شمس غارقة في سماء ضبابية شفيف، تلوح وتختفي، باهرة، مكتنزة، محتشدة بالتفاصيل الغريبة والأسماء العجيبة والوقائع المدهشة - التي يأخذها الراوي / المؤلف الى دهاليز الأسطورة أو متاهات الكابوس، فلا يعود القارىء، المستمتع، الذاهل والمذهول، يدرك في أي عالم هو: في الواقع أم في الحلم، في عالم الأحياء أم في سجن الموتى، في الماضي أم في الحاضر! شمس القراميد، الرواية الثانية بعد "توقيت البنكا" - وربما هي أيضاً كتاب الشعر الثاني بعد "حافة الأرض" - تشتغل، بروح الشعر والحكْي معاً، على مادة من الوقائع والأحلام والأوهام والأفكار والتأملات، في ورشة فنية تُعنى - أساساً - بالبناء الدقيق، المدقِّق، الباذخ، التفصيلي، لكل لوحة من لوحات المشهد الذي ترسم ملامحه ومعالمه وتفاصيله. يمتد المشهد من طفولة جابر الطرودي في قريته حجر الكاف، الى كهولته متشرداً، متسكعاً، متصوفاً راكضاً وراء وهْمٍ - سيرةٍ، عنوانها "شمس القراميد" بنت الملك الأبيض، الجدة والحبيبة، وفي حضرة "العينوس" شيخ الحكمة والغموض الصوفي الذي تحول من "أوس" بعد أن استبدل همزة اسمه ب"عين" زرعها في موضع عينه المطفأة، وما بين الطفولة والكهولة ثمة فيض من الأحوال والمقامات في أرض ونساء ومياه يتوغل في دواخلها فيرى، ببصيرته قبل عينيه، ما لا يراه الناس العاديون. وحكاية الطرودي تتمحور حول عملية بحث عن شيء أشياء داخلية شديدة الغور هي من دواخلنا الإنسانية الحميمة. وثمة بحث في الأعماق يتخذ شكل ألعاب لغوية في صورة ثنائيات لا تخلو من العبث حتى وهي تنطوي على المغزى: الحياة / الموت، الحلم / الواقع، العمق / السطح... فيعالج "الباحث - البطل" صوراً من العيش ويعاني ألواناً من الغربة والفراغ والامتلاء والانتماء والتشوهات التي يعاينُها في حال انتقاله من القرية الى المدينة / العاصمة حيث يعرفه أهل المدينة من حذائه وقميصه، من عينيه ومشيته، ويجد أطفالهم "فرصة للضحك على ما يشبه تيساً فالتاً من حقل أو حظيرة"، و"اللغة الفرنسية تتجاوز المدرسة الى الحياة اليومية". في الجزء الأول "مرايا مريم" من الحكاية / السيرة - إذاً - ثمة طفولة خصبة محبوكة بخرافات الأم وحكايات الأب الحكواتي، الذي سيرث عنه الإبن سر مهنته، وأسطورة الجدة، وثمة مريم الساحرة والفاتنة، والأخ الأكبر وشيطناته مع الثعالب والطيور والنباتات ثمة معجم لأسماء النباتات البرية يمكن جمعه من الرواية: الزعرور، القرّاص، قرون الجدّي، مثلاً... إلخ، وحتى لحظة الاقتلاع من المكان والهروب من "هشاشة الكائن المقيم الى هشاشة الكائن المترحّل". وفي المشهد هذا، كما في المشاهد التالية، يظهر القزم ل"يخترق رصانة الحكاية" ويسمّم حياة جابر "منذ تمرأى له ملاحِقاً، بمقصّه، عري العشاق وأذناب الطيور" وتبرز وظيفة القزم في أجلى صورها عبر علاقته - تبعيته ل"المستر هامَّتّ" الأميركي الذي جاء من جنوب الصحراء الكبرى ليجمع "السِّيَر والمأثورات الشعبية"، ولكن سؤال الروائي "ماذا يفعل أمريكي في هذه المنطقة المعزولة؟". يجعلنا نتوجس ريبة من مهمة هذا الأميركي وناظوره الذي لم يكن يفارقه. ولأن اللعبة السردية تقوم على خلط الأحلام - الأوهام بالوقائع، تغدو صعبةً مهمةُ تحديد طبيعة الحدث، ويفلت خيط الحكاية في مقطع، ليعود ويظهر في مقطع لاحق، ولكن ضمن عملية لعبة شديدة التعقيد، وتعكس - ربما من بين أمور كثيرة - تعقيد وتشوّش بنية الشخص وتمزق عوالمه النفسية والذهنية والروحية في عالم شديد البؤس من جانب، ولكنه غني بمفرداته وتفاصيل أيامه، وحيث جملة واحدة من الجدة تلخص، أحياناً، مساراً أساسياً في حياته "تنظر في اتجاه فترى اتجاهاً آخر". ويدخل الراوي عوالم أشخاص وبيوت وحجرات كأنما هي صورة من الخيال، ويقودنا الى صور وأصوات الأسلاف، وفي حجرة من الحجرات تأخذ "العريفة" جابراً، من يده، الى طاقات كثيرة محفورة في الجدران، وفي كل طاقة مومياء صغيرة مكتملة، وفي زوايا الغرفة تتكدس آلات موسيقية معروفة مثل العود والرباب والطار، والمندولينة، وقمبري، وكرنيطة... إلخ، فتتخالط الأزمنة الماضي، الحاضر، والمستقبل، ويتحول المكان زماناً، ويغدو الحديث عن المستقبل مكاناً، ويغدو الحلم هو الماضي في كل مكان وزمان. وفي مقطع من الجزء الثالث نقف أمام تحوّلات جابر الطرودي على صعيد إحساسه بالزمن، فنراه يحس بعودة لشباب الروح، لكن كل ما حوله يمعن في الشيخوخة والهرم، وتمتلىء روحه "بمجهول لا أجد له إسماً، غير أنه يجعلني أرى ما حولي متماوتاً الى حد الوحشة". ان تقطيع الرواية الى حكايات، يحمل كل منها عنواناً يتصل بما قبله حيناً، وينفصل عنه حيناً آخر، يأتي استجابة لتلك البنية المعقدة التي تجعل الطرودي "بطلاً" مطلقاً لرواية تنطوي كل حكاية منها على "أبطال" مساندين، تربطهم بالبطل علاقات متفاوتة المستوى، ومتعددة المعنى والصورة، ومنهم "البطل المضاد"، كما هو حال القزم "سهلون"، ومنهم المعلّم - المعادل للذات ك"العينوس"، ولكنهم جميعاً لا يشكلون أكثر من عوامل تحريض واستفزاز لذاكرة الراوي / البطل وتأملاته. البطل الذي يصرّ، منذ البداية، على ضرورة الانفصال عن الأسلاف وحفر مجرى خاص به / بنا، بالجيل الذي سيغدو، بالنسبة الى من يجيئون بعده، هو "الأسلاف". ويرفع الروائي، عبر الراوي، الحدث الاجتماعي، العادي واليومي، الى مقام الهمّ الوجودي، فنرى ما هو عابراً وقد غدا مقيماً، ونشهد المتغير في صورة الثابت. وفي هذه اللعبة تعبير عن - وعكس لرؤية الى عناصر الحياة: أحداثها وشخوصها، الجذري والهامشي، الأصيل والمزيَّف... جميعها عناصر أساسية وفاعلة في صورة ما. وهكذا فإن رحلة البحث عن "العندالة" النبتة المضيئة، مثلاً، تعادل رحلة الحياة نفسها، وتوازيها، بكل ما تنطوي عليه هذه الأخيرة من متاعب ومشقات، ومن ملذات أيضاً. فرحلة البحث عن "العندالة" التي قام بها الطرودي والعينوس، كانت - بحسب الروائي فؤاد التكرلي، في تقديمه "عملاً ضرورياً مكتوباً على الجبين" وهي بشكل لا مفهوم رحلة الحياة الشاقة المعقدة المليئة بالآلام وبالأحلام المجهضة، ولعلها ذروة ما يريد أن يقوله اليوسفي"، ويضيف التكرلي حول رؤية الحياة الإنسانية لدى اليوسفي أنها ليست رؤية تقليدية، بل "كتلة من رموز وألغاز ومتاهات لا سبيل لحلّها إلا في الانغمار بها، في الغطس... بحثاً عن الأجوبة في الأعماق". والى هذا الذي يقوله الأستاذ التكرلي عن مغزى الرواية يمكن التأكيد على هدف رسم العلاقة الوطيدة بين الماضي والمستقبل وتقاطعهما في الحاضر، هذه العلاقة التي تؤكدها آخر عبارة في الرواية "ربما بسبب امتلائي بالماضي، يخيفني هذا المستقبل المجهول"، وربما نضيف أن المستقبل لا يكون على هذا القدر من الغموض إلا حين يكون الحاضر هوّة سحيقة بين ماضٍ طاغٍ ومهيمن، ومستقبل مجهول... أي حين يكون للأسلاف كل هذا الحضور، ويكون للحاضر كل هذا الغياب أو الهزال. تبقى، بين عناصر كثيرة جديرة بالالتفات إليها، مسألة اللغة البكر، الطازجة، المركبة والمشغولة بنار التجربة أكثر مما هي بثقافة الكتب. هي لغة توازي، في عذريتها، عذرية العالم الذي تعالجه والخطاب الذي تحمله ويحملها. ربما كانت القراءة الواحدة غير كافية للإلمام بهذا العالم، لكنها مدخل مفتاح لقراءات لا شك أنها ضرورية للكشف عن المزيد من مجاهيل "شمس القرميد" المرأة، الأسطورة، والرواية ذات النفس الشعري