في عددي 26/5 و9/6/1998، نشرت "الحياة" مقالين لادوارد سعيد، حملا عنواني: "تاريخ جديد ... أفكار قديمة"، و"الولاية الأخرى"، على التوالي. هنا دخل سعيد حقلاً جديداً، فاختلف أداؤه، وارتبك تحليله. تدور الفكرة الرئيسية لمقاليْ سعيد حول ان ثمة اكاديميين ديموقراطيين في اسرائيل، علينا الا نغفل ضرورة الاتصال بهم، واستثنائهم من المقاطعة، التي نفرضها على الاسرائيليين. ويحضرني في هذا الصدد كيف أن المتنفذين في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نجحوا في استصدار قرار من الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، آذار مارس 1977، يقضي بترتيب لقاء مع حزب "راكاح" اليساري في اسرائيل، ذي الاغلبية العربية، والبرنامج السياسي الراديكالي، يومها اعربت عن انزعاجي من هذا القرار - في مقال نشرته، في حينه - معتبراً "اتصالنا باليسار الاسرائيلي يبرر لليمين العربي تنظيم اتصال بنظيره الاسرائيلي". وليت الامر توقف عند هذا الحد، حين تقدم السادات بمبادرته، بعد زهاء ستة اشهر، فقط، ونفذها بعد شهرين آخرين على النحو المعروف. بل إن الامر كان مجرد خطوة محسوبة في مسلسل التنازلات، إذ سرعان ما ابدى المتنفذون تأففهم من الاتصال بالديموقراطيين الحقيقيين في اسرائيل، لأن هؤلاء - برأي المتنفذين - لا يملكون سلطة ما داخل اسرائيل واساساً، بسبب انتماء غالبيتهم الى العرب. وكانت محاولة من المتنفذين لتسويغ الاتصال باوري افنيري ويوسي بيليد، اللذين أكدا، لاحقاً، انهما قاما باتصالاتهما تلك بمنظمة التحرير بتنسيق كامل مع رئيس الحكومة الاسرائيلية. وبعد حين، ضاق متنفذ منظمة التحرير ذرعاً - حسب المخطط - بأفنيري وبيليد، بعد أن راوح الاخيران مكانهما، ردحاً من الزمن. هنا صدرت فتوى سياسية عن المتنفذين اياهم، تشير الى اكتشاف "صهيونية طيِّبة" الى جانب "الصيونية الخبيثة" ثم تطورت الفتوى الى حد المطالبة بضرورة ترتيب لقاءات مع قوى سياسية اسرائيلية، تحظى بحضور ملموس في الحياة السياسية الاسرائيلية، وبتأثير ملحوظ في صنع القرار السياسي في اسرائيل، حتى كان الاتصال بحكومة العمل، مطلع 1993، الذي تمخض عن "اتفاق اوسلو"، ولعل في هذا ما جعل القيادة المتنفذة تصور وصول نتانياهو الى سدة الحكم في اسرائيل، وكأنه ضربة سوء طالع، ليس إلا، لجهة أن ذلك اضاع كل الترتيبات "السلامية" التي دشنها اسحق رابين، وخلفه شمعون بيريز، ما اضطر الأخير الى افتتاح "مركز للسلام" قبل ان تجف يداه من دماء ضحاياه في قانا. من اتفق على تسميتهم بالمؤرخين الجدد في اسرائيل ظاهرة جديدة، لا تعكس الا ازمة ضمير اكاديميين، على ما اقترفه آباؤهم في حق شعب فلسطين. ما جعل اولئك المؤرخين يبحثون، حثيثاً، عن مخرج يفضي الى اراحة ضمائرهم، وتبرئة اشخاصهم من الاعمال البربرية التي اقترفها اسلافهم. الى ذلك فإن الاعترافات بالجرائم لا تعدو غسل تاريخ دولة، تريد أن تستثمر ما بين يديها، بعد ان تفلت به من رقابة الرأي العام العالمي. لو أن اقرار اولئك المؤرخين الجدد بإقتراف تلك الجرائم جدياً، لبادروا الى مغادرة اسرائيل، بمجرد اكتشافهم مدى فظاعة ما اقترفه آباؤهم في حق الشعب الفلسطيني، تماماً مثلما فعل رئيس الجامعة العبرية في القدس، خلال الاربعينيات، البروفيسور يهودا ماغنس، الذي ترأس حركة "إحيود" وتعني بالعبرية الاتحاد، وهي التي دعت الى اقامة دولة ديموقراطية في فلسطين، تقوم على اتحاد العرب واليهود. ما أن تم تأسيس اسرائيل، في 14/5/1948، حتى اقدم ماغنس على مغادرة فلسطين، من فوره، الى الولاياتالمتحدة الاميركية، ولم يشاركه هذا الموقف اسرائيلي آخر. هنا أكد هذا اليهودي الديموقراطي الحقيقي مدى صدقية دعواه. فضلاً عن كونه الاستثناء الذي أكد القاعدة الصهيونية العنيدة. أما المؤرخون الجدد في اسرائيل، فهم أبعد ما يكونون عن ماغنس، وديموقراطيته، وجسارته. انهم يدينون جيلاً اسرائيلياً ولّى ومضى، وحسب، بمنطق "ما فات مات". بل إن معظهم يرى في اغتصاب الصهيونية الارض الفلسطينية امرا ضروريا، على ما يذكر ادوارد سعيد نفسه. وعلى رغم أن اولئك المؤرخين يشجبون استخدام المذابح في طرد الشعب الفلسطيني من دياره، إلا أن غالبيتهم ترى في هذا الطرد امراً لا مفر منه. ثمة مبالغة في القول بأن "ميزة اعمال المؤرخين الاسرائيليين الجدد، هي أنها - على الأقل - دفع التناقض الصهيوني الى حدود لم تكن بادية لغالبية الاسرائيليين، وحتى للكثيرين من العرب"، على حد تعبير سعيد. لكننا، لو سلمنا، جدلاً، بهذا الاحتمال، عندها لا دور يمكن ان يسند الينا، نحن العرب، في هذا الصدد. بل ان اتصالنا باولئك المؤرخين سيعزز لدينا الوهم بإمكان انفجار اسرائيل من الداخل، فنستكين الى هذا الوهم، ونكف عن التحضير للمواجهة العسكرية، ومن جهة اخرى سيصم اتصالنا ذاك اولئك المؤرخين الجدد بتهمة العمالة للعرب، وسيتعامل معهم مستوطنو اسرائيل باعتبارهم الطابور الخامس، ما يفقدهم القدرة على التأثير في التناقضات الهامشية المشار اليها. ليس ما يمنعنا من أن نقول مع سعيد، بأن الأهمية الكبيرة، اليوم، للمؤرخين الاسرائيليين الجدد، هي انهم اكدوا ما قال به الفلسطينيون، دوما - المؤرخون منهم وغير المؤرخين - عما حصل لنا كشعب على ايدي اسرائيل. وهم قاموا بذلك، بالطبع، كاسرائيليين تكلموا باسم ضمير شعبهم ومجتعهم". ثمة طريقة واحدة لا تدعم دعاة السلام في اسرائيل فحسب - إن وجدوا - بل، ايضا، تسهم بقسط كبير في خلق دعاة سلام. انها الطريقة التي اجترحتها فيتنام، حين شددت كفاحها المسلح ضد القوات الاميركية هناك، ما ازعج الآباء والامهات الاميركيين على ابنائهم، الذين يموتون في ذلك البلد من دون مبرر. هنا فحسب استطاع الفيتناميون توظيف تناقضات المجتمع الاميركي، انها الطريقة نفسها التي تحاول بها المقاومة اللبنانية - اليوم، ان تثمر، وقد نجحت في هذا المضمار، الى حد بعيد. بعد المؤرخين الجدد - يستدير سعيد الى البيت الفلسطيني، الذي يحتاج، اشد الحاجة، الى نقد الذات، ومعها تصوراتنا الابوية، واساطيرنا، فضلا عن اعادة النظر من قبلنا كمثقفين ومؤرخين - في تاريخنا، وتاريخ قيادتنا، ومؤسساتنا، بعين انتقادية جديدة، للبحث في اسباب الفساد المتفشي، وغياب الديموقراطية. يبدو ان بُعد المسافة بين بلادنا وبين الولاياتالمتحدة الاميركية، جعل ادوارد سعيد لا يسمع بالكتابات الانتقادية في هذه المجالات، التي اخذت في الصدور، منذ عقود، لناجي علوش، ومنير شفيق، ورشاد ابو شاور، وصادق جلال العظم، واميل توما، وكامل خله، وباسم سرحان. ومن هنا فكتاب يزيد صايغ عن الكفاح المسلح الفلسطيني لم يكن اول هذه الكتابات الانتقادية، واغلب الظن هو انه لن يكون آخرها. ولعل ادوارد سعيد سمع برسام الكاريكاتور الفلسطيني ذائع الصيت، ناجي العلي، الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه الانتقادية، قبل احد عشر عاماً. والمساحة لا تتسع لعناوين الكتب، والدراسات والمقالات الانتقادية في المجالات المشار اليها. ومنذ "اتفاق اوسلو" انضم الى كوكبة الكتاب انيس صايغ، وبرهان الدجاني، واحمد صدقي الدجاني، وقبلهم عبدالستار قاسم، الذي تلقى عقابه على جسارته رصاصات في يديه وساقيه. نعود الى أعمال اولئك المؤرخين الاسرائيليين الجدد، ومطالبة سعيد بضرورة ترجمتها الى العربية، واعتقد بأن لا ضير من هذه الترجمة شرط عدم الانبهار بها، فنعمد الى المبالغة، أو نتجاهلها، فنهوّن من شأنها. اما دعوة ادوارد سعيد المثقفين العرب الى "الاتصال المباشر بهؤلاء المورخين، ودعوتهم الى النقاش في الجامعات، ومراكز الثقافة، والمنابر العامة في العالم العربي"، فاعتقد أنها نتيجة لا تتفق مع مقدمات مقاليه التي تسلم بأن النسبة الاكبر من اولئك المؤرخين لا تزال صهيونية، دما ولحما، وحتى لو لم يكن اولئك المؤرخون على درجة كبيرة من الصهيونية، فثمة شروط لا مفر منها في سبيل توظيف التناقضات في صفوف العدو: أولها ان نمتلك وزناً مؤثراً في ميران القوى بيننا وبين العدو، والإ فسنتأثر نحن، سلباً، من أي اتصال مع العدو. لجهة أن القوي مرشح للتأثير في الضعيف، وليس العكس. وحين تكون كفة العدو الراجحة في ميزان القوى، فحذار من ابداء أي ميل الى التسوية مع هذا العدو. واذا حدث أن تقدم من بين صفوفنا من ابدى هذا الميل، فإنه يقدم نفسه جسراً تمر من فوقه قوى الاعداء الى ارضنا. وثانيها ان تكون التناقضات في صفوف العدو رئيسية، جوهرية، وفي حميم الصراع العربي - الاسرائيلي. وان تكون محاولة توظيف تلك التناقضات في صفوف العدو، شكلاً مساعداً، لأشكال الكفاح الاساسية الاخرى، التي نخوضها، فعلاً. أما إذا كسرنا بنادقنا وعوَّلنا كثيراً على توظيف تلك التناقضات، فإن خط قضيتنا الوطنية سيحافظ على هبوطه المطرد، لحساب العدو. الى ذلك لا تخفى المضار التي تحيق بقضيتنا الوطنية، والتراجعات التي تأخذ بعنف حركتنا الوطنية، لو احللنا العدو في موقع الحليف، أو حتى في موقع من يجب تحييده. فمن البديهي ان البرنامج السياسي السليم، أحد أهم ركائر النصر، فيما التحديد الدقيق الصحيح لكل من اطراف معسكر الثورة والاعداء، احد بنود ذاك البرنامج. منذ زهاء عقدين، كان ادوارد سعيد ضمن عدد لا يتعدي اصابع اليد الواحدة، يلحون على المتنفذين في قيادة منظمة التحرير، كي يقيموا علاقة بالادارة الاميركية، غاضاً النظر عن طبيعة اولئك المتنفذين، بل اغلب الظن لم يكن يعرف شيئا عن هذه الطبيعة. فما ان لاحت لاولئك المتنفذين سانحة لاقامة صلة ما بالادارة الاميركية، حتى اندفعوا وبالغوا في تقديم التنازلات مقابل مجرد اقامة تلك العلاقة. ما ازعج البروفيسور الفلسطيني. ولو كنت مكانه لما نصحت اولئك المتنفذين بما نصحهم، لكنها المعرفة من بعد، التي تفترض حسن النية، فتقع ضحية التفكير الارادي، والأسوأ ان المصير نفسه يحيق بالقضية والشعب. * كاتب فلسطيني مقيم في مصر