". فألهمني الحس انني أقارب منطقة محرّمة... فأحببت ان أداعب "الراهب" زعرور. فقلت له: "ما دور المرأة في حياتك وما مغامراتك معها"؟ فنظر اليّ نظرة كلها جدّ كمن لا يستطيب هذا اللون من المداعبة، وقال: "في حياتي ثلاث نساء: أمي، وزوجتي، وشقيقتي". * أمضى جوزف زعرور اسبوعين في لندن صيف 1997. ثم ودّعنا، جون زوجتي وأنا، فوعدنا ان يزورنا في صيف 1999 لكي نودّع معاً آخر صيفية من صيفيات القرن العشرين. لكن لم نحسب حساب الموت. * كاتب ومفكر لبناني