الكتاب: الجندي المستعرب الكاتب: فيصل جلول الناشر: دار الجديد - بيروت 1998 ليس بوسعنا أن نصنّف كتاب فيصل جلول "الجندي المستعرب"* في خانة أو فئة ما. فما جمعه وحرره لا يؤلف بيوغرافية كاملة عن المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون. فهو دون الوصف المستفيض والمتابعة الدقيقة لحياة عقلية ثرية بتنوعها وإمكانياتها، ولمسار فكري ديناميكي ما يزال متحركاً متواصلاً حتى اليوم. وهو أكثر من حصيلة مقابلة أو حديث صحافي أو ريبورتاج. واستدراكاً لمثل هذا الالتباس في تحديد هوية الكتاب، وهو التباس يظل قائماً في كل الأحوال. يضع جلول "الجندي المستعرب" في إطار حوارات ساقها وحررها وقدم لها. وما بذله جلول في جلساته ولقاءاته المطوّلة مع رودنسون هو دون أدنى ريب عناء يستحق الثناء عليه، وإن كان لا يروي غليل القارىء المتعطش الى التفاصيل أو الإضاءات الصغيرة. الى جانب المشوق والخفي من كل سيرة وحياة. بيد أن لهذا الكتاب الى كونه شهادة عن المستشرق وعما رآه وعاينه وخبره خلال أربعينات هذا القرن في لبنان وسورية، ميزة وضعه باللغة العربية، خصوصاً أن ظهوره يتزامن مع ظهور كتاب آخر لباحث لبناني هو جيرار خوري باللغة الفرنسية عن رودنسون بعنوان "بين الإسلام والغرب" وهو حصيلة أحاديث ومقابلات مطولة مع المستشرق الفرنسي نفسه، أجراها معه خوري بين عامي 1996 و1997. وقد تناول الكتاب الأخير في أحد فصوله السنوات السبع المشار اليها في "الجندي المستعرب" والتي قضاها رودنسون في بلادنا جندياً اجبارياً مستعرباً مبتدئاً. ولعل هذه الأعوام الخصبة من شبابه لا تحتل مثل هذه المكانة البارزة في حياته وذاكرته إلا لأنها تمثّل ارهاصات تكوينه العقلي والمهني، من جهة، ولأنها من جهة ثانية، كانت لحظة أنقذته من موت محتم في الهولوكوست النازي على غرار والديه اللذين قضيا فيه، بسبب مكوثه في لبنان بعيداً عن بلده وعن الاحتلال الألماني الرابض على صدره. وهذه الأعوام السبعة هي من المحطات الأثيرة والأساسية في حياته التي يعاود رودنسون التذكير بها في العديد من المناسبات وفي بعض كتبه "الماركسية والعالم الإسلامي". ولا ندري الوقت الذي استغرقته هذه الأحاديث بين جلول ورودنسون إلا اننا نلمس في اعادة صياغة كلمات رودنسون ان الرجل كان يسترسل في حديثه على سجيته دون أن يحاول جلول أن يستدرجه الى المواضع التي يمكن من خلالها ان ينتزع منه اعترافات اكثر شخصانية وأكثر اثارة. أو الى المكامن الذاتية الحميمة في النفس، التي تلبي نوازع القارىء الى البحث عن المجهول والغامض. وعليه، يبدو مجرى هذه السيرة الجزئية يتحرك في مستواه الأفقي فيتناول الحديث الشرائح الاجتماعية والثقافية وأحياناً الوقائع السياسية تناولاً سريعاً، لا يتيح للمتلقي الوقوف عليها طويلاً، أو التعرف اليها عن كثب. لذا فإن ما يفصح عنه الكتاب بخصوص أفكار المستشرق وآرائه وانطباعاته لا يتعدى حدود الإشارة أو اللمحة العابرة. فكل ما يستشفه القارىء عن إقامة رودنسون في دمشق انه يحتفظ بذكريات طيبة عن هذه المدنية العجيبة كما يقول. ولكنه لا يفسر لنا سر هذا الإعجاب سوى أنه اعتاد أن يزور معالم دمشق أيام الآحاد برفقة جنديين آخرين، مثل الجامع الأموي والأسواق التجارية وقصر العظم "ذي الهندسة التركية" حيث كان في هذا القصر معهد فرنسي للدروس العربية. وعلى الرغم من شغفه بالمدينة ووسطها الثقافي فإن مستشرقاً مستطلعاً مثله لم يكن على تماس قوي مع الوسط الثقافي السوري. ولم يتعرف عن كثب على ثقافة الناس وميولهم. وأقصى ما استخلصه من تفحص الظواهر أو الأشخاص الذين ينتمون الى طوائف مختلفة انهم "كانوا يتناولون طوائف بعضهم البعض بكثير من السوء والأوصاف التي تدل على عدم التفاهم". وعلى العموم فإن المنحى السياسي يطغى على الكتاب. وقلما يضيء، على المناحي الجمالية والأدبية. وأبرز ما يعني رودنسون في تلك الحقبة اللبنانية قراءة الظواهر السياسية والايديولوجية. ولعل هذه القراءة ما تزال سمة أساسية في كتاباته. فهو من أكثر المستشرقين الحاحاً على تفحص العامل السياسي الاقتصادي الذي ينحو في رأيه، الى خلق ايديولوجية ضمنية تكتسب قوة تعبوية كبرى، وتفرض نفسها على المجموعات والطبقات السياسية التي تصوغ برامجها الاستراتيجية والتكتيكية. وفي لبنان يخبرنا رودنسون عن علاقاته مع الشيوعيين وخصوصاً خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا الشاوي. وقد توطدت علاقته بهؤلاء القادة، وكتب في مجلة "الطريق" التي يصدرها الحزب. وكان الشيوعيون حسب وصفه يتحركون على أرضية غير واضحة، ويفكرون كما يفكر سائر الشيوعيين في العالم، ويعتقدون في حينه أن الأولوية يجب أن تكون لدحر النازية وللدفاع عن الاتحاد السوفياتي بوصفه أول مجتمع اشتراكي في التاريخ. وبعد ذلك تأتي الأولويات الأخرى. وهو يصف حلو بأنه ناعم وعقلاني ولطيف. والشاوي بالذكي واللامع والمناور. أما بكداش فرجل موهوب ولكنه لم يكن يبعث الثقة في نفسه. ويفصح رودنسون في مواضع عدة من الكتاب خصوصاً في فصل "يهوديتي هنا وهناك وما إليها" عن موقفه المعادي للنزعة القومية اليهودية. وفي حديث الذكريات ان اليهود في لبنان كانوا يعيشون بوئام مع المسلمين والمسيحيين. وكانوا يعملون في حينه في التجارة ولم يكن لهم دور في الثقافة. ورودنسون الماركسي - اليهودي الذي ينكر يهوديته ويجاهر بإلحاده، يدعو الى دولة مزدوجة الجنسية: فلسطينية - يهودية كانت قابلة في رأيه للحياة في عام 1948. "الجندي المستعرب" ليس قصة حياة كاملة ذات سياق تدرجي، إنما أمشاج من مرويات شخصية وتعليقات مقتضبة. وما يسعى اليه جلول هو تقديم صورة ناصعة للقارىء العربي عن مستشرق يلتزم الشروط الأخلاقية والشرف الثقافي في انتاجه المعرفي. وإذ ينزّهه عن المستشرق الكشّاف والمستشرق المخبر أو الجاسوس، يضعه في منأى عن مغريات الارتقاء الإداري، وتحاشي خدمة الإدارة الكولونيالية التابعة لبلاده، أو خدمة مشروع الدولة الصهيونية المؤسسة على أساطير يهودية. وهو يميزه عن أقرانه المستشرقين مثل دوفوكو الذي زار المغرب خفية ووضع تقريراً يمكن تصنيفه اليوم في "خانة النصوص الأمنية المحترفة" خدمة لسياسة بلاده الاستعمارية. وكان دوفوكو كما يقول جلول: يعي أهداف عمله الاستطلاعي، ويعرف، لا بل يتمنى، أن يكون كتابه مفيداً لحملة عسكرية في هذه البلاد. بيد أن رودنسون نفسه يرفض في مقابلة صحافية أجريت معه أخيراً مثل هذا التصنيف لجلول. ويحتج على نعت دوفوكو بأنه مخبر أو جاسوس، ويذكر غضب لويس ماسينيون صديق العرب على من اتهم دوفوكو بالجاسوسية. ويقطع رودنسون في أن تصنيف جلول للمستشرقين هو من ذلك "الأثر السيء" لإدوارد سعيد في المثقفين العرب عامة، ونظرتهم اليوم الى الاستشراق. أما افتراض فيصل جلول بأن أعمال رودنسون لم تلقَ العناية التي تستحقها لدى المثقفين العرب وظلت محدودة الانتشار. فهو افتراض خاطىء. إذْ ان كتبه ودراساته استُقبلت في العالم العربي في اللحظة السياسية الملائمة بحفاوة وترحيب. وتحديداً في أواخر الستينات، في ضوء ما ساد الفضاء العربي السياسي من ذيوع الفكر الاشتراكي واليساري بين النخب الجامعية. وفي ضوء المعطيات الثقافية والفكرية والشروط السياسية حينذاك التي كانت تتحرك في صفوف المثقفين الطليعيين على إيقاع الصعود المتنامي للتيارات الاشتراكية واليسارية. فتُرجمت كتبه مثل: الماركسية والعالم الإسلامي، والإسلام والرأسمالية، والعديد من الدراسات والمقالات في "الطريق" اللبنانية و"الطليعة" المصرية، وشارك في ترجمة بعض هذه النصوص المنظّر اليساري ياسين الحافظ. وساهم رودنسون في كتاباته ومحاضراته في مصر ولبنان في السجال الفكري الذي دار آنئذٍ في أوساط الاشتراكيين العرب والقوميين المتمركسين الذين اعادوا النظر في تأويل الإسلام تبعاً لقيم الايديولوجيات الأخرى لتمجيد القومية العربية، أو القيم الماركسية الداعية الى الثورة، أو الصراع ضد الأغنياء والامبريالية. وخلص رودنسون الى أن عالم الإسلام قدم له مادة غنية من المعطيات الواقعية التي أتاحت له أن يطرح على نفسه من جديد المسائل العقائدية التي حسبها قبلاً محسومة. وكانت دهشته شديدة من الحماسة للماركسية التي لمسها حينئذٍ لدى العديد من أوساط العالم الإسلامي، في الوقت الذي كان يخبو فيه بريقها أمام أعين الانتليجنسيا الأوروبية.