جورج طرابيشي في ثقافة الديموقراطية دار الطليعة - بيروت 1998 - 175 صفحة هناك ملاحظتان توضيحيتان لا بد منهما في البداية: الأولى، ان كتاب "في ثقافة الديموقراطية" ليس نصاً واحداً وانما يضم مجموعة مقالات سبق للمؤلف ان نشرها، أو نشر معظمها، خلال فترات زمنية متباعدة. والثانية، ان النصوص المشار اليها هي حصيلة عمل نقدي قام به المؤلف وشمل عدداً من الكتب صدرت خلال السنوات الأربع الماضية باللغة الفرنسية وعالجت جوانب مختلفة من موضوع الديموقراطية: نشأتها وتطورها. وعلى رغم تعدد المقالات المنشورة وتباين الآراء التي تضمنتها حيال قضية الديموقراطية والاشكاليات التي أثارتها في الماضي وتثيرها الآن، إلا ان تنوع المصادر الفكرية للنصوص الأصلية وحرص المؤلف على تحقىق وحدة الموضوع وتكامله أضفى على الكتاب أهمية خاصة يستحقها موضوع المعالجة، بقدر ما شكلت تدخلات المؤلف واجتهاداته وتحليلاته العميقة وأسلوبه المتميز قيمة نقدية، بحد ذاتها. وهذا العمل المركب، كما يتبين من النصوص المنشورة ومن أسلوب المعالجة، يعكس أمرين أساسيين: - أولاً، محصلة تجربة المؤلف الشخصية، الذي يحاول ان يقطع مع ماضيه السياسي من خلال ممارسة نوع من النقد الذاتي - كما فعل في مناسبات اخرى عديدة - بعد الاعتراف بأنه وقع - مع جيله - "ضحية خدعة نظرية ماكرة"، وذلك بسبب "الاعتقاد بأن الغرب، صانع الحداثة، يعاني من تناقض عضال: الطلاق بين قاعدته المادية المتقدمة وبنيته الفوقية السياسية المتخلفة"، ما يحتم تقويم الديموقراطية وتصحيحها، عبر الوسائل الثورية، لإحداث تطابق بين البنية الفوقية والبنية التحتية، وهو الأمر الذي أدى - كما يقول - الى فشل جميع التجارب الديموقراطية في العالم الثالث، بتسمياتها المختلفة. ثانياً: الانحياز الكامل للديموقراطية باعتبارها "النظام السياسي الأرقى والأكثر عقلنة بين سائر الأنظمة السياسية التي اخترعتها البشرية في مسارها التاريخي الطويل. بيد ان المؤلف يستدرك ويحذر، في الوقت نفسه، من تحويل الديموقراطية، في الوعي النقدي، وفي الممارسة - إذا كانت ثمة فرصة لذلك - الى "اسطورة خلاصية"، لأن "كاتب هذه السطور مارس مع كثيرين غيره من أبناء جيله اسطورة الخلاص الثورية، ولكنه مصر، في ختام رحلة العمر هذه على ألا يمارس اسطورة الخلاص الديموقراطية". فالاسطورة، كما يقول، "على حمولتها من الجمال والشاعرية، لغة طفلية، بقدر ما هي مثالية، في قراءة العالم. والحال ان الواقعية شرط لقراءة راشدة". فالمؤلف يرى انه بسبب الاكتشاف المتأخر لپ"فضيلة الديموقراطية" لدى شريحة واسعة من الانتلجنسيا المنتجة للخطاب العربي المعاصر، "أصبحت الديموقراطية مهددة بأن تتحول - وقد تحولت فعلاً لدى هؤلاء - الى ايديولوجيا ديموقراطية بديلة عن الاىديولوجيا الثورية أو القومية الآفلة شمسهما". وتحت تأثير هذا الهاجس الذي يسيطر على المؤلف ويتجلى في مختلف كتاباته، فهو يسارع الى التوضيح في مقدمة كتابه بأن "ما يسم المقالات المنشورة هو الحذر من السقوط في هذا المطب، ومن التحول عن الوعي النقدي الى وعي ايديولوجي يتعامى عن المشروطية التاريخية للديموقراطية ليؤسسها في غنائية مثالية خلاصية". كما يؤكد ان وظيفة الانتلجنسيا تكمن في ممارسة التربية الديموقراطية لا ممارسة الديموقراطية. يخصص المؤلف مقالاته الثلاثة الأولى لمناقشة اشكاليات الديموقراطية في العالم العربي، في ضوء التجارب السياسية للدول العربية خلال العقود الأخيرة. وفضلاً عن غياب الشروط الاساسية التي تسمح بقيام ديموقراطية صحيحة، سواء كانت الديموقراطية مباشرة أو تمثيلية، فإن المؤلف يحمل الحركات السياسية والايديولوجية العربية "الشطر الأكبر من المسؤولية عن الاغتيال النظري لفكرة الديموقراطية، بل الاغتيال العملي ايضاً في الحالات التي أمكن فيها لتلك الحركات ان تتحول الى أحزاب حاكمة". وإذا كان الحكم على النتائج يبدو صحيحاً، لأن كل الوقائع الراهنة تؤكدها، إلا ان تقويم المرحلة السابقة لا يكتسب موضوعيته الكاملة اذا اقتصر اطاره على الأسس والمبادئ النظرية المتعلقة بالديموقراطية. فالمؤلف عالج الجوانب النظرية بإسهاب، سواء من خلال مراجعته النقدية لعدد من الكتب المتخصصة، أو من خلال تحليلاته واطروحاته الشخصية. ولهذا، فهو لامس عدداً من العقبات الرئيسية التي تواجه الديموقراطية، في العالم العربي بخاصة، وفي العالم الثالث بعامة، وفي مقدمها انعدام الشروط الموضوعية التي تضمن الإعلاء من شأن مفاهيم اساسية كالحرية والعدالة والمساواة، والاعتراف بأهمية الحوار مع الآخر للوصول الى ارساء قاعدة ثابتة للنظام السياسي قوامها التوافق وتعزيز دور المؤسسات الدستورية، كذلك احداث فعل واضح بين السلطات تجنباً لطغيان سلطة على أخرى. واكتساب الثقافة الديموقراطية يأتي في مقدم الاشكاليات التي يطرحها المؤلف ويؤكد عليها باعتبارها شرطاً لازماً لنجاح أي تجربة ديموقراطية. فالديموقراطية غير قابلة للاختزال الى محض آلية انتخابية وان يكن الانتخاب أهم آلياتها بإطلاق. وهذا الشرط يقود الى الكلام على دور الفرد الذي يعتبر قاعدة العملية الانتخابية. فبقدر ما يتعزز شأن الفرد، ويعترف بقيمته وحقوقه ودوره، تكتسب الديموقراطية مزيداً من عناصر قوتها. بيد ان الوصول الى هذه النتيجة يتطلب، أولاً، معالجة مشكلة الأمية في المجتمعات العربية، كما في أي مجتمعات اخرى، بما يرفع مستوى الوعي لدى الأفراد. وان كان المؤلف يبالغ في هذا الشرط الى حد "ربط الديموقراطية بنصاب التعلم"، بحيث "يتوسع حق الانتخاب ويعمم طرداً مع تعميم التعليم". مع ذلك يعتبر، هو نفسه، ان شرطه من نوع "الهرطقة الديموقراطية". ذلك ان تطبيق هذه القاعدة يعيد التجربة الديموقراطية الى مراحلها الأولى، عندما كان حق الانتخاب يقترن بشرط الجنس أو اللون أو المكانة الاجتماعية أو تنفيذ بعض الالتزامات المواطنية، كدفع الضرائب مثلاً. وربما لهذا السبب، ولأسباب اخرى تتعلق بسلامة الممارسة الديموقراطية، ينصح المؤلف بپ"أخذ الوقت" - على حد تعبيره - لبذر الثقاقة الديموقراطية، من خلال "هدنة" تعلق فيها شعارات اسقاط الأنظمة القائمة لصالح مطلب اصلاحات ديموقراطية متدرجة، على ان يتحول النشاط الجماهيري خلال ذلك الى داخل البرلمانات - إن وجدت - أو الى الشارع في تظاهرات سلمية تؤكد فيها الأكثرية موقفها ومطالبها. الإشكالية الأخرى التي يطرحها المؤلف تتعلق بالقوى السياسية "التي لا تؤمن بالديموقراطية ولا تتوسل بها إلا بهدف إلغائها"، على حد تعبيره. فهو يتساءل عما اذا كان ينبغي إباحة حرية النشاط السياسي لهذه القوى! وعلى رغم ان مثل هذا الاحتمال يجب استبعاده أياً يكن السياق الذي يطرح فيه، وذلك لاعتبارات ديموقراطية لا تحتمل اي تأويل - كما يؤكد المؤلف نفسه - بيد ان ما يحدث في بعض الدول "العالمثالثية"، ومنها دول عربية كالجزائر مثلاً، يخلق شكوكاً جدية حول امكانية تطبيق الديموقراطية. والمشكلة هنا لا تنحصر في استخدام السلطة الحاكمة أساليب غير ديموقراطية مع القوى التي تناصبها العداء، بل ان هذه القوى تمارس الأسلوب نفسه، ما يسمح بالاستنتاج ان الطرفين ينهلان من ثقافة واحدة، هي بالتأكيد ثقافة غير ديموقراطية، ولا تقود إلا الى طريق مسدود. هذا التشابك المعقد يلغي نجاعة الوصفات الجاهزة لمعالجة المعضلات الراهنة، بما فيها وصفة الديموقراطية. فلكي تطبق الديموقراطية وتنجح لا بد من ديموقراطيين. ومن الواضح ان ذلك يعيد المشكلة الى نقطة البداية في نوع من الدوران على النفس. فمن أجل تحقيق هذا الشرط ينبغي ايجاد، لا ثقافة ديموقراطية فقط، بل مجتمع متقدم يستطيع ان يستوعب العملية الديموقراطية ويتلاءم معها ويستجيب لشروطها. على ان المؤلف لم يعر أي اهتمام، خلال معالجته اشكالية الديموقراطية في وجهها العربي، لتطور رئيسي ألقى بظلاله القائمة على المنطقة العربية خلال نصف القرن الماضي ووسم كل أحداثها وتطوراتها، هو قيام دولة اسرائيل. فالانصاف يقتضي منا الاعتراف بأن الصراع العربي - الاسرائيلي أحدث تأثيرات عميقة في مختلف الدول العربية وجعل جميع السياسات والبرامج العربية مشدودة الى هذا الصراع ومضاعفاته ومرهونة بتطوراته. وعلى رغم ان هذا الحدث كان موضع استغلال سيئ في كثير من الاحيان لمنع إحداث تغييرات بنيوية تؤدي الى تطور المجتمعات العربية وأدوات الحكم فيها، لكن مواجهته كانت ايضاً محل اجماع شعبي تبدى بالاستعداد لتقديم كل التضحيات، بما في ذلك "إرجاء" التمتع ببعض الحقوق الاساسية، وتقديم متطلبات "المجهود الحربي" على متطلبات التنمية والرفاه الاجتماعي. وحيال ذلك لم يكن غريباً ألا يحظى موضوع الديموقراطية بالاهتمام الذي يستحق. فالمجتمعات العربية لم تكن تتطور بصورة طبيعية، نظراً للظروف السياسية السائدة في المنطقة، كما ان الشعوب العربية كانت ترى بأن معركتها الحقيقية هي مع الغرب: الغرب الذي استعمرها ويرفض ان يرفع قبضته عنها، والغرب الذي خلق اسرائيل وأمدها، وما زال يمدها بكل اسباب القوة والبقاء. ولذلك كان العداء للغرب يشمل كل ما يأتي منه وما يصدر عنه. وإذا كنا جميعاً "نبكي الآن على اللبن المسكوب" كما يقال فلأننا خسرنا المواجهة مع اسرائيل، وخسرنا معها معاركنا الأخرى: التنمية، التقدم العلمي، التطور الديموقراطي، وأشياء كثيرة اخرى تتعلق بمستقبل أجيالنا. لكن ذلك لا يعني ابداً ان معركتنا كانت وهمية، بما في ذلك العمل من أجل تحقيق الوحدة، حتى وان كان الكثيرون يتخذون الآن موقفاً مضاداً من الايديولوجيات كافة، بعد التحولات العالمية الأخيرة. بيد ان الصديق جورج طرابيشي محق في دعوته الى إحداث قطيعة مع الأسباب والعوامل التي أدت الى هزائمنا السابقة والى تخلف مجتمعاتنا العربية والعالمثالثية. ولعل فتح الباب واسعاً أمام الديموقراطية هو المدخل لإصلاح الاخطاء السابقة، أو تسليط الأضواء عليها، على الأقل. فالحرية: حرية الرأي والممارسة، هي أبرز تجليات الديموقراطية، ومن دون هذه الحرية لا سبيل لتحقيق التقدم المنشود. وفي هذا السياق، فإن كتاب "في ثقافة الديموقراطية" يضيف جديداً مهماً، لا لتعزيز الوعي النقدي وتعميقه فقط، بل لإرساء مفاهيم ديموقراطية أصيلة.