المسرح يبتعد عن الحدث والعبرة الى التجربة المعاشة والمتلقاة. لا أحد يستطيع التخلص من الحدث خصوصاً اذا كان من عمق تجربة الكاتب أو الممثلين. لكن الاتجاه الى مشاركة الجمهور لا يعني تقديم اعمال خارج نطاق الصيغة المتعارف عليها. هنا يلجأ المسرح الى الاخراج والتركيز على التقنية التي تنقل العمل الى الجمهور في صيغة اكثر حيوية وجاذبية تكون فاصلة في اعطاء مفهوم مختلف للمسرحية. هذا ملخص الحديث الذي دار بين الذين كانوا ينتظرون أمام المسرح للحصول على تذكرة دخول "عودة رجل الجليد" للكاتب يوجين أونيل. بعضهم انتظر أكثر من اربع ساعات، من السادسة صباحاً، وهو يعلم ان عدد البطاقات محدود لا يتجاوز أكثر من خمس عشرة مخصصة يومياً للذين فاتهم الحجز. هذا الانتظار في البرد والظلام لا الى العالم من خلال الكأس، وعندما تفرغ هذه تنتهي معها شجاعة يتلمسونها في ظلام الجمجمة، انه ظلام حالك جداً، ولذلك يتشبثون ببعضهم في مكان يشبه مقبرة، الى أن يأتي "ريكي" البائع الجوال الذي يحاول انقاذهم. الانقاذ يحتاج الى كلام، الى عملية بيع، الى دهاء، الى شعور بالتفوق، ثم الى ادعاء. وهكذا تصل بنا المسرحية الى تفسير بعض حياة هؤلاء. واذ يشتد النزاع على مصداقية احداث الماضي التي يروونها لبعضهم، يحضر "ريكي" ومعه الهدايا والعناق، فقد كان واحدا من المجموعة، قبل أن ينطلق وراء تحقيق الحلم. لقد توقف عن الشراب ايضا، وسلك العيش المستقيم. قبل ان نتأكد من مصداقية هذا الموقف وأنه ليس مجرد كلام بائع متجول، نمر بخصال قوم يكرهون الحركة والصدق مع النفس. فهذا "لاري"، يساري قديم ينتهي الى موقف السخرية من العالم حوله، "دون" شاب يرزح تحت شعور ذنب بخيانة ما، ارتكبها. امه القي افضل. ان هذه خارجة عن نطاق بائعي الحلم الأميركي، أو أي نوع من الاحلام في كل مكان. لكن المفاجأة غير المتوقعة تسرع بنا في اتجاه آخر، وكأننا نترك قطارالحدث، محلقين فوقه لمشاهدة ما ينتظر هذه المجموعة. مسرحيات الأحياء الأموات كثيراً ما تُصاب بالتشاؤم والافراط في ابداء النصائح ليحصل المتفرج على حلول جاهزة للمشاكل. غير أن مسرح يوجين أونيل يضع المتفرج او القارئ امام المشاركة في التجربة المعيشة للشخصيات عن طريق الحوار المتدفق واسلوب العرض. كتب يوجين أونيل المسرحية العام 1939 في فترة حرجة كان يعاني خلالها من المرض، ويعيش في فندق بعد الافتراق عن زوجته. وما زال الكثيرون يعتبرونها اقوى عمل في المسرح الحديث، اذ عبّر فيها عن تفهم عميق للطبيعة البشرية، وشيّد هيكلها في براعة ومنطق لدرجة ان النقد الموجه لطولها يبدو غير مفهوم. أونيل الكاتب المسرحي الاميركي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل، يرى في هذه المسرحية ان مشكلة الانسان الكبرى هي مواجهة حقيقته، والمشكلة انه لا يعرف كيف يواجهها. الانسان عنده مقدرة شديدة على خداع النفس، وعندما يقول الثوري السابق "لاري" انه قضى على الأحلام والأماني انما يتجه في سراب آخر يمكنه من الاستمرار. بالنسبة الى ابطال المسرحية، فإن التشبث بالأحلام افضل من احتقار النفس. انهم يرون ان الخلاص الذي يدعو إليه ريكي ليس سوى نوع من الموت البطيء، ولذلك يتفقون على انه مجنون. وما أن يترسخ هذا الشعور بينهم حتى تحضر الشرطة الى المقهى لإلقاء القبض علىه، فقد قتل زوجته لانه لم يعد يحتمل حبها له. عليها القبض لأنها تنتمي الى حركة حزبية ممنوعة بعد ان وُشِيَ بها الى السلطات. هناك جنرالان سابقان من انكلترا وجنوب افريقيا، يطاردهما عمل جبان من الماضي. "بات" و"جيني" يحلمان بالعودة الى وظيفتيهما بعد ان تسبب الشراب في فصلهما من العمل. يحاول ريكي ان يبيع الخلاص لهؤلاء بمنعهم من الاستمرار في الشراب. ثم يحثهم على أن يتركوا المقهى لتحقيق المشاريع والاحلام عوض الحديث عنها. لا أحد يشك في الطاقة والنية والافكار التي تدفعه لتحسين احوال اصدقائه القدامى. لكن هؤلاء يشكّون في حسن نيته. يمكن ان تبيع للناس حذاءً او تلفزيوناً، لكن لا يمكن بأي حال ان تبيعهم الخلاص المعلب او زيادة الايمان او حياة يعادل تجربة مشاهدة المسرحية: سبع عشرة ممثلا يملأون الخشبة مرة واحدة. الكثيرون نسوا معاناة الانتظار، واغلبهم استسلم للاقامة في منطقة الاستمالة الى ان يستيقظ الوعي، فقد تمر مقاطع من دون ان ينتبه إليها الانسان لأن التمثيل محتد ومؤثر ويسايره الوعي في لحظات كأنه الواقع وليس تقريبا له او استعارة منه. نحن هنا امام جهاز شامل للذكرى كأننا نعرف هؤلاء الاشخاص الذين يتحدثون عن تغيير حياتهم، عن الآمال، او ما يسميه الكاتب جعبة الأحلام. لا أحد يتوقع منهم ان يحققوها، لأنها مجال حديث تمضية الوقت، وابعاد ذكريات الماضي السيئة. من منا لم يمر في هذه التجربة. لكنها تظل شخصية، محلية، ما لم نر مثيلا لها هناك على الخشبة، او بيننا وبينها فضاء من النسيان. قد يظن الإنسان انه مشارك في حفلة التمني، فيختار شخصية للتعاطف وثانية للإسقاط. ثم هناك المشهد الأول: لا ستارة ولا حاجز. قبل أن تبدأ المسرحية نتعرف على شخصياتها، فهم يتراكمون على كراسي "حانة الأمل" ثملين ونائمين، والمتفرجون يتأملون المشهد وهم يتوجهون الى المقاعد. اشخاص المسرحية يعودون الى الحياة شيئاً فشيئاً، وهم يتناوبون على الحديث عما سيفعلونه في المستقبل، عن المغامرات والثراء، عن الحياة الجديدة التي يتوقعون انها "ستحدث لهم". انهم يقطعون مسافات طويلة. مرة ننجرف معهم، واخرى نظل في تأمل الاسباب التي دعت الى حالتهم. لكن طريقة تقديم المسرحية التي تستمر اربع ساعات ونصف الساعة لا تتركنا نغفل عما يجري ولو للحظات. لا صراعاً كثيراً بين "الابطال". انهم مشغولون بالاحباط. تستولي عليهم الأماني لتصحيح الهزيمة بالكلام. وما أكثر ما يملكون من الكلام. انهم يقضون معظم الوقت في مقهى الفندق الذي يسكنون فيه. بعضهم جاء الى المكان مؤقتاً فمكث فيه الحياة الطويلة. انهم يعيدون الحكايات نفسها يوماً بعد يوم. لا ادراك، لا تفسير، لا معاناة جديدة. ينظرون