قبل الرئيس الفلسطيني استقالة الحكومة بعد احاديث وتكهنات تجاوزت زمنياً الاربعة شهور عن الاستقالة والتشكيل الجديد. كأنما ارادها عرفات استقالة على نار هادئة وتشكيلاً يختاره في الوقت المناسب. والوقت المناسب هو عودة "وزير الخارجية" المعطلة في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي ابو اللطف الى الوطن لتسلّم منصب الوزير الاول. منصب قيل ان عرفات لا يمانع في استحداثه شرط عودة "ابو اللطف" الذي سيكون المنصب الجديد له وعلى قياسه ولن يُعطى لغيره. الحديث اعقب لقاء عرفات مع بعض قيادات "فتح" في تونس، اخيراً بدا معه كأن الجميع عاد الى "الايام الخوالي" حين كانت شعارات العمل الجماعي والموحد تفكّ كل البراغي السياسية الصدئة والمستعصي فكّها. لكن المفاجأة - لمن تهيأ له على الاقل - جاءت من رفض "ابو اللطف" عودة لا يستطيع معها جرّ العلاقات الفلسطينية - السورية مثلاً الى الوطن الذي انقطعت شرايينه العربية. فيما لا ترد مظلة اوسلو حرارة حزيران وغداً تموز وآب للعائدين عبر صحراء سيناء زحفاً نحو معابر الوطن المحروسة بجنود الاحتلال. فلجأ القدومي الى المناورة الديبلوماسية للتقليل من صدمة سقوط الرهان - مع انه كان رهاناً محسوباً. ورفض علناً العودة في الظروف الراهنة واضعاً لها شروطاً وضوابط يصعب على السلطة الفلسطينية تحقيقها، وهي اصلاً فوق امكاناتها بعدما ضعفت عضلاتها السياسية والديبلوماسية ولم ينجُ من الضعف سوى عضلاتها الامنية التي يستفز آثار استخدامها منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية. اشترط القدومي اعلان الدولة الفلسطينية وهو يعلم ان عرفات لن يقدم على خطوة كهذه قبل ايار مايو المقبل. كما يريد لعودته ان تتم في ظل سياد فلسطينية كاملة على الارض لا يراها متوفرة. باختصار يريد "ابو اللطف" عودة لا آثار فيها لنتائج اوسلو. وهو استغل، في الواقع الحديث عن عودته ليجدد انتقاداته لأوسلو باسلوب مغاير، لكنه وهو يفعل ذلك ذكّر بمسألة جوهرية يتداولها عدد كبير من الفلسطينيين، وتتعلق بالفصل بين مسؤوليات السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وترجمة هذا الفصل تعني صراحة تخلي عرفات عن رئاسته للحكومة والعودة الى موقعه السابق رئيساً للجنة التنفيذية. وقد أبدى عرفات رغبة في ذلك وشدد على ضرورة تسلّم "ابو اللطف" المنصب الوزاري الاول وهو يعلم انه لا يستطيع أن يأتي بالدولة والسيادة للقدومي لضمان موافقته على العودة. وهكذا، وبما ان العودة لن تتم قريباً، فان الفصل بين السلطات لن يقع بل سيتم ترحيله مع قضايا عدة اخرى كالاصلاحات ومعالجة ظواهر الفساد والخروقات الامنية وغيرها الى ما شاء الله، وخلاصة هذا المشهد من الملهاة ان لا القدومي قادم ولا عرفات يقبل بغيره رئيساً للوزارة الجديدة - على ما تناقلته الوكالات. وهكذا يخرج المراقب للمشهد السياسي بانطباع عميق بأن السلطة الفلسطينية تبحث في الواقع عن مخرج من مأزق طال وتعمّق خلف هذا الكمّ المتناقل من اقوال وتقولات وتكهنات. وربما بهدف التخلص من قدر كبير من ثقل هذا المأزق بالدعوة الى قيادة جماعية للعمل من خلال المشاركة في التشكيل الوزاري الجديد. المفاجأة الثانية جاءت من رفض المعارضين للدعوة من اساسها ولسان حالهم: هذه ورطتكم فلتتحملوها وحدكم. وقرروا ألا يأتوا الى الحكومة اذن في ظل المعطيات القائمة لئلا يتحملوا مسؤوليات أخطاء ارتكبها غيرهم. وازدادوا تمسكاً بموقفهم بعدما اختفت آثار أوسلو إلا سيئاتها. ألم يكتشف المفاوض حسن عصفور مثلاً - وربما اكتشف آخرون مثله ولم يعلنوا - ان اتفاق اوسلو كان "غلطة"، اذ اعتقد عصفور انه "كان يصنع التاريخ بمقياس عالمي في حينه" كما نقل عنه دانيال بن سيمون ل "هآرتس" الاسرائيلية 26/6/1998. وفي موسم الهجرة الى الجنوب مشهد ثالث لا يقل درامية، فالقيادة الفلسطينية تطلق نداءات الاستغاثة والاستعانة بالجميع بمن فيهم المقيمون في الشمال سورية. وممن استجاب للنداء وقرر المساعدة وتقديم الاسعافات الامين العام للجبهة الديموقراطية نايف حواتمة الذي قيل انه يريد العودة بدوره حاملاً معه مشروعاً لاستعادة القيادة الجماعية والعمل المشترك نشرته "الحياة" اخيراً بتوقيع حواتمه نفسه، الذي بدأ الكتابة بعدما اصبح الكلام عاجزاً عن الوصول الى حيث يريد. لكن طرفاً آخر تقررت عودته، وهي تهم كثيرين: السلطة بأركانها الأساسية ومنظمة "فتح" بجسمها التنظيمي في المناطق الفلسطينية. انه محمود غنيم "ابو ماهر" مسؤول دائرة التعبئة والتنظيم في "فتح" تاريخياً. وتأتي عودته في اطار مأزق آخر هو "مأزق "فتح" التي تحمل قسماً كبيراً من مأزق السلطة على اكتافها في علاقاتها اليومية مع الناس. وكونها "التنظيم الحاكم" عملياً. و"فتح" تبحث في عودة "ابو ماهر" عن ايجاد توازن بين قياداتها التاريخية الباقية والتي تأسلوت بالكامل، وبين ما تبقى من رموزها في مركز الاعتراض الدمشقي. توازن يبدو ضرورياً ل "فتح" لإسناد ما انتجته من قيادات شابة محلياً فقد تعبت من الكتابة في نشراتها المحلية معارضة ومحذرة ومعترضة على قضايا عدة وبينها اشارات متكررة الى عبثية الركض وراء نتانياهو بحثاً عن مفاوضات ذهبت بها رياح حكومة ليكود. صحيح ان "فتح" في السلطة لكنها تريد ادخال "نصفها الآخر" المعترض على نهاية اوسلو وليس بداياتها الى القيادة الاولى. وهذا المطلب لا يكلّف كثيراً اذا كان الثمن المطلوب هو عودة "ابو ماهر" واشراكه في السلطة والتنظيم واعطاء بعض الشباب مناصب وزارية في الحكومة حين تشكيلها. فمحمود غنيم لن يخسر من العودة بعدما اصبح البقاء في الخارج بلا معنى، بينما يكسب بعض جيل "فتح" الجديد دعماً له الى جانب مناصب وزارية وهذا ما دلّت عليه المشاورات الأولية بشأن التشكيل الوزاري. عودة "ابو ماهر" او حواتمة او اي مسؤول آخر في موقع مماثل تشكل في جانب منها عملية نقل متأخرة لبعض رفات جثة منظمة التحرير التي لا يرغب احد في اعلان وفاتها، لكن يتحدثون بثقة عن ضرورة احيائها. فلا اجتماعات مجتزأة في تونس تعيد الصورة الممزقة في ألبوم الفلسطينيين السياسي، ولا عودة بعض رموز المنظمة القدامى يثبت بقاءها على قيد الحياة. وقد يبدو الاقرار بذلك صادماً للقناعات والآمال ايضاً، خصوصاً لفلسطينيي الخارج الذين يخشون البحث عن بدائل تنظيمية مثلما ترعبهم فكرة انتهاء الممثل الشرعي والوحيد وبقائهم بلا غطاء. لكن الواقع انهم بلا غطاء منذ صارت السلطة معنية بمن تمتد اليه اياديها السياسية والامنية فقط في الداخل. هكذا صار البحث عن اشكال للتعبير عن قضايا الفلسطينيين في الخارج والدفاع عن حقوقهم امراً مطلوباً بدءاً بالقضية اليومية وانتهاء بحق العودة. "البحث عن العدالة والمساواة" هو العنوان الرئيسي الصالح لمن في الداخل والخارج، لكن التفاصيل ليست متماثلة حتماً. فبعض الجاليات قد يكون بحاجة الى العمل حتى في صفوف اليهود وبعضها قد لا يكون قادراً على العمل في صفوف العرب وتلك هي المفارقة التي تستدعي رسم تحركات تعرف بدقة هموم ومطالب الساحات والمنافي ورقعة الوطن ايضاً. اما الحكومة الفلسطينية المرتقبة فلن تكون سوى حكومة ترضية فتحوية داخلية، وتنفيس احتقان عام، وملء فراغات تسبّب بها الرحيل الياس فريج وزير السياحة - رئيس بلدية بيت لحم او الاستقالة وزارة العمل وغيرها. ولن تكون حكومة مواجهة لمأزق يتطلب قيادات من طينة غير تلك الطينة التي يبنى بها الوطن الآن. وعجينة غير تلك التي خبزت في أفران أوسلو وأطعمتنا "خبزاً" لا بأس من الاعتراف بأن مذاقه لا يزال مرّاً. * كاتب فلسطيني مقيم في لندن