الذرائعية والدوغمائية ركيزتا العقل السياسي العربي في مساراته المتعددة للبحث عن مخارج لاستعصاء الواقع، وهاتان الركيزتان تدعمان هذا الاستعصاء أكثر ما تساهمان بفكفكته، ما يدخل الحلول المقترحة المرة بعد الأخرى في دائرة المستحيل. فلا يمكن تحليل الواقع إلا من خلال الكشف عن مشكلاته الحقيقية وتمفصل هذه المشكلات في الواقع، لايجاد مخارج وحلول على قاعدة أن معرفة الواقع هي الشوط الأول للتأثير فيه. لكن آليات عمل العقل السياسي العربي، تعمل بطريقة معاكسة - مهما كانت قوة النفي لهذه الآلية - حيث تتمثل في رغبات القيادة السياسية، وتفترض امكانية تحول هذه الرغبات إلى وقائع، لكنها لا تطرحها في خطابها السياسي بوصفها رغبات، إنما تطرحها بوصفها استنتاجات تم استخلاصها من خلال التحليل الدقيق للواقع الموضوعي. وحتى تظهر بهذا المظهر لا بد من استناد الخطاب السياسي إلى ذرائع تُستدعى استدعاء الدوغما من أجل دمج الرغبات والمصالح الذاتية في سياق خطاب سياسي يعتقد القادة أنه مؤثر في الجمهور، ما يجعل التحايل وتزييف الحقائق وتصوير انتصارات وهمية مهمة القائد السياسي. هذا الواقع يخترق التعابير السياسية بتلاوينها كافة بتفاوت طفيف، يقع في إطار قدرة هذا القائد أو ذاك الذاتية في اخراج الصيغة الأجمل للخطاب السياسي الذي يحتوي على مفاصل: الرغبة الذرائعية، التزييف، قلب الحقائق، والذي يخدم أساساً الرغبة التي يراها السياسي واقعاً، محاولاً بذلك أن يلعب الدور الذي كان يلعبه الساحر في المجتمعات القديمة. ولا يشذ دعاة الديموقراطية والحرية الذين نموا كالفطر في السنوات الأخيرة عن هذه القاعدة، لذلك ليس من الغريب أن يظهر داعية الحرية والديموقراطية بوصفه الأكثر تخلفاً من زاوية تطبيق ما يدعيه، فهو داعية لحريته وليس لحرية الآخرين، وهو ديموقراطي لكي يصل إلى فرض وجهة نظره على الآخرين، وهو مع حرية التعبير عن الرأي التي تعادل قمع الرأي الآخر. أي ان الشعارات تقرأ من موقع ذاتي، وهو الذي يحكم الممارسة الفعلية لهذا الطرح العقلي الذي يبدو منطقياً. وهذا لا يتمثل على صعيد الأفراد فحسب، بل على صعيد الأحزاب أيضاً، ما يجعل الظاهرة شاملة، لذلك يمكن القول إنه لا معنى للمقولات النظرية إذا لم تكن ناظمة لعلاقات الممارسة، أي أن الممارسة المتخلفة تكون أكثر تعبيراً عن الواقع الفعلي من المركب الادعائي للشعار المنطقي، بحيث تبدو الممارسة أكثر تطابقاً مع الواقع وقيم المجتمع السائدة، وتكون متماشية معه، في الوقت الذي تتماشى الادعاءات مع الموضة القائمة أو للدفاع عن مصالح تتطلب هذا الادعاء