أقدمت "دار الفنون" في عمان على جمع خبرات متعددة من غير بلد عربي في كتاب واحد: "أمة في المنفى"، منها محفورات التشكيلي الجزائري رشيد القريشي، وخطوط الخطاط العراقي حسن المسعودي، والتقديم النقدي للكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي، انطلاقاً من قصائد مختلفة للشاعر الفلسطيني محمود درويش. جهود متنوعة، خبرات متعددة، تحدوها خيالات مختلفة ومقاصد تعبيرية تتبادل الكلام والتصوير والتخطيط حول الشاغل الفلسطيني. وما يطرحه الخطيبي مثل سؤال أساسي في تقديم الكتاب: "كيف ننشىء أمة في المنفى على الصعيدين الشعري والفني؟"، يبدو شاغلاً لكل من بادر وأسهم في صناعة الكتاب التخيليية، على الأقل. إلا أنه سؤال، مثل أسئلة كبيرة عديدة، لا يتيح أكثر من الدوران عليه، والتحليق في فضائه، طالما أنه من الأسئلة التي لا تستقر علي حال، لا في صياغة السؤال نفسه، ولا قي صياغة الجواب، الفني والشعري، عليه خصوصاً. ذلك أنه سؤال يستثير الكتابة، بل مباشرة التأليف، مثله مثل القصائد التي تستثير الرغبة بالعمل الفني، قبل أن يحمل هذا السؤال أو يشترط إجابة بينة عنه، أو ممكنة في العمل الإبدابي عموماً. هذا يصح في ما باشر القريشي في فعله، في اختياره هذه القصيدة من شعر درويش لا غيرها، من دون أن يعني الانفعال بها أو التحاور معها، ومع خيالاتها، أن الفنان مقبل على "ترجمة" ما يقع فيها من صور ومعان. ذلك أن العلاقة بين منطلق العمل الفني قصائد درويش وحاصله محفورات القريشي هي أكثر من أن تختصرها علاقات تعيين أو ترجمة أو نقل من فضاء تعبيري الى آخر. ان اجتماع هذه الخبرات المتنوعة في عمل واحد يتيح إمكان قراءة مزدوجة: واحدة لكل خبرة وفق إسهامها المخصوص، وأخرى لمجموع الخبرات في اجتماعها حول معطى أول، هو قصائد محمود درويش. ذلك أن ما يقترحه القريشي، المسؤول الأول عن العمل، لا يعدو كونه حاصل علاقة تفاعلية مع القصائد، على أن علاقته بها لا تقوم على تتبعها الأمين كما في اقتباس روايات الى الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، بل على التعايش الخلاق والمولد، إذا جاز القول. وهذا ما يتضح في صورة جلية، إذا عرفنا أن القريشي لا يعمد الى تصوير تشبيهي في محفوراته، إلا في أحوال قليلة للغاية، بل الي تصوير ذي أساس كتابي تجريدي طبعاً. ومعه يصح السؤال، أو يفرض نفسه بالأحرى: كيف يمكن التعبير عن "أمة في المنفى"، بأدوات وصور لا تسمح بتمثيل الحالات والأوضاع والوجوه الإنسانية والطبيعية؟ "قدسية" الكتابة للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج الى قراءة العمل الفني في مفرداته وعلاقاته، والي الوقوف علي كيفيات الفنان في صوغ عالمه التصويري والتخييلي. وهو ما يبدو سهل التناول في محفورات القريشي 20 محفورة، إذ أنها تقوم وفق بناء من مكونين، لكل واحد منهما ما يؤسسه في كيفية تكاد أن تكون منسجمة ومتسقة، كما يقيم المكونان علاقات لافتة بينهما. أحد هذين المكونين يتقدم المحفورة بصرياً، إذ يمحو بحضوره ما يقع خلفه، ويتألف من علامة خطية مركبة، من دون أن تشير الي حرف بعينه، وفي أي لغة كانت. وهي علامة مخططة بأحجام كبيرة، تقترب في هيئتها البصرية من العلامات الخطية الصينية في نسقها العمودي. إلا أن بعض هذه العلامات الكبيرة يبدو مثل هيئة مجردة عن أوضاع إنسانية، كما نلقى ذلك في محفورة تشير الى هيئة انسانية خفيفة التقطيع والملامح، وفي أخرى تشير الى كفن الميت، وفي ثالثة الى شمس غاربة، وغير ذلك من الإحالات الخفيفة. وهو ما ننتبه اليه لو تتبعنا القريشي في حياته اليومية، بصحبة دفتر صغير لا يفارقه أبداً، هو وقلم أسود عريض: يخطط القريشي عليه انطلاقاً من مشاهد أو وضعيات تعرض له في وقائع أيامه ومشاهدها، فيستخلص شكلها المجرد، االتخطيطي، من دون "حشوها"، إذا القول، أي مادته التعيينية. هكذا يصبح المشهد أو الوضعية عبارة عن علامة، عن شكل مبسط، وهو في ذلك يقترب - مرة أخرى - من التجربة الصينية واليابانية في أبجديتهما، التي لا تعدو كونها صورة تمثيلية مبسطة ومصغرة عما هي عليه المواد التي يرمزون اليها. أما المكون الآخر فيتألف من أنساق كتابية عربية، من دون أن نتوصل الي قراءة أي سطر فيها. ننتبه وحسب الى بعض الحروف البينة، والى وجهة الكتابة بالعربية من اليمين الى الشمال: غابة لغوية عربية من دون أن نتبين شجرة واحدة، بل بعض أغصانها وحسب. وتتجه الأنساق الكتابية وجهات مختلفة في المحفورة الواحدة: قد تتخذ شكل السطر المستقيم أو المتعرج، أو شكلاً ملتوياً، أو حلزونياً وغيرها من الأشكال التي تتواجد أحياناً في المحفورة الواحدة. أشكال خطية منمنمة، مأخوذة من الخط المغربي، الشديد التعالق. إلا أن الأشكال تتخذ أو تنطلق في مجموعها البنائي من بنية تنظيمية معروفة، مثل بنية التعاويذ والرقى المعروفة في البلاد العربية، أو تشبه في بعضها هيئة الصك العثماني وغيرها. ولكن بقدر ما يبدو المكون الثاني، الكتابي العربي، ساكناً في هيئته العامة، فان المكون الأول، العلامة التخطيطية، يبدو شديد الحركية والمفاجأة. فهو يستقر على المحفورة، أو فيها، وفق حركة عنيفة، تشير اليها الخطوط التفصيلية غير المستقيمة، أو المحززة، أو التي تنتقل انتقالات مفاجئة، أو التي لا تحتفظ بكمية حبر واحدة ومتسقة، بل تتقطع وتخف، ما يشير الى ضربة الفنان العنيفة أحياناً، والى وانقطاعها أو تخففها من زخمها أحياناً أخرى. غير أن سكونية المكون الأول قابلة للجدل، ذلك أننا نعرف - وقد شاهدنا القريشي يعمل علي محفوراته - أن الفنان يقبل على تخطيط الأنساق الكتابية العربية في صورة تحمل الكثير من المفاجآت والانتقالات غير المتوقعة. كيف لا والقريشي يعمل على حفر حروفه هذه على صفحة التوتياء مباشرة التي يطبع منها محفورته لاحقاً، ما يعرِّض المحفورة، في موازينها كلها، الى مخاطر بينة منها عدم التوفق في العمل ورميه بالتالي، ما لم تسعفها قوة الفنان، وتعويله الحر والأمين في آن على تداعيات يده وفوضاه المنظمة ومخيلته المحسوبة ومهارته المجربة. ومعه نعود الى طرح السؤال من جديد: كيف للتشكيلي أن يرسم أمة في المنفى، وهو لا ينتهج سبيلاً تشبيهياً في تصويره؟ يمكننا القول إن القريشي سعى الى تمثيل هذه "الأمة"، في لغتها، في شكلها البصري، علي أنه مخزونها الحافظ لهويتها، ولاستمرارها في التاريخ. إلا أن هذا الترميز لا يغيب عن بالنا أنه كان بإمكان الفنان أن يحيل الى مخيلة صورية أكثر خصوصية من اللغة عموماً، والى رموز وإحالات أكثر تمثيلاً للحال الفلسطينية. ذلك أن عنوان الكتاب شديد التعيين، فيما يبدو الخفر الفني أكثر انفتاحاً وتلاعباً من العلاقة المحكمة المعينة في العنوان. الى هذا بدا لنا أن القريشي يقيم علاقة ذات مسافة مع النص الشعري، خيث يبدو مثل ذريعة للحفر الفني ليس إلا، طالما أننا نلقى "عدة" القريشي ذاتها البناء وفق المكونين المذكورين في هذه المحفورات كما في سابقاتها أيضاً، من دون تمايزات بينة