عند الحديث عن "الانفتاح" في سورية لا بد من استدراك ذلك بأن الذي تريده الحكومة هو "تدرجي" حتى لا يؤدي إلى أزمات اجتماعية واقتصادية تهدد الاستقرار المستمر في البلاد منذ نحو ثلاثة عقود. فمصطلح "الانفتاح التدرجي" هو الأكثر دقةً لوصف أي تطور اقتصادي أو سياسي أو اعلامي يحصل في سورية. في نهاية الثمانينات راهن عدد من الخبراء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الشرقية، على انتقال "الفوضى" الى كل الدول النامية التي كانت تدور في "الفلك الشيوعي" وبينها سورية، لكن ذلك لم يحصل لأمرين: لأن سورية لم تكن تدور بشكل كامل في الفلك السوفياتي في المعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. صحيح ان الاتحاد السوفياتي كان حليفاً استراتيجياً لسورية، غير ان دمشق لم تقطع "شعرة معاوية" مع اوروبا الغربية والولايات المتحدة. ثانياً، لأن الحكومة السورية كانت سبّاقة في قراءة المتغيرات الدولية وانعكاساتها الاقليمية وأدركت باكراً مفاعيل "رياح التغيير" التي هبت من موسكو. فلم تقع في خطأ وقعت فيه دول أخرى مثل العراق الذي لم يدرك معنى الحديث عن "النظام العالمي الجديد" فدخل الكويت وكان عليه ان يدفع ضريبة ذلك في مواجهة قوات "التحالف الدولي". كما ان سورية لم تقع في خطأ فعلته دول أخرى استعجلت التغيير فإنهار الاستقرار السياسي وأدى الى فوضى اجتماعية وحرب أهلية. الواقع ان القراءة السورية في مطلع الثمانينات كانت تقتضي بالتعامل مع نظام القطب الواحد مع اجراء تعديلات تستوعب المتغيرات. وبدأت ذلك خارجياً بالانضمام الى قوات "التحالف الدولي" لاخراج العراق من الكويت ثم الموافقة على المبادرة الاميركية لعقد مؤتمر مدريد للسلام وفق مرجعية قرارات مجلس الأمن والدخول الى مفاوضات سلام مع اسرائيل وصولاً الى "حل عادل وشامل" للصراع العربي - الاسرائىلي. لكن القراءة الداخلية للمتغيرات لابد ان تنطلق أولاً من شعورالنظام بالاستقرار والامن الذي وفره في العقدين السابقين، ما أدى الى تسهيل اتخاذ بعض السياسات التي توافق الوضع المستجد وفتح الباب أمام سورية للتكيف في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في عالم التسعينات بلغة ومفردات ربما تختلف على الأقل شكلاً عن عقدي الثمانينات والسبعينات. وهو ما اصطلح عليه عدد من الخبراء ب "النموذج الصيني وليس الروسي للتغير". بدأ "الانفتاح" - ملزماً بلاحقة التدرج - في العام 1991 عندما صدر قانون الاستثمار رقم 10 حين تخلت الدولة فيه للقطاع الخاص عن مجالات عدة كان حكراً على القطاع العام. إن مقدمات اعطاء تسهيلات للقطاع الخاص كانت موجودة في الثمانينات عندما أعطت الدولة "جرعة انفتاحية" بالسماح للمستثمرين الدخول في شراكة مع الدولة في مجالي السياحة والزراعة، لكن التأريخ الاصدق للانفتاح حصل في أيار مايو 1991 عندما صدر قانون الاستثمار الذي دشن الباب واسعاً امام دخول عدد من الشركات الاجنبية للعمل في سورية وتأسيس مشاريع جديدة تستوعب قسماً من نحو 200 ألف شخص يدخلون الى سوق العمل سنوياً بفعل الزيادة السنوية السكانية البالغة 4،3 في المئة. وليس مصادفة ان العام 1991 الذي شهد هذه الخطوة سجل أيضاً الدخول في مفاوضات السلام مع اسرائىل. كان لا بد من "التعددية الاقتصادية" ان تترك ظلالها السياسية. حصلت في بداية التسعينات عندما صدر مرسوم رئاسي رفع عدد اعضاء مجلس الشعب البرلمان من 195 الى 250 نائباً وارتفع عدد المستقلين في الدور التشريعي السادس 1994 - 1998 إلى 83 نائباً من اصل 250 نائباً. وتقاسمت الاحزاب السياسية السبعة المنضوية تحت لواء "الجبهة الوطنية" ال 66 في المئة من المقاعد المخصصة للحزبيين وذهب 135 مقعداً لحزب "البعث" الحاكم في البلاد من العام 1963. وطلبت الحكومة من الاحزاب بتياراتها الناصري والشيوعي والقومي تقديم مقترحات لتطوير العمل السياسي - الحزبي في البلاد. وانعكس الهامش الذي حصل عليه رجال الاعمال في عملية الانتقال من اقتصاد التخطيط المركزي الى اقتصاد السوق، تمثيلاً في البرلمان، إذ حصل التجار والصناعيون في دمشق 13 مقعداً مخصصة للمستقلين من أصل 29 مقعداً في الدور التشريعي السادس، ما ساعد على العمل على الغاء عدد من القوانين وتعديل أخرى بهدف لعب المستثمرين دوراً أكبر مثل القانون 24 الذي نص على عقوبات تصل الى السجن للمتعاملين بالقطع الاجنبي وقانون العلاقات الزراعية واقامة سوق لتداول الاسهم المالية. وإذا استمر الاسلوب التدرجي فإن انتخابات الدور السابع المتوقعة نهاية العام الجاري، ستجلب تعديلاً في نسبة تمثيل التجار والصناعين والنشطاء السياسيين. اطلاق معتقلين في الاطار ذاته، لكن في مجال أخر، شهد مطلع التسعينات انطلاق عملية السعي الى "تعزيز الجبهة الداخلية" والافادة من الاستقرار السياسي في البلاد. فأصدر الرئيس الاسد عدداً من المراسيم الرئاسية للافراج عن معتقلين من "الاخوان المسلمين" دينوا بالقيام بعمليات عسكرية ضد مفكرين ومؤسسات رسمية في مطلع الثمانينات. وافرج في نهاية العام 1995 عن نحو ألف شخص، وفي مطلع 1997 عن 1200 شخص في اطار تلك التوجهات. كما بدأ حوار غير رسمي مع قيادات "الاخوان المسلمين" في الخارج قام به القياديان السابقان في الجماعة أمين يكن و الدكتور غسان ابازيد الذي دخل الى البرلمان مع غير من "الاسلاميين" في خطوة ذات مغزى. وأسفرت تلك الاتصالات عن عودة عدد من القادة السابقين ل "الاخوان" بموجب التماس الى الرئيس الاسد. وجاء في مقدمهم المراقب العام السابق الدكتور عبدالفتاح أبو غدة الذي عاد الى حلب شمال البلاد وتوفي في العام الماضي في السعودية. وكان من بين الاشارات الايجابية ان الرئيس الاسد أمر بوضع طائرة خاصة لنقل جثمانه الى حلب. واقيم مجلس عزاء شارك فيه مسؤولون ودفن في المدينةالمنورة حسب وصيته. واستمراراً في سياسة الانفتاح، اطلق في نهاية أيار الماضي نحو 225 سجين رأي بينهم رئيس "الحزب الشيوعي - المكتب السياسي" رياض الترك ونائب رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الانسان اكثم نعيسة. وعاد عدد من الذين كانوا ممنوعين من العودة، في اطار توجيهات عليا تقتضي أن يخرج كل من أنهى فترة عقوبته في السجن وان يعود كل من يطلب التماس للعودة كمواطن. ومن بين هؤلاء الضابط البعثي مصطفى حمدون ورئيس حكومة الانفصال مأمون الكزبري وكتاب وصحافيون آخرون. انفتاح اعلامي كان لا بد أن يرافق "الانفتاح" السياسي والاقتصادي مواكبة اعلامية بدأت منتصف الثمانينات وتطورت في السنوات الاخيرة. ولعب وزير الاعلام الدكتور محمد سلمان دوراً بارزاً في ذلك لاعطاء دور للصحافيين المحليين ومراسلي وسائل الاعلام العربية والاجنبية. فطلب من المؤسسات الحكومية تقديم التسهيلات لعمل الصحافيين المحليين واعطاء هامش اوسع ل "محاربة الفساد" و"تقصير بعض المؤسسات"، وارتفع هامش تعامل المراسلين مع المواضيع السياسية والاقتصادية في البلاد في سياق السعي للتأثير في الرأي العام الخارجي. واستطاع الدكتور سلمان "تكييف الاعلام" مع التدفق الدولي وثورة الاتصالات. فكانت سورية سبّاقة في تأسيس محطة فضائية وطنية وسمح بدخول نحو 325 مطبوعة عربية وأجنية الى السوق وفتح مكاتب للمؤسسات الاعلامية الكبيرة. وتشير الاحصاءات الى ان اكثر من 18 في المئة من السوريين 16 مليوناً يملكون صحون لالتقاط الأقنية الفضائىة، ما أتاح فرصة للجمهور لمتابعة قضايا متعددة من مختلف الزوايا في اطار "الرأي والرأي الآخر"، في وقت انصبت الجهود على ايصال البث التلفزيوني للمحطتين الرسميتين الأولى والثانية للوصول الى كل البلاد. كما أن "المؤسسة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية" انجزت أخيراً مشروعاً لربط المؤسسات الرسمية الكبرى بشبكة "انترنت" والعالم الخارجي.