لا تجمع كل من إسرائيل وتركيا، وهما حليفتا الولاياتالمتحدة البارزتان، على أسباب الخلاف بينهما. والثابت هو اصطدامهما. وتقول تركيا إنها طردت السفير الإسرائيلي وقطعت العلاقات التجارية (مع الدولة العبرية) بسبب قمع الفلسطينيين ورفض الاعتذار عن حادثة قتل الناشطين الأتراك. وترى إسرائيل أن تركيا تسعى إلى الريادة الإقليمية من طريق التخفف من حلفها معها والتنديد بها. وثمة تفسير ثالث للصدام. فالجانبان عرفا مرحلتين انتقاليتين سياسيتين متشابهتين في العقد الأخير انتهتا إلى بروز دولتين شعبويتين - عرقيتين يكافأ فيهما من يتصدى للأجانب سياسياً، على وقع انحسار الصبغة العلمانية الحادة عن المجتمعين الإسرائيلي والتركي وتراجع دور النخب المنفتحة على الغرب. فقبل عامين، وبخ رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس الاقتصادي الدولي، إثر حرب غزة، وقال له:» تعرف جيداً كيف تقتل». ولقي أردوغان استقبالاً حاشداً عند عودته إلى بلاده. وبعد عام، استقبل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، دانيال إيالون، السفير التركي في مكتبه، ودعاه إلى الجلوس إلى طاولة لم يرفع عليها علم تركي ومقعدها منخفض، ولم يراع أصول الضيافة. وأبلغ إيالون التلفزيون الإسرائيلي قبل وصول السفير أن المهم هو أن يرى الناس مدى «انخفاضه» و»علو كعبنا». وارتفعت شعبية إيالون في حزبه، إسرائيل بيتنا، على رأسه وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان. ولم تكن هذه حال الأمور من قبل. فالمجتمعان التركي والإسرائيلي كانا متشابهين إلى حد بعيد، على رغم اختلافهما. ومع الوقت، ربطت بينهما علاقات تجارية وعسكرية وسياحية وطيدة. ويبعث على الدهشة سلوكهما مساراً متشابهاً في العقد الأخير. وجمعت قواسم مشتركة كثيرة بين مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، ومؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها، ديفيد بن غوريون. ولم يكن المشترك وليد الصدفة. فبن غوريون، درس القانون في إسطنبول، وحذا حذو أتاتورك، ورمى إلى بناء مجتمع حديث يجمع التجانس بين مواطنيه من غير فروق لغوية أو ثقافية. ورأى كل من الرجلين أن التدين انحراف وأن العرق مشكلة. وشأن الأكراد في شرق تركيا، همِّش اليهود المغربيون واليمنيون في إسرائيل. لكن الإساءة إلى الأقليات وتهميش الديانة لا يتماشيان مع الديموقراطية. وأطيح خلفاء الآباء المؤسسين في ثورات انتخابية، في إسرائيل في 1977 وفي تركيا في 2002. واليوم تؤدي قومية دينية دوراً راجحاً ومتنامياً في كل من إسرائيل، التي يهيمن عليها حزب الليكود، وفي تركيا «حزب العدالة والتنمية». وخسرت النخب العلمانية، التي صاغت التوجهات السياسية والثقافية طوال عقود، شطراً راجحاً من نفوذها. في العام الماضي، أهمل أردوغان رأي سفراء أتراك متقاعدين طعنوا في سياسته الخارجية، وأنهى لقاءه بهم قائلاً وهو ينصرف «مون شير» (والصحيح «مي شير»)، أي يا أعزائي بالفرنسية. ومثله فعل ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي، حين وصف الإسرائيليين الذين يرون أن سياساته حادة ب «فاينشميكرز»، أي الذوَّاقة بالألمانية. وليس توسل أردوغان وليبرمان بعبارتين أوروبيتين عرضياً. فالأتراك شعروا بالمهانة جراء وقف طلب عضويتهم في الاتحاد الأوروبي. وتنظر المؤسسة الإسرائيلية، ويؤيدها خليط من اليهود الشرق الأوسطيين والمتحدرين من الاتحاد السوفياتي السابق، بعين الازدراء إلى أوروبا القديمة ومشاعرها المؤيدة للفلسطينيين. و«غالباً ما أقارن بين انتفاضة أردوغان في 2002 و انتخابات إسرائيل في 1977 التي حملت الليكود إلى السلطة»، يقول ألون لييل، سفير إسرائيلي سابق إلى تركيا يدرس مادة عن العلاقات بين الجانبين وتاريخهما في جامعة تل أبيب. «ففي تركيا تجاهلت النخب الكمالية القيادات الدينية وهمشت الأرياف والأكراد، وأسهمت في بروز مجموعات مستاءة تحولت معارضة سياسية جديدة. ويشبه المسار هذا ما حصل في إسرائيل. واليوم، قاعدة حكم كل من أردوغان ونتانياهو تميل إلى التدين، وهي ريفية ضعيفة التعليم. وتعلي شأن القاعدة الشعبية هذه شأن الكرامة والقومية. لذا، تتعثر العلاقات بين تركيا وإسرائيل». وليس الأتراك والإسرائيليون عرباً، فهم «غرباء» في المنطقة. وهذا ما حملهم في الماضي على التحالف. ولكن، اليوم، وقع الشقاق بينهم في السياسة الخارجية. فتركيا تتجه إلى الشرق وإسرائيل إلى الغرب. وتشعر تركيا، وهي العضو في حلف شمال الأطلسي، أن أوروبا رفضتها ونبذتها. وانبعث فيها الحس بالهوية الإسلامية والشرق الأوسطية. وفي الأسبوع الماضي، جال أردوغان على دول الربيع العربي باحثاً عن دور ريادي. وفي وقت تتآكل علاقات إسرائيل الشرق الأوسطية وتتهافت، تتوجه أنظار الدولة العبرية إلى أوروبا «الجديدة»، أي إلى دول مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا حيث معاداة الأتراك لم تذو منذ العهد العثماني إلى اليوم. وتسعى واشنطن في بعث العلاقات التركية - الإسرائيلية. وهي تطالب إسرائيل بتقديم تنازلات في الملف الفلسطيني لتفادي إصدار الأممالمتحدة قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وتطالب كذلك تركيا بالعدول عن خطوات تحسين العلاقات مع إيران وسورية. وأفلحت واشنطن في إقناع تركيا بنشر رادار أطلسي على أراضيها. والخطوة هذه تصب في مصلحة إسرائيل. ثمة مصالح مشتركة تجمع إسرائيل وتركيا. فالدولتان تكافحان مقاتلين، الأولى تواجه «حماس» ومجموعات فلسطينية والثانية تواجه الانفصاليين الأكراد. وكلتاهما تحتل الأراضي وتتحدى المجتمع الدولي: إسرائيل تحتل الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وتركيا تحتل شمال قبرص. و «صبغة القومية اليوم في تركيا وإسرائيل دينية - عرقية، شأن الصبغة الليكودية في إسرائيل. والقوميتان هاتان لا تسمعان ما يقوله الآخرون»، يقول إفرائيم أنبار، الخبير في السياسة التركية في جامعة بار إيلان. * مدير مكتب القدس، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 17/9/2011، إعداد منال نحاس