لم يبق الواقع مثيراً كفاية للتلفزيون البريطاني. لذا يضيف المشرفون على البرامج الكثير من "البهارات" للحصول على طعم حرّاق. وتعني الترجمة الاعلامية لهذا الطعم، شهقة المتفرج دهشة مما يسمع ويرى. وتعني شد اكبر عدد ممكن من المتفرجين، وسرقتهم من المحطات الاخرى المنافسة. نبني هذا الرأي بناء لتعليقات نشرتها الصحافة البريطانية اخيراً، تبين مدى الغش في بعض المواد المقدمة تلفزيونياً. الزيف في غالبيته بدأ يظهر في الأفلام الوثائقية، وفي برامج تعتمد على حوار يحضره جمهور معني بالقضية المطروحة. كانت "الغارديان" كشفت عن تلفيق وقائع فيلم وثائقي عرض اواخر العام 1996، يدور حول تهريب المخدرات من كولومبيا الى بريطانيا. من بين الوقائع مرافقة الشرطة في عملية القبض على احد المهربين. يظهر الفيلم انهيار الرجل، ثم يتسرب بكاء طفله من مكان ما "لا تأخذوا بابا". في المشهد التالي، تدخل الشرطة الى بيت الرجل وتفتشه تفتيشاً دقيقاً، ليتم بعدها العثور على كميات من الهيرويين تحت ارضية الحمام. بعد انفضاح الامر، اضطر احد مسؤولي المحطة للاعتذار من الرجل، على وعد بتقديم تعويض مالي عما لحقه من احراج وتضرر في السمعة. وتبين ان الشرطة قبضت عليه اساساً بسبب اخبارية وجود حشيشة في بيته - عثر عليها في علبة الكبريت - لكن المشاهد التالية زيفت وصورت في بيت آخر. ناهيك عن الفرق في العقوبة بين حيازة حشيشة، يجري الحديث الآن عن امكانية اجازتها، وبين تهريب هيرويين! الاغرب ان الفيلم حصل على سبع جوائز دولية منذ ذلك الحين، وجائزة اخرى محلية بدأ مانحوها استشاراتهم القانونية، لمعرفة مدى امكانية سحبها. فبركة الواقع، تحدث ايضاً في برامج حوارات الجمهور، وهي في غالبها تبث طوال الاسبوع. واذا استثنينا ايام العطل، فمن اين يمكن الحصول على ثلاثمئة فكرة جذابة سنوياً؟ بدءاً من موضوع "افضّل علاقة مع رجال متزوجين"، الى "زوجتي غانية وأنا فخور بها"! وهي جميعها موضوعات تزيف الواقع بتعميم وتضخيم مشاكل غير موجودة الا في حدود ضيقة، "لكنها مثيرة مثل النميمة". وكشفت صحيفة اخرى كيف يجري تلفيق الجمهور، اذ لوحظ ان بعض الاشخاص يتكرر ظهوره، وان شركات الانتاج تستعير جمهور البرامج الاخرى بالاتصال بهم شخصياً. يدخل الجمهور في اللعبة ويستطيبها في ظل اغراءات تبدأ بصرف اتعاب السفر، المبيت ليلة في الفندق، اضافة لصرف مبلغ مئتي جنيه مقابل الظهور في الحلقة. ثم يتحول واحدهم الى ممثل طوعي، يتلبس القضية المطروحة. ولا تزال فضيحة حدثت العام الماضي في الاذهان، عندما خصص برنامج كيلروي حلقة عن مغتصبي الاطفال. بين الحضور رجل اخفت الكاميرا وجهه، راح يتكلم مدعياً انه واحد من هؤلاء. وراح الجمهور يؤنبه ويحقره على افعاله، وهو يردد ان الامر اكبر من سيطرته، وانه لن يتوقف عن الفعل. هنا اتصل بالشرطة بعض المشاهدين، ممن كانوا يتابعون البرنامج مباشرة على الهواء، وشكوا بغضب من مجرم يتبجح بتهديد اطفالهم، والجميع يتفرج بسلبية. تحركت الشرطة وقبضت على الرجل في الاستوديو، ثم تبين انه لفق كل ما قال كي يظهر في البرنامج. لماذا التلاعب بالواقع واعادة صياغته لمصلحة منتج البرنامج؟ هل وصل جمهور التلفزيون الملول الى هذا الحد من التشبع بالواقع اليومي، فما عاد يرى فيه اي تشويق؟ يعتبر عاملون في هذا الجهاز الاعلامي، ان الافلام الوثائقية خرجت من نطاق الاخبار الى دائرة البرامج الترفيهية، لذا يجب ان تطبق عليها شروط هذه البرامج، بأن تتخلص من جديتها الشديدة. في الحقيقة، هم ادخلوها دائرة مسلسلات الپSoap Opera، وهي المسلسلات المليودرامية التي تبث منذ سنوات طويلة. ولضمان شد الجمهور الى هذه المسلسلات، فإن المشرفين عليها لا يكفون عن حقنها بالاثارة المستمرة، كالخيانات الزوجية والعلاقات الجنسية بين المحارم. هذا نموذج لمأزق جهاز اعلامي تطور منذ نشأته قبل خمسين سنة. منذ ذلك الحين، صار التنافس عالياً بين محطاته الكثيرة، على عدد ساعات البث ونوعية البرامج الجذابة. بعض المحطات العربية نبش الحل من الصندوق القديم: السحر وتحضير الارواح. وإذا كان مثالنا البريطاني الأول، يزيف الواقع بمستوى آخر من الواقع، فإن المثال العربي يطرح اشكالات تبعد المتفرج قدر الامكان عن الواقع وإشكالاته اليومية. * كاتبة سورية مقيمة في لندن.