منذ زهاء قرن، كانت مولدافيا تابعة لأطياف القياصر الروس. وكانت بالغة التخلّف من النواحي الاجتماعية والثقافية، وكان شعبها يمارس حياة ريفية متخلفة، الا قبضة من الموسرين الذين يتوقون الى حياة الاقطاع ولا يبلغونها الا في الندرة. اما الثقافة فكانت، على العموم، شيئاً غير مذكور. ولم تشر تواريخ الادب الروسي الى اسماء لامعة، الا في بداية هذا القرن. حيث بدأت العاصمة كيتشينيف تخطو في دروب التقدم، وتنعكس بدورها على الريف، فيتلوّن بألوان الحضارة الحديثة. وقد نشأت فئة من الناس في اجواء العلم، فشكّلت ثلث عدد السكان البالغين ثلاثة ملايين ونيف. وتوزعت بين طلاب على مختلف الاصعدة التعليمية. وصادفت العاصمة ازدهاراً ملحوظاً. فنشأت المصانع، وتطورت الزراعة، فتطوّرت العلاقات الاجتماعية، وأزاحت عن كواهل البلاد التخلّف التاريخي، وارتبطت بأسباب الحياة الحديثة، وها هي اليوم تغصّ بالمثقفين: شعراء وأدباء وفنانين وعلماء، على اختلاف الاصعدة والمناحي الادبية والفكرية. وما يهمّنا الآن هو الشعر في مولدافيا، فلقد ترعرع في هذا البلد الصغير على صعيد المنابع الشعبية التي تفتحت في القرنين السالفين تفتحاً خجولاً. وبقي الشعر اسير التقاليد الشعبية الموروثة المتمثلة بالفولكلور وما يشاكله بوجه عام. وبمقدار ما كانت البلاد تتفاعل حضارياً مع العالم الخارجي، كان الشعر يمسح عن وجهه وعثاء الحياة الغابرة، آخذاً بأسباب التطور التي بدأت تعصف بالريف، وتنعكس على القرى، فتوقظها من ركودها الزراعي، لتشارك في النهوض العام. وفي منتصف هذا القرن، برزت اسماء كبيرة امثال: اميليان بوكوف، أندريه لوبان، بوغدان ايسترو، يوسيف بالشان، ليفيو داميان وغيرهم. فنشر بوكوف كتابه الاول "اني اراكِ يا مولدافيا" سنة 1944، وأتبعه بكتاب: "ربيع على نهر دنسنر". وقد جاء في اعقاب هؤلاء الشعراء رتل آخر، برزت فيه اسماء الشعراء الشبّان، امثال: اناتولي فشوكانو، دوميترو ماتكوفسكي، أناتول كودرو، غيورغي فودا وغيرهم، ممن يملأون اليوم وجوه الصحائف المولدافية بقصائدهم وبنات افكارهم، ويحاولون ان يعكسوا في نتاجهم تنوع الحياة التي يحيونها، وكوامن الروح الشعبية في تفاعلها مع الاحداث الراهنة. 1 - من اميليان بوكوف 1909 الصحائف الصحائفُ تنتعشُ مع الفجر مَسَارُ البلادِ في مرآةِ السطور حياةُ الكرةِ من قطبٍ الى قطب مسكينٌ يا من لم تكنْ أَوَّل من يرى! الشمسُ بدأتْ ترشقُ أَشعة الظهيرة آخرُ البرقيَّاتِ تَوَلَّى النجمةُ التي طرَّقتْها يدُ الانسان فَتحتْ دورتَها في السماء... مسكينٌ أنتَ، إن لم تعرفْ... إن لَمْ تَسْتيقظ في أول ساعة! ليالي مولدافيا صيفُ مولدافيا صافيةٌ لياليه القمرُ قطعةُ نقودٍ تلتمعُ طيورُ التَمِّ شفَّافةٌ تعبرُ أَبعادَ العمقِ الأزرق. يظهر تحليقُ غيوم، يُشَعْشعُ ويذوب... في نَسَمِ الأشعةِ المُرتعشة. تزحفُ الكرومُ مُقتحمةً الهضاب الأرضُ سكرى بالنُعاسِ والجهْدِ الخفيّ. ثمة ظلالٌ زرقاءُ تسكنُ السهلَ مليئةَ المأَزر بالإِجاصِ الناضج. الريحُ تتزحلقْ عبرَ الغصون اللَّدنة مثل هرٍّ مُدَلَّلٍ يدخلُ فجأةً قمَّة الاشجار الضخمة الخضراء ويسقطُ في صراعٍ مع الأدغالِ الرمادية في حافةِ الطريق، ويموت. الانطباعُ أن ليلَ مولدافيا والقمرَ الشفَّاف يَبتَسمان خلال الأغصانِ المُتشَابكة. النشيدُ الليليُّ ينتشرُ حولَ المياه. زغرداتُ الزمار تُطَاردُ الموجةُ تلْتقطُها... تَسْيُقُها في الهواء الذي يُعَكِّسُ العصفورَ النَفُور.. ظَنَّتِ الصبيَّةُ أن عينَها فاجأَتْهُ في العشِّ الذهبيِّ الذي سيَبْني في الخريف وانشقَّ أمام حلمها 2- من أندريه لوبان 1912 نَسيجُ أَشعَّةِ سَهْلِ الليل الصافي سهلُ الليل المولدافي. شعر دوماً أراكِ أمامي في ساعات الخطر أسمعكِ تُنادينني تشيرين إليَّ بأَنملك لكنكِ لم تنتظريني أَبداً في الطريق. تهجرينني دوماً ولا تقطعين سباقك: عنيت طريقك لحظة واحدة. فكيف لي أن أََتأَخرَّ؟ حين بلغتُ المعبر بلَغتهُ لإثارة من يدك يدك الجميلة لكنها قاسية، كنت أركض أحياناً وأنادي: - انتظريني... تَرَأَّفي بي! اصْقلي صَدغَيْكِ بأَناملك! لكنك كنت تصمتين وتنصرفين في خطٍّ مُستقيم... فتصبحُ الدربُ أَشدَّ قساوة والعطشُ أكثر شعَاراً ولكن، ما خسائر الماضي بالنسبة لي؟ الامس عندي يحيا في غدي إنه يُولد في قسَماتكِ الخالصة يولدُ فيكِ وما همّ السنوات المنصرمة فليس فيها ما أفقده. فإذا ما عجزتُ عن اللِّحاقِ بك فذاك لأن جهدي سيرافقك دوماً وحبوري وسوف تُخاطبيني باسمة وما الراحة بالنسبة لي؟ طريقي الذي تهدّده العاصفة يتيه في البعيد. لوحي لعينيَّ جلّليني بأنفاسك الكئيبة تعالي.. انعشي كل ما يُحييني. تَلبَّدت الغيوم في طريقي أمست أكثر وعورة لا تدعيني أتوقّف لأنكِ خياري الوحيد فشكراً لاهتمامٍ مَنَحْتنيه وجَّهتني صادقةً ولم تنتظريني إشفاقاً الخاتم قبلاً رميتُ خاتمَ حبيبتي بعيداً في سُهوب بلادي وطفقتُ أركضُ في الهضاب بحثاً عنه. هكذا تعلَّمتُ الركضَ قبلاً ألقيتُ خاتم حبيبتي في قاعِ البحر وغصْت في الموجة المزبدةِ بحثاً عنه. هكذا تعلَّمتُ السباحة. قبلاً أطلقتُ خاتم حبيبتي الى النجوم واقتلعتُ نعليَّ من الأرض بغيةَ إيجاده... وهكذا تعلَّمتُ التحليق! 3 - من بافل بوتسو 1933 أصباح بأَعلى الأصواتِ أُغنّي الأصباح المانحةَ نوافذنا ندى أَهدابها المضفيةَ الطراوة على صفّارات المصانع وتَهبُنا فحمَ الأخشاب المضروبة بالأَرق وجَلبةِ النجوم البالغة الأَلَق. بأَعلى الأصوات أُغنّي الأصباح ترصدُنا معابرُها على عتبةِ الباب مع نثير رجائها القائل: - سيكون يومك عامراً! إن استطعتَ ان تقطعَها شرائحَ كالخبز.. الليلُ ثعْلبٌ يلتقطُ حُطامَها الاسود. أَتسمعهُ يتزحلقُ هارباً عند مطلع الفجر الليلُ يهزُّ أشجار الحور كالبرانس الناعمة فتعرى من أوراقها في أطراف الحديقة تاركة الحبوب الناضحة تتسَّاقط فضيّة متألّقة من السماء. بأَعلى الأصوات أُغنّي الأصباح وأشاهد يقطة الدروب مذهولاً أرى إياب العصافير من الأكوان الكوكبيّة متشابكة بعصافير العالم الأرضي قاومَه لتنْتقد الحبَّ تحت شبّاكي. أبواق الفجر تدقُّ في الجوار يا من تحفرون الآبار يا عمّال الجسور العائمة أيها البنَّاؤون أيها الفلاحون والشعراء أزفت ساعتكم، قفوا، قفوا! انتصبوا كأشعة الشروق تعجّلوا لرؤية الكرمة تنمو انظروا: الأطفال ما كفُّوا عن النمو في حلمهم نحو النجوم سوف يطيرون شفَّافين. وأنا بأعلى الأصوات أُغنّي الأصباح. 4 - منغريغوري فييرو 1935 الأيادي عندما وُلدتُ كان على جبيني تاج ملك وتلأْلأَ في الحال: كان يدَ أمي الحبيبة أمي الحبيبة يدَ حبيبتي يدا أمي. ذات يوم، ولأول مرّة تلاقتا في شعري. واليوم أصبح عندي أطفال ولكن، منذ انبلاج الفجر وانقشاع الظلام يجدُ جبيني يدكِ يا أمَّاه. آهٍ... يَدُها! يدها الرفيقة كغصنٍ ذابل في غسَقِ الأيام شاخ على رأسي ببطءٍ هرمَ على رأسي. 5 - من أندريه كودرو 1937 أغنيةُ مقصّب الأحجار أحبُّ، أحبُّ الأحجار الكريمة فأنا منذ أجيال أقصّبها تولّدت من الأحجار الدهرية وخرجت من أرحامها... كائناً فرِحاً مُبتهجاً أرقص خلالها وأَشدُّ حزامي الجميل الذهبيّ العقدة. وعقدي أجمل منه أحجاره الكريمة تطير وترقص في قبّعتي مثل الريش حجارُ المرجان. سوف أمضي في تقصيب الأحجار فلي منها نصيبي، ولك نصيبك. سوف أضعها أعتاباً لبيتك وأضعها في باحتك، وفي حدائقك فتلك سعادة خُصصْتَ بها فتصرّف على هواك. وأنا سأقصّب.. سأقصّب أيتها الأحجار لأخرج من أرحامك أتحرّر، وأكبر.. مثل أجدادي وأسلافي أقصّبُ وأصقل الأحجار فذاك سببُ وجودي الوحيد... إنه قدري. الترجمة والتقديم: ميشال سليما