حتى "جنينة الضايع" العام الماضي كنا عند قول القائلين إنه لم يبق في ميدان المسرح اللبناني، من روّاده الأحياء فاعلاً، متفاعلاً، فعّالاً إلا روجيه عساف. الباقون تقهقروا، أو انزووا مقهورين في انتظار... غودو. وتوقعنا كجميع المعتزين بنجاة روجيه عساف من مطحنة الحرب ومحدلة ما بعدها، ان تكون خاتمته لمهرجانات بيت الدين هذا العام مسكاً يناسب ضوعة طيوب أحد أنجح المهرجانات الثقافية - الفنية في لبنان. أراد روجيه عساف ان يتبّل ويفلفل تجربته "ليفرفشها" قليلاً فأكثر من توابله المعهودة حتى أفسد الطبخة. وجاء "الميسان" خليطاً فاقد التجانس، فقيراً الى الروح والنكهة، وفي أفضل الأحوال تقليداً غير موفق لما قام به تكراراً في مجال اللعبة داخل اللعبة: المخرج والممثلون يتمرّنون على المشاهد، وتلك هي المسرحية! في الواقع لم يكن عساف بحاجة الى مسرحية "فوينتي أوفيخونا" للإسباني لوبي دي فيغا كي يتابع غوصه المتكرر في لعبة المسرح في المسرح التي عرفها المسرح الأوروبي منذ القرن السادس عشر و"تلقط" بها عدد لا يستهان به من روّاد المسرح العربي المعاصر عموماً واللبناني خصوصاً. عساف يهدي مسرحيته الى الأسيرة المناضلة سناء محيدلي، ويقحم في عمل دي فيغا بعداً سياسياً محلياً، إذ يفتعل دخول جنود اسرائيليين في "الهمروجة" مما يفترض ان يؤدي الى تثليث الأبعاد ووضع المسرحية في حال درامية أفضل. غير أن ذلك كله لم يحصل. لا موسيقى بول مطر الممتازة ولا مداخلة جيرار افيديسيان في التشكيل المشهدي، ولا براعة الممثلين في أداء ما اسند اليهم واليهن من أدوار ورقصات، استطاعت انقاذ النص من هزاله واجتراريته، والاخراج من تراكم استناده الى ما أخرجه سابقاً. المذهل حدّ الأسف أن عساف لم يوفّر أيّ من عناصر السقوط والتمظهر المسرحي لدى سواه، بل تراه اعتمدها على سبيل الكتابة الساخرة. قال إنه يهزأ من احتشاد المسرحيات الأخرى بالفولكلور ولذلك عليه ان يحشد مشاهده برقصات دبكة "مؤسلبة" لتعبّر عن سخريته العتيدة. وقال انه ينأور على الزجليات والأغاني المسجلة في تلك الأعمال التي باتت تملأ السوق كالهمّ على القلب. وقال انه ملتف على نفسه وناقدها بلسان ممثليه... الا ان ذلك كله لم يؤدِ الى نتيجة ولم يسفر عمّا توقعناه من تماسك وايقاع وظرف ومعنى مما عهدناه لدى عساف طوال انغماسه الجدّي واللافت في البحث عن كتابة مسرحية توفق بين مرجعيات الجمهور الثقافية والذوقية والتاريخية، وبين نوعية العمل المسرحي ذات الجودة والمهارة والمعرفة والاحتراف. لعلّها كبوة، لئلا يكون سقط آخر فرسان اللعبة داخل اللعبة. كسقوط دون كيخوته أمام عتو الطواحين!