في فاتحة روايته أخبار الحملة الفرنسية على مصر، في ثلاثمائة صفحة أولها مطلع عام 1213 ه التي دخلت في 15 حزيران / يونيو 1798 م وآخرها شهر صفر الخير في 1216 ه وقع اتفاق انسحاب القوات الفرنسية في 27 حزيران 1801 وتم صعود الجنود الفرنسيين إلى المراكب الراسية في ميناء رشيد، في 9 آب / أغسطس من العام نفسه، يكتب الشيخ عبدالرحمن الجبرتي: "وهي سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف أول سنيِّ الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب". ومهما احتسب القارئ من العبارة عن المعنى حصة الإنشاء ومثاله العثماني، واطرحها، بقي من المعنى ما تقوله العبارة وتطنب في قوله وإبلاغه وهو "اختلال الزمن" برمته. فكأن الحادثة "العجيبة" وتاريخ الجبرتي موسوم ب"عجائب الأخبار" تتطاول إلى هيئة الخلق ونظامه ولا تقتصر على واقعة من الوقائع أو مخلوق من المخلوقات، أي على جزء من أجزاء الخلق. وقد توهم "الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة ... وتضاعف الشرور ... وحصول التدمير، وعموم الخراب..." بوصف المؤرخ الشاهد والمعاصر الفرق بين الحادثة "الفرنسية" والحوادث السابقة وصفاً يتناول الكم والعدد ويقتصر عليهما. وعلى هذا لا يختلف استيلاء القوات الفرنسية على معظم أرض مصر وبعض أراضي فلسطين، إلى طبريا التي دخلها الجنرال مورا "مراد" في 17 نيسان أبريل 1799، عن الحوادث المتفرقة والأخرى التي تتزاحم في تاريخ الجبرتي وفي تواريخ غيره من المؤرخين الذين كتبوا بالعربية قبله. وهذا، أي حمل الفرق على الكم والعدد والإحصاء، ليس دقيقاً. فالجبرتي، وهو يبتدئ تاريخه ب"ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية" غداة "أول خليفة في الأرض" وبعد صفحة واحدة خص بها صاحبُ التاريخ الخليفة الأول، يروي من الحوادث والوقائع والمحن والشرور والنوازل والملاحم ما تشيب لهوله الوِلدان، على زعم القَصَص البطولي والملحمي الشعبي. فلا يخلو منعطف من منعطفات التاريخ الذي يرويه، ويسرد حوادثه وأخباره، من القتل والتحريق والتغريق والتقطيع والتمثيل والتجويع أو المجاعات "التلقائية" والطواعين. وتترى صفحات التاريخ بحوادث الغلاء وحصول "الشِّدة العظيمة". ف"تحضر" أهالي القرى والأرياف إلى القاهرة "حتى تمتلئ منهم الأزقة... ويأكل الناس الجيف، ويموت الكثير من الجوع، وتخلو القرى من أهاليها، ويخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران ومن على رؤوس الخبازين". وتشبه أسواق القاهرة طرقاتها، قبل ثلاثة قرون، أسواق بغداد اليوم: "ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطيف وبأيديهم العصي حتى يخبزوه بالفرن ثم يعودوا به". فلا تدعو "الحوادث الجسيمة" المؤرخ إلا إلى تعظيم العدد. فإذ يروي مدرس رواق الجبرتية بالأزهر دخول هولاكو بغداد، في سنة أربع وخمسين وستمائة للهجرة 1256 م، وفيها "خليفة رب العالمين، وإمام المسلمين، وابن عم سيد المرسلين"، وفيها إليه "جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء والأئمة والقراء..."، يرضى صاحب التأريخ من الرواية "العظيمة"، بالقول: وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق. ثم إن هولاكو أمر بعدِّ القتلى فبلغوا ألف ألف ]= مليون[ وثمانمائة ألف وزيادة". وصح الرقم "الجزائري" هذا نسبة إلى "ثورة المليون شهيد"، حين الرقم المرجح هو الثلث، وثلثا الثلث هذا من ضحايا الحرب الأهلية في حرب التحرير أم لم يصح، وهو بعيد كثيراً من الصدق، يبقى التعليق على الأمر مقتصداً وممسكاً. ولا يكاد يفرغ المؤرخ من إحصاء القتلى، أو حكاية الإحصاء، حتى يكمل، غير متوقف ولا متأمل: "ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها ...، ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب... واستولوا عليها، وأحرقوا المساجد، وجرت الدماء في الأزمة، وفعلوا ما لم يتقدم مثله". ويوالي الجبرتي، شأن المقريزي أو ابن الأثير، أو الذهبي، وغيرهم كثير، يوالي "ما لم يسمع بمثله" و"فعلوا ما لم يتقدم مثله"، والفرق بين التقديرين أسطر قليلة - وهذا على شاكلة "ذاكرة" الكتّاب "القوميين" "الفلسطينيين" المعاصرين وحملهم حوادثهم على "الأهوال" الفريدة. فإذا انتهى به الأمر، بعد ثمانمئة صفحة، إلى رسو مراكب "الفرنسيس" وعماراتهم البحرية قبالة رشيد ودمنهور، في يوم الإثنين ثامن عشر محرم والأول من تموز / يوليو، لم ترجح كفة "الألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة" من قتلى التتار، ولا كفة ألوف الألوف من ضحايا المجاعات والطواعين والأوبئة وحروب الفقارية والقاسمية الأهلية والعصبية بمصر، على كفة الحادثة "الفرنسية". وهذه، لا ريب، لم تكن رفيقة بمن وقعت عليهم، ولا مقتصدة بدمائهم وأنفاسهم، شأن حروب ذلك الزمان وغيره من الأزمنة. لكنها لم تبلغ، بحسب الجبرتي الشاهد والمؤرخ، مبلغ ألوف هولاكو المؤلفة، ولا مبلغ المجاعات والطواعين المتواترة وضحاياها التي لا تحصى. ميزانان والحق أن من يزن ضخامة الحادثة التاريخية في ميزان الإحصاء الإنساني هو نحن، معاصرو العصر الأوروبي، والآخذون عنه، ولو ضده وعليه وخصوصاً ضده وعليه، قيمه الإنسانوية. أما الجبرتي ومعاصروه، وخلفاؤه الكثر إلى يومنا هذا، فالميزان الذي يزن به الحوادث والوقائع التي لا تنفك من التقويم والقياس والأحكام المعيارية ويفضي من طريقه إلى تخصيص الحادثة "الفرنسية" بصفة "انعكاس المطبوع ]ما طبع عليه الخلق[، وانقلاب الموضوع ]ما وضع عليه الخلق أو الزمن["، هذا الميزان لا ريب مختلف عن ميزاننا وميزان أمثالنا. ولا يتستر الجبرتي، وهو في هذا لسان معاصريه من طبقته وصنفه وطائفته، على علة وصفه استيلاء "الفرنسيس" على مصر وبعض البلاد الفلسطينية بالصفة غير المسبوقة والفريدة التي يصفه بها، وتشي بخلل طرأ على نظام الخلق والكون. فالمستولون الجدد، على خلاف بني عثمان الذين "برأ الله دولتهم من البدع، وهذه منقبة مختصة بملكهم، وكذلك لم تزل قوتهم متزايدة"، لا يدخلون في باب ولاة الأمور القائمين على مراعاة "العدل والإنصاف بين الناس والرعايا توصلاً إلى نظام المملكة، وتوسلاً إلى نظام السلطة" بالقهر والسطوة، من وجه آخر. أي ان أهل "الملة الفرنساوية" ليسوا من المسلمين ولا من أهل الإسلام، ولا من أنصار الدولة العلية العثمانية. فإذا كتب الفاتحون الجدد في "مرسومهم"، أو بيانهم ومنشورهم الذي أرادوه تعريفاً بهم مقرِّباً إلى عقول المصريين المسلمين وقلوبهم ومحبباً، "إن جميع الناس متساوون عند الله تعالى" رد الجبرتي منكراً ومستفظعاً: "هذا كذب وجهل وحماقة، كيف وقد فضل الله بعضهم على بعض، وشهد بذلك أهل السموات والأرض". وإذا خاطب بونابرت في مرسومه هذا، وهو نصه بنفسه على مترجمه على ما قيل، القارئين المحتملين، وناشدهم: "قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة النصارى" - يريد إيقاد ذكرى الحروب الصليبية وهي لم تخلف في تاريخ الجبرتي وأذهان معاصريه إلا أثراً ضئيلاً لم يشتد إلا في ضوء التأريخ الاستشراقي اللاحق - لم تكن حاشية عالم الدين المصري أقل إنكاراً ولا أرفق تكذيباً: "فهؤلاء خالفوا النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين، فتراهم دهرية معطلون ]كذا[ وللمعاد والحشر منكرون، وللنبوة والرسالة جاحدون". وكان هذا، بالحرف تقريباً، رد روح الله خميني في "ولاية الفقيه" 1969 على "الحياد" الديني والاعتقادي، الأوروبي والليبرالي، في مسألة الإيمان. وكان "فرمان" السلطان العثماني، سليم، "حضر" إلى عكّا، على ما يكتب الأمير حيدر الشهابي صاحب "كتاب الغرر الحسان في تاريخ حوادث الأزمان"، حين "تكاثر الأخبار بقدوم الإفرنج إلى الاسكندرية واشتغال بال الجزار بذلك". وكان "الفرمان" مع القبطان سميث "ساري عسكر الإنكليز". ويخاطب السلطان "جماعة الموحدين وملة المسلمين"، وينهي إلى علمهم أن "الطائفة الفرنساوية" "تركوا جميع الأديان وأنكروا الآخرة والديان ... حتى إنهم نهبوا أموال كنائسهم، وزينة صلبانهم، وأغاروا على قسوسهم ورهبانهم، وزعموا أن الكتب ... القرآن والتوراة والإنجيل ليس إلا أساطير وأقاويل". وعلى هذا الأصل من الزعم بنوا أن "الناس في البشرية سواء كلهم، ليس لواحد على آخر فضل ولا مزية، بل الجميع مشتركون في الإنسانية على السوية" وكل منهم في ذاته يدبر أمر نفسه في حياته. وعلى هذا الاعتقاد الباطن ... بنوا قواعد جديدة، وقوانين شديدة ...، وحللوا لأنفسهم جميع المحرمات، واستباحوا كل ما تميل إليه الشهوات ... وألقوا الفساد بين الملوك والدول ... وسلطوا الأدنى على الأعلى...". ويستدل الفرمان من سياسة الفرنسيين هذه عزمهم على "هدم الكعبة وبيت مقدس المسلمين وجميع معابدهم". وبذلك "يدرس رسم الإسلام، ويظفرون بالمرام والسلام"، على حسب تلخيص "الفرمان" السلطاني "المرسوم" البونابرتي والثوري. فملة الفرنساويين، في مرآة أقوالهم وسياستهم وتدبيرهم أحوال المصريين وحربهم، كذابون وجَهَلة ومحَّمقون، وهم دهريون وجاحدون ملحدون: وإذا شاء "المسلم المصري" على نحو ما عرف نفسه حسين فوزي، "سندباد مصري"، نفسه، غداة قرن وستة عقود على الحملة، ومثله السلطان العثماني أو كاتبه وعرضحاله وباشكاتبه، إيجاز اعتقاد الفرنسيين، وهو ما يَبِينون به منه ومن المسلمين المصريين وغيرهم من أمثاله أشد المباينة وأبعدها، ولعل رسوم أفعال الجوارح هذه، وهي "السلوكيات" في بعض الرطانة المحدثة، أقوى تعريفاً بالهويات الحضارية والثقافية، أو بالهيئات والذوات التاريخية والإجتماعية، من الأفكار المساواة، العلمانية... التي أنكر الجبرتي، المسلم العثماني، على الغزاة الفاتحين الأخذ بها واعتقاد صدقها. ولا يجافي نعت الجبرتي الفرنسيين ولا نعت السلطان إياهم وملاحظته الثاقبة جمعهم العقلانية، دون النقل والشريعة، إلى الفردية ونزعاتها الخارجة على المثالات، والعامية، لا الدقة ولا الصدق وحين يلاحظ قارئ اليوم أن بعض "أساطين" الثقافة المكتوبة بالعربية يقصرون تعريفهم "الغرب" على العقل، وينسون الفردية أو يعلقونها على العقل، يعظم إعجابه بالجبرتي "العثماني" على قدر ما يقلقه ضعف بصيرة "المفكرين" المزعومين وكلل بصرهم. الخارج في الداخل وهذا ما يبعث المسلمين المعاصرين على القلق والاستهوال والإنكار الشديد. فهم شهود انقطاع حاد وحاسم من كل مألوف، أو معروف، أو مثيل، خبروه وتألفوه. وهذا الإنقطاع تناول أول ما تناول الترتيب الديني، الكلي والكوني، "للممالك"، أي للدول والقوى السياسية والجماعات. فإذا بالترتيب الموروث، وهو كان ترتيباً مقبولاً ومعقولاً بسبب انكفاء الوحدات السياسية والجماعات كل على نفسها وإنشائها عالمها على حدة تقريباً، إذا بهذا الترتيب يتصدع من خارج. وإذا بهذا الخارج، أو الغير التَّام الغيرية والمخالفة، يمثل في قلب الداخل بالقوة، ويبسط أمامه رسومه وهيئته وصوره. فلا يترك شاردة ولا واردة: من إنشاء هيئات الإدارة المحلية إلى جباية الفروض والمكوس المالية على الأملاك والمواريث، ومن نشر الصحف إلى آداب النظافة والمجالسة، ومن فنون القتال على شاكلة "الكردوس" الحشد مربعات مغلقة إلى مساواة الأقباط بالمسلمين ملبساً ومركباً ومكانة وبعث دور الطرق الصوفية في الاحتفالات العامة وإشهاد العامة على بعض الإختبارات العلمية والتجديد الصناعي المتواضع والباهر - لا يترك وجهاً من وجوه العمل والصنع والقول إلا يتوسله إلى إعلان ابتداعه فيه والمجاهرة ببدعه واكتشافاته. وإلى هذا كله، وربما فوق هذا كله، فهو فاتح ثرثار لا يألو جهداً في تعليل ما يبتدع وفي رده إلى أصوله، أو تأصيله وتسويغه. فهو لا يرضى أن يكون، هو وأفكاره ورسومه وأفعاله، عَرَضاً أو عارضاً، ولا جزءاً من الأجزاء. بل ينزع، على ما يقول بالفم الملآن، إلى خلافة كل ما سبقه، وقطع دابر ما سبقه. وينسب إلى نفسه الحق في هذه الخلافة حقاً غير مقيد. فهو، بآلَتَيْه "تحكيم العقل" والفردية، وينبغي زيادة "العامية" الديموقراطية، - أي إنه بزعم صدور البشر، مجتمعاتٍ وأفراداً، عن أنفسهم وعللهم وليس عن نظام متوارث عن الخلق، يُنزل نفسه منزلة الجامع العام الذي لا استثناء لعمومه "البشرية" كلها، على ما لاحظ "الفرمان" السلطاني إلى باشا عكا، وجزارها القديم، ولا حدود تنكفئ وراءها الجماعات وتحصن بها هىئات اجتماعها وأركان هذه الهيئات. ولم تَفُت الجِدَّة الصارخة معاصري الحملة العثمانيين أي المسلمين " الصفة المحلية والبلدية، على خلاف فوتها المتأخرين والمحدثين من "تقدميين" وإسلاميين سياسيين على حد سواء. فجواز تناول الممالك الشعوب والأمم والقبائل على وجه "الإنسانية على السوية"، أو على وجه "سواء البشرية" من غير ترتيب ولا تفضيل، "كل منهم في ذاته" يصدر عن رأي نفسه، و"يدبر أمر نفسه في حياته" من غير سنن يُستن عليها، ولا وحي يرسي السنن على لوح محفوظ وإرادة عادلة، يُسْلم الناس، ودنياهم الكثيرة والمزركشة، على ما رأى المعاصرون من غير تردد، إلى اقتتال لا ينتهي إلى غاية معلومة، وإلى سلطان يكافئ الجامع العام وغاشيته جمعاً وعموماً ووحدة. وعلى غرابة الفكرة، "ترجمها" العثمانيون إلى كلامهم وفيه، ووقعوا على مكافئ فكري ومعنوي لها. فلا مسوغ، بعد هذا، على خلاف "المطبوع" و"الموضوع" و"الزمن" و"التدبير" الإلهي والإنسي الفطري، لكثرة الشعوب والقبائل أو لتفرق أحوالها ورسومها وشرائعها وممالكها، أي أنظمتها ومذاهبها الدينية والاجتماعية والسياسية. وإذا كان "حكم" العقل والفرد والعامة هو محجة "الأزمان" وغرتها، على قول الشهابي، فالحكم في "الأمة المحمدية"، وفي غيرها من الأمم والملل، إنما هو دروس الأثر والذكر وعودتهما إلى النسيان: "فلا يعتقدون بيوم الحشر والنشر، ويقولون لا يهلكنا إلا الدهر، وما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وليس وراء ذلك بعث ولا حساب" "الفرمان" السلطاني. وهذا، إذا حُمل على حرفه وعلى غاية حده، إنما هو قضاء على الأمم الضعيفة و"المتأخرة" بالموت، على ما ذهب إليه شكيب أرسلان في أول العقد الرابع من القرن العشرين. فالمجتمعات أو الحضارات المستقرة في الكثرة وعليها، ولو من باب الأصل الآدمي الواحد والمشترك، تسوغ الكثرة بنظام كوني وغائي حكيم "لِتَعارَفوا"، وتحلها محل الركن من الخلق، مطبوعاً وموضوعاً. وهي، بفعلها هذا، تحامي عن هويتها وانفصالها وعن رسوخها في ماضي الزمن وفي آتيه. ولا يُرد هذا إلى "تجديد انتاج" السيطرة عليها، على ما ذهب، ويذهب، إليه أصحاب "التاريخانية المطلقة"، ولا يختصر فيه. فالمختلف، أو الغير والمباين، أصل من أصلي العقل، وليس ما هو نفسه المؤتلف ومكافئ نفسه، أي الواحد كل العقل. فما رأى إليه المسلمون المصريون والعثمانيون، في أواخر القرن الثامن عشر، عدواناً غاشماً لا عبارة تؤدي عنه ظلمه وهوله وقهره إنما هو اقتحام الغير المختلف "الآخر"، الكلي الغيرية والإختلاف، عليهم عالمهم ودنياهم الوادعَين، على رغم العسف والظلم والمجاعات والقحط والأوبئة والاقتتال وإلفتها. فهذه كلها تجاب بالتضمين القرآني الذي يختم به الشيخ عبدالرحمن الجبرتي استهلاله أخبار السنّة العظيمة: "وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" سورة هود، 11. أما التصدي إلى التشريع والتدبير، وإلى الأفعال والسنن والتقاليد والمعاملات والعبادات، ب"حكمة مصنوعة" - أراد الفرنساويون ب"حيلة فرنساوية" أن "يطيروا مركباً في الهواء" منطاداً يجلس فيه "أنفار من الناس ويسافرون فيه إلى البلدان البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات" فهوى المنطاد في بركة الأزبكية بعيد طيرانه، ففرح الجبرتي لفساد "الحكمة المصنوعة" واعتدادها بقدرتها على مغالبة "طلب" الشيء "مركزه"، أي على مغالبة الموضوع المطبوع، أو الطبيعي الأرسطي - أما التصدي على هذا النحو لسنن الخلق في عالم الإنس وأممه ومراتبه، ونصب هذا التصدي قدوة ومثالاً وسنّة، فهذا ما استشعره المصريون والعثمانيون جَبَّاً لشريعة الخلق ومنهاجه، وخروجاً عليهما، وقضاءً بالعدم في أنفسهم وآبائهم ودينهم وعمرانهم. التحريف والتأويل وفي هذا الميزان لا تزن الحياة، ولا يزن البشر الذي تُنفخ فيهم الحياة ويتناقلونها، ثقيلاً ولا كثيراً. فالحرب إذ ذاك هي "حرب الآلهة" المزعومة، على قول الألماني ماكس فيبر. وحرب "أشباه الآلهة" وأنصافهم، على حسب شاعر اليونان و"مربيها" وصاحب "إلياذتها"، هي على الدوام حرب استئصال وإبادة، فكيف بحرب الآلهة، التامي الألوهة، ولو مزعومة ومنحولة، على قول "زمرة الموحدين" في أهل الوثنية. ويزن الجبرتي، ومعه المسلمون العثمانيون والمصريون، الألف ألف قتيل، ومصر يومها تعد نحو ألفي ألف مليوني وخمسمائة ألف نسمة، في هذا الميزان، وفي كفة تشيل بإزاء الكفة التي توضع فيها "النفس"، أي عالمها ودنياها وما تعقل من طريقه نفسها وغيرها. فلم يرَ المسلمون المصريون في "الفرنساوية" محررين من النير العثماني، ولا من "الاحتكار" الانكليزي البحارَ والمحيطات والملاحة عليهما، على ما كانت صحف باريس في الأثناء تعيد القول. ولما مَثَل المحررون، وحملة ألوية المساواة و"سوية البشرية" الواحدة والعقل والفرد القائم برأسه والعامة، وشخصوا بأعيانهم إلى مصر، نسبهم المسلمون المصريون والعثمانيون إلى العدوان المحض، وإلى المصنوع الخالص من غير حكمة ولا طبع. فانقلب حملة شعلة الحرية إلى مستعبدين ومستبدين، على ما كتب فرنكو فيريرو، المؤرخ السياسي الإيطالي الكبير بين الحربين، في تعليل تخلف الإيطاليين والألمان والإسبان عن الركب الثوري الأوروبي طيلة نيف ونصف قرن. لكن فيريرو يلقي بالتبعة عن هذا التخلف على المتخلفين أنفسهم. فيخالف إجماع المثقفين "التقدميين" و"العثمانيين" العرب على تحميل التبعة عن "الرضة" الأوروبية، أو "الصدمة" في لغة قريبة، الفاتحين والغزاة. ومهما كان من أمر التبعة ومناقشتها فما لا ريب فيه هو دوام التناول "العثماني" للحملة ومعناها إلى يومنا. فالذين يصفون الحملة ب"الجرح" و"المهانة"، ويرون إلى "الإحتفال" بها ومعنى "الاحتفال" هو الاستحضار في التاريخ والإدراج فيه، مذلة وخروجاً عن جادة العقل والصواب، إنما هم معتدلون بالقياس إلى ما ذهب إليه المعاصرون، علماء وقضاةً وعرضحالجية وولاة. ومصدر الإعتدال هو تغير الأحوال، مهما زيَّن الوهم للمحافظين جواز بقاء المعاني على حالها وخلودها عليها. فما بدا فرادة غريبة، وبدعة غربية، لم يلبث بعض أشد "العثمانيين" سلفية أن حملوه على أصول ذاتية وإسلامية، ونسبوه إلى سابقة من هذه الأصول. وكان جلياً في ذروة المجابهة والحرب، الماديتين والمعنويتين، أن الخارج الفرنسي، العقلي والفردي والعامي، ليس ممتنعاً من تناول الداخل، ولا من مباشرة "مطبوعه" و"موضوعه" المزعومين. فأدرك الداخل، إذا جاز تشخيصه على هذا النحو وهو غير جائز، معنى أفعال الوافدين، وردها إلى أصولها وعللها، وتعقب فروعها ومفاعيلها، ورتب الفروع والمفاعيل على مراتب. فكان بين مشايخ الديوان العمومي المجلس التمثيلي المحلي للسلطة الذاتية المصرية، الأول والثاني، مثل الشيخ الطنطاوي أحد أشد أنصار عمر مكرم نصرة له، من أدرك جدوى تنظيم الإتاوات على المواريث وملك الزرق العقاري على المثال الفرنسي المفروض. وانتبه عمر مكرم، نقيب الأشراف الشاب، إلى موارد الحركة العامية التي ولدت، بين ولادات كثيرة سابقة ولاحقة، في مدينة رشيد الساحلية وفي أثناء التصدي العامي لنزول القوات الفرنسية، بينما كان الأعيان، أعيان الحرب والسياسة وأعيان التجارة و"العلم"، يولون الأدبار حقيقةً وليس مجازاً ولا استعارة. وقد يكون معنى هذا أن تحجير المجابهة على لحظة لا قبل لها ولا بعد، على مثال "فلسطيني" عروبي إسلامي وخميني، ينقضُّ فيها "غرب" الإنسانية على "شرقها"، وذلك في المجتمع الواحد والأمة الواحدة وعلى المثال الغربي / الشرقي نفسه، إنما هو من نسج خيال مغرض وخاو. فالإثنان، على ما يُوصف خصما الحرب ومعسكراها، روى واحدهما الآخر، ووصفه، حين كان يروي، في الوقت الواحد، نفسه هو ويصفها. ونظر الواحد إلى خصمه وتفحصه وقاس، على مقادير متفاوتة ومختلفة، بُعد ما بينه وبينه وقرب ما بينهما. فلم تجمد المجابهة، على رغم قسوتها والفرق بين طرفيها، لا في خرس الرضة الأليم، ولا في رنين معدن الصدمة الأبله و"عجمته"، ولا في ضغينة الوقيعة اللئيمة. وقد يدعو تناول الحملة على هذا الوجه - وهو وجه لا يعدو استخراج بعض المباني من الجمل والأقوال والأفعال التي صدرت عن المشاركين في الحملة وفي صدها - إلى تأريخ أعقابها، أو ذريتها الثقافية في المقالات التي تناولتها أو ردت إليها، على نحو تأريخ التحريف أو التأويل. فالحادثة التاريخية الاجتماعية، شأن الحادثة الفردية "النفسية"، لا يباشر تناولها فهماً وتعليلاً إلا من طريق طبقات متراكمة من التأويل والاستعمال والإعمال في أوقات الحاضر المتعاقبة. وعلى هذا ربما كان دليل المتكلمين في حملة 1798 هو رسائل الشيخ حسن البنا في 1928 - 1929 بالإسماعيلية. ولا شك في أن معظم معاني الحملة إنما يصاغ في "لغة 1948" الفلسطينية، وفي "لغة 1979" الإيرانية الخمينية، أي في لغة "النكبة" وفي لغة "الصحوة" وهذه قد يتكلمها أهل الجامع العام الناجز وأهل "العلم" من أمثال سلامة موسى وقبله شبلي الشميل. أما المعاني الحية فتؤديها لغة بين الإثنتين قد تشبه لغة ماتشادو، الشاعر الإسباني: "يا سماء ويا أرض ويا شمس / خذيني / اتركيني": فإذا استبقيتني من بعد أن أخذتني أنّى لي، عوليس يظن الظنون في أبد الآلهة، أن أروي الخبر الذي تذهب به الركبان؟ - من "مظهر التقديس في ذهاب دولة الفرنسيس" للجبرتي : "عقيدتهم تحكيم العقل وما تستحسنه النفوس بحسب الشهوات" لا يبالون بكشف العورات" يمسحون المحل ]محل التغوط أو الدبر[ ولو بورقة مكتوبة، ويطأون على ما يتيسر من النساء، ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً، ولا يخلعون نعالهم، ويتمخطون ويبصقون على الفراش". * كاتب لبناني.