للمرة الثانية خلال عشر سنين يطلب نواب عراقيون استجواب وزير، وهذه السابقة توحي بأن الحكم في بغداد يحاول تحسين صورته تمهيداً للانتقال الى ما يسميه مرحلة "المؤسسات الدستورية". لكن بتّ طلب الاستجواب هو ايضاً في يد رئيس الوزراء الرئيس صدام حسين. وتهمة وزير الصناعة والمعادن عدنان عبدالمجيد جاسم هي "العجز" عن معالجة مشكلة انقطاع الكهرباء عن منازل المدنيين في العراق الذين دفعوا ثمن ثماني سنوات من الحظر. الوزير قد يدفع منصبه ثمن التقصير، على رغم ان صدام يعلم ان قطع الغيار اللازمة لمولدات الكهرباء هي في يد لجنة العقوبات، وان المسألة ليست أزمة مولدات بل نكبة خطيئة. ولعل العراقيين يئسوا من "أوهام" طرح السؤال عمن يستجوب مَن في تهمة التسبّب في كارثة الحظر التي تلت خطيئة غزو الكويت… ومَن يستجوب مَن في مأساة إبقاء الحظر، وفي تحويل بلاد ما بين النهرين الى بلاد ما بين الخطّين - خطي العرض 36 و32 - وفي ابقاء النور بعيداً عن النفق. حتى الآن لا يزال الحكم في العراق يعتبر البلاد في حال حرب، وهو لذلك يؤجل الانتقال الى مرحلة "المؤسسات الدستورية"، بانتظار رفع الحظر. لكن العراقيين المتفائلين بإنهاء العقوبات قلة، لأن القرار الاخير في يد اميركا المتشبثة بالعصا، الا اذا رغبت في توجيه ضربة كبيرة لأسعار النفط من خلال إغراق الاسواق العالمية بنفط عراقي رخيص. وسواء تحقق هذا السيناريو برفع الحظر النفطي في تشرين الاول اكتوبر أو لم يتحقق، يدرك العراقيون ان سيف العقوبات لا تجدي معه محاولات الحكم تحسين صورته في الداخل، وان الأولوية تبقى لتعلّم دروس العزلة في مرحلة ما بعد غزو الكويت. فعزل وزير لن يطمئنهم الى مستقبلهم، كما لن تحلّ الدعوة الى تطبيع علاقات مجاني مشكلة انعدام ثقة العرب بالحكم العراقي الذي ما زال عاجزاً عن طمأنة جيرانه الى نيّاته، على رغم مرور سنوات على الحرب. وبغداد التي تكرر ان يدها ممدودة الى الاشقاء في الخليج والعالم العربي عموماً لفتح صفحة جديدة معهم، لم ترَ بعد ان الصفحة السوداء التي فرضت الحصار لا يمكن ان تطوى بسهولة بتجاوز البوابة الكويتية الى الحوار، وان طمأنة الكويت مفيدة لطمأنة واشنطن. والدليل على عدم تعلّم الدرس بشجاعة الأقوياء ان العراق الضعيف او بالأحرى الحكم في بغداد لا يدع فرصة تمرّ إلا ويكرر فيها انه لم يقبل بترسيم الحدود مع الكويت إلا مُكرهاً، اي لحاجة المهزوم الى "هدنة" ولو ادّعى الانتصار. بغداد ما زالت تحلم بحوار مع واشنطن، وتريد الحوار مع الاشقاء العرب، لكنها تتجاهل متطلباته التي تجعل طريقه أقصر، وكذلك الطريق الى كسر العرب الحظر… والى آخر النفق. ويعرف الحكم في العراق ما المطلوب لينفتح هذا الطريق: خطاب سياسي جديد يطوي مرحلة المكابرة والعناد واستبعاد الاعتراف بالخطيئة، ويقنع الجميع باقتناعه بأن ما رُسِمَ على الأرض بقرارت دولية ليس مجرد "هدنة"، وبأن هناك اكثر من وسيلة لاثبات حُسن النيّة. في هذه الحال فقط يصبح نيل شهادة "البراءة" من امتلاك أسلحة الدمار الشامل في المرتبة الثانية على لائحة جردة الحساب المفروضة لرفع الحظر.