1 ينقضي عهد من الخطاب النقدي عن الشعر العربي الحديث، ونحن لا نحس بفداحة الخسران الذي نراكمه، من جراء اصرارنا على عدم النظر الى انفسنا بالعين الناقدة. خلاصة عامة يمكن ان نتقدم بها. ونحن نقبل على طرح المسألة الشعرية. في أفق مغاير. أي أفق زمن مقبل بأوضاع ووقائع، ستفاجىء كل المطمئنين الى احوالهم. اليوم. حتى ولو كانوا مقيمين في مركز أوروبي. متوهمين ان إقامتهم في المكان كافية لإدراك ما يحصل، عربياً، في الشعر وفي الحياة الثقافية - الاجتماعية، انه أفق تنسج خيوطه، بعنف محجوب، احياناً، وظاهر للعيان، احياناً اخرى. وهو في جميع الصيغ مفاجىء، بحكم الطريقة التي لا نغادرها، في التعامل مع انفسنا، ومع المحيط العام، تعاملاً، من خارج الزمن. من هنا تبدو العودة الى بعض نماذج الثورة الفكرية في العالم، العربي، الحديث، مفيدة. ولعلها برأيي، تتمثل في صدور كتاب "في الشعر الجا-هلي" لطه حسين. هذ كتاب عزيز على نفسي، لدرجة اني أعيد قراءته مرات، لأبحث فيه عن جمل مختفية، لا أصل اليها مباشرة، في هذه القراءة، أو تلك، وهو يمثل، بالنسبة لي، الطاقة اللامحدودة على تفجير الاسئلة في زمننا الحديث، كتاب مضى على صدوره اكثر من ثمانين سنة، في مجتمع يتراجع باستمرار، وهو مع ذلك يظل متقدماً علينا، في الزمن، كتاب يسبقنا، في قضايا نعتقد، خطأً، اننا انتهينا، منها. فاذا هي تشتغل في خلفية الكلمات، والرؤيات، ظاهرة نجد مثيلاً لها في اعمال عربية وغير عربية، اعمال، ما تزال تسبقنا، في معالجة اسئلة وقضايا، لا ننتهي من العودة اليها، في تفاصيل ما ننشغل به. كتاب "في الشعر الجاهلي" وهو العنوان الذي احتفظ به على رغم صدور طبعته المعدلة بعنوان "في الادب الجاهلي"، يطرح مسألة الانتقال من العقيدة الى المنهج. لكن هذه العقيدة ليست متمثلة في الدين بمفرده. كما كنا نلح عليه في التأويل، ان العقيدة تشمل كل ما نصدر عنه في تعاملنا مع الشيء، الادبي، والشعري خاصة، ليكن الشعر الجاهلي، بالنسبة لطه حسين، وهو بالتأكيد، لا ينحصر في الجاهلي، نصا وزمناً، على السواء، يمكن ان ندرك تعدد دلالة العقيدة ونحن نتناول الموشحات، الاندلسية، أو الشعر الصوفي، عبر عدة اقطار ومناطق عربية واسلامية، أو الشعر الذي نسميه اليوم ب"الشعبي". نماذج محدودة، تنتمي للقديم، وفي الوقت ذاته يمكن لمفهوم العقيدة، كما يطرحه طه حسين ان يقتحم الخطاب الشعري العربي الحديث، والخطابات النقدية المصاحبة له، ويكون طه حسين بدوره خاضعاً للتفكيك، ما دام أنتج خطاباً عن الشعر العربي الحديث، متعدد الجوانب والمستويات، سواء أتعلق الامر بالشعر في مصر، أم في بلاد عربية اخرى، كالسعودية مثلاً، في وقت لم يكن احد يبالي بوجود شعر اسمه "الشعر السعودي"، لذلك فان مفهوم العقيدة ما يزال قابلاً للاستعمال في قراءتنا لوضع شعري عربي حديث، تزدحم فيه اسئلة، لا يبدو ان إثارتها تثير حماسة العاملين على شؤون الفعل الشعري، في نهاية قرن لا نثق بعد انه سيسلمنا لقرن مقبل، من الدخان الكثيف. 2 إيراد نموذج كتاب "في الشعر الجاهلي" يهدف، قبل كل شيء الى طرح المسألة التي لم نستطع حتى الآن حلها. في قراءة الخطاب الشعري الحديث، هي مسألة العقيدة، رغم ان مظهرها تغير عما كان عليه في بداية القرن، لدى فئة من النخبة العربية، القارئة لهذا الشعر، إن العقائد المتعاقبة على القراءة هي العقيدة المقصودة، ولكنها عقائد لا تنحصر فقط، في التيارات الفكرية الاوروبية الحديثة التي تشكلت في نزعات سياسية أو تكاد، بل انها تتمظهر في غيرها، مثل التمركز حول الذات، أكانت محلية أو جهوية، الذات الشرقية التي ألغت سواها، الذات المصرية التي ألغت سواها، وهي عقيدة، من بين العقائد التي تتحكم في القراءة. التمركز حول الذات لا يمثل خاتمة العقيدة، المتشكلة في مظهرها الحديث، هناك مظاهر، متباينة، من اهمها، المرجعية الغربية، كمرجعية هوية، ابداعية، أكانت باللغات الغربية، ذات تسميات، لعل أشهرها الفرنكوفونية، أم كانت ترتكن الى التعريفات الغربية، في كل واقعة نصية، أو خارج نصية، وحول هذه الاخيرة قامت صراعات، وحدثت تمزقات، في جسد الثقافة العربية، بقدر ما ذهب ضحيتها مثقفون بارزون، لهم فضل كبير علينا في تحديث الفكر، على غرار علي عبدالرزاق، في كتابه الفريد "الإسلام وأصول الحكم". بالحفر، يمكن الكشف عن العقيدة، مرة اخرى متخفية في أثواب، تبدو عند الضربة الاولى مناقضة تماماً للعقيدة. وأخطر ما نواجهه، في قراءتنا للشعر العربي المعاصر، بتسمياته التي يتداولها الباحثون، النقاد، الصحفيون، الهواة، ممثلة في الحداثة. ما بعد الحداثة هو ان هذه العقائد تحولت الى مرجعيات لا تخضع للشك، فالنقد، انصب حتى الآن على صيغ أولية، عامة للايديولوجي، لكنه لم يستنطق، البنيوية، مثلاً، أو لم يستنطق السيسائيات. في بعدها النظري، الانطولوجي المحض، لا سبيل الى القول بأن مسألة المرجعية الغربية تناولتها الثقافة العربية، من طرف التقليديين أو الحركة التي تلقب نفسها، الآن، بالادب الاسلامي. لو كان الامر يقف عند هذا النقد، لما كان هناك ما يستدعي إثارة القضية من جديد، لذلك لا بد من توضيح ان اعتبار المرجعية الغربية، عقيدة، لا يعني التخلص من الثقافة الغربية، اسوة بالنكسوصيين، المنغلقين، المقصود هو عدم القدرة على قراءة الابداعية العربية في ضوء شجرة نسبها، هذا صعب جداً، اعترف بذلك، في ضوء الوضعية الراهنة، السائدة، للخطاب الثقافي العربي. وللخطاب النقدي الخاص، على الاقل، بالنسبة بالشعر، هنا بالضبط، يبدأ الاشتغال على ما لم نتعود، بعد على الاشتغال عليه، لانه يتطلب تحرراً من المرجعية الاوروبية كإيديولوجيا، ومن تفرعاتها، في سيادة الخطابات وان يبدأ الاشتغال، بمنطق مغاير، يفترض وضعية معرفية، هي ما نفتقده، مقابل ما ندعيه من حذلقات لا مبرر لها في الخروج من مأزق طال ولم يعثر، بعد على صيغة حديثة، للتخلص منه. 3 ان الشعر حين يبدأ، في ثقافتنا، الحديثة، يثور جذرياً على هذه العقائد، مجتمعة، ولا يتهيأ الا لذاته، في افق حر، يختاره هو، تجربة، لا تستشير الخطاب النقدي، الذي يستعد لاحقاً لتأطير العملية الابداعية، وفق النزعات التي تتحكم فيه، ولا أظن اننا انتقلنا، بعد الى مرحلة معرفية، تسمح بوجود نقد جديد، ما يثير الاستغراب هو استمرار خطابات مدرسية، أو مدعية، تتكلم بلسان ما تشاء من النظريات والمدارس، والاسماء والكتب، ولا ضابط لما تكتب، ولا مناقش، وهذا بحد ذاته يثير اسئلة ان هو لم يكن يدعو لليأس نهائياً، من ثقافة تترك خطابها، خارج ما هو معرفي وما هو اساسي، على حد سواء. يمكن الا نتعب كثيراً، ونراجع الدراسات التي تقدم في الندوات النقدية العربية حول الشعر الحديث، نعم، ستصبح مجنوناً، في نظر العديدين، وانت تقوم بتفكيك خطاب نقدي، لا يرتكز على أسس معرفية، من سيقبل الإنصات الى معرفة تقوم على نقيض ما يراه الاجماع النقدي حقيقة للخطاب الشعري، أو للخطاب النقدي؟ عند التجربة الاولى والثانية ستكتشف ان المكان لم يعد يترك الفرصة للمعرفة. فالضجيج الذي يتعالى بالبلاغات المعدية هو الذي يتكفل بحصر الكلام في المسموع به، مدرسياً أو مُدعياً. وتتساءل: حتى متى؟ أو ربما بالألم ذاته: كيف؟ ولا تعثر على جواب، ثمة معزولون تلتقي بهم، وهم يتوحدون في السؤالين ذاتهما، أو يصرفون الكلام عن كل ما يسمعون. ان تسمع أو تقرأ، وضعية واحدة، تقريباً، فهؤلاء الحاضرون في الملتقيات النقدية هم انفسهم الذين يسيطرون بخطابهم في الكتابات المنشورة، ولا مفاجأة حين تطلع على اعمال أاسماء، كانت ذات يوم تعد بنقد الايديولوجيات فاذا هي أسيرة الايديولوجيا في أعنف لغتها، ادعاءً، واستهتاراً بالمعرفة، عربياً وغربياً. ولكن الالقاب، لا تترك مكاناً للنقاش، الجديّ، المعرفيّ، لو كانت هذه الكتابات تقف عند الصيغ الضمنية للايديولوجيا لهان الامر على الجميع، لكن هناك ما هو أخطر وهو ان هذه الكتابات هي نفسها التي يعاد انتاجها، في الخطاب الثقافي العام حول الشعر وحداثته، خطاباً ينقسم الى خطابات، خطاب يتوحد في خطابات، وممَّ انت تقترب؟ وبمَ تمتلك الرّجاء؟ 4 الشعر حين يبدأ يحرق كل هذه الخطابات. انه الطين الذي منه ينشأ خلقٌ ويُعاد الخلقُ، وتلك العقيدة، العقائد، بتلويناتها المتبدلة من فترة الى اخرى وكذلك، المستديمة الفعل عبر عصر حديث بكامله، تظل وراء باب القصيدة، لا شأن للقصيدة بكل هذه المعتقلات التي نهيئها لها، في اشكال بلاغية او مواصفات مستغربة. كل ذلك امر يكاد يكون عارضاً، ان نحن افترضنا ان القراءة تتم في زمن، ليس هو نهاية العالم، ولا نهاية الشعر العربي، في التعارض القائم بين القصيدة والعقيدة، اي عقيدة، يكمن سر ارتباط الانسان بالشعر، في اللحظة التي تنسلخ عما عدا القول الشعري، عارياً امام تهدجات النفس. منذ ما يقرب من قرن، كانت الضربة الاولى، ضربة النرد التي تقرر مصير ما يأتي، في الحركة اللاحقة لليد التي تلعب، لعبة الشطرنج على صفحة كتاب، بين القصيدة وقراءة القصيدة، تاريخ لم يعكس، تلك الضربة الاولى، ولا كانت الحركات اللاحقة للايدي اللاعبة تعجن الطين بما يكفي من الحرية، الى الدرجة التي نتأكد فيها من ان الشعر العربي المعاصر يهرب من الخطابات التي تكتب عنه، وحوله، كلما أحس بان هذه الخطابات لا تمتلك ما تفترع به القصيدة، على حد تعبير ابى تمام، وبالتالي فان التساؤل عن الفارق المحجوب بين الشعر العربي الحديث وبين الخطابات المنجزة عنه نادراً ما ارتقت الى تلك النقطة التي لا يبقى الكلام فيها الا للقصيدة، متحدية كل العقائد التي تبادر الى اعتقالها في تصنيفات، تحاليل، تنظيرات، ولن تترك القصيدة ارضها التي انشأتها، طيناً خلْقاً من طين. 5 الذين يرفعون المقصلة، باسم عقائدهم التي يعون أو لا يعون بها، هم البعيدون عن المسألة الشعرية في العالم العربي الحديث، لا بد لنا ان نزن ما معنى العالم العربي. ونحن نستعمل هذا المصطلح، السياسي، لندرك ان الشعر حين يبدأ، يتخلص من العوائق التي كانت، تقسم الاراضي الى المسموح والممنوع. تلك القسمة التي ما تزال الخطابات النقدية، بالاجمال مخلصة لها، أو هي تتحرك في حاشيتها حسب ما تسمح به العقيدة، لا عقيدة الدين، بل عقيدة الجغرافيا، وعقيدة اللغة، اشارة الى تدخل هذه العقائد، في الخطاب الواحد احياناً. قرن بكامله، وماذا ننتظر؟ كل تخمين قابل للتصديق موقتاً، ولكن الشروخ التي تتعمق بين القصيدة العربية الحديثة وبين الخطابات النقدية لن تدعونا نظن ان الارض هي الارض، وان القصيدة هي القصيدة