هذا الكتاب* الذي وصفته دار اكسفورد للنشر بأنه "العمل الأهم في مجاله" انجاز ضخم بكل المقاييس. ففضلاً عن حجمه الكبير، ألف صفحة، فهو يتضمن تفاصيل دقيقة ومتابعات، وتحليلاً مبنياً على معلومات من الارشيفات الخاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأرشيف ياسر عرفات نفسه، ومقابلات مع اكثر من أربعمئة سياسي وعسكري فلسطيني، ومسح للأدبيات كافة في الموضوع الفلسطيني من الكتب والدراسات والاصدارات والبيانات والوثائق الحزبية الى المقالات الصحافية. وقد احتاج يزيد صايغ، مؤلف الكتاب ومحاضر العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج، احدى عشرة سنة لانجاز هذا العمل الذي سيحتل بلا شك موقعاً ريادياً في الادبيات التي تؤرخ لحركة النضال الفلسطيني. وعن اطروحة الكتاب، والافكار الأساسية الواردة فيه، بالاضافة الى تقويم حركة التأريخ الاكاديمي الفلسطيني والعربي حول الصراع مع اسرائيل، كان هذا الحوار المطوّل الذي اجراه خالد الحروب مع المؤلف: ماذا يريد يزيد صايغ ان يقول للقارئ، وما هو الجديد الذي يقدمه هذا المؤلف الضخم على صعيد التأريخ للنضال الفلسطيني المسلح؟ - ما أردت قوله هو ان المسار السياسي للشعب الفلسطيني في ما بعد النكبة في 1948 بما فيه بروز حركات سياسية منظمة مسلحة، وغير مسلحة، وانصهارها على مدى سنوات تحت مظلة واحدة هي منظمة التحرير الفلسطينية، لا يمكن فهمه الا اذا فهمنا الآلية المركزية التي نظمت هذا المسار وهي بناء المؤسسات السياسية التي لها صفة كيانية مرتبطة بصفات الدولة الوطنية. المجال الفكري والرمزي ولكن ألا يمكن ان يكون هذا هو الحال الطبيعية لجميع حركات التحرير الوطني، حيث انها تتأسس ابتداء لتحقيق هدف كبير، وهو التحرير وطرد الاستعمار، ثم يتنامى بالتوازي مع ذلك هدف الحرص على اكتساب الشرعية التمثيلية، ثم الدفاع عنها، ولاحقاً بلورتها على شكل مؤسسات قريبة من شكل الدولة. فكيف اذن تختلف صيرورة الكفاح الفلسطيني المسلح عن غيره من كفاحات التحرير في العالم الثالث مثلاً؟ - ابدأ بالشيء العام اولاً، فأقول ان قراءتي لتاريخ حركة التحرير الفلسطيني وصيرورتها تجعلني اعيد النظر في تاريخ تطور مسارات حركات تحرير اخرى في العالم الثالث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولو اعدنا دراسة اي من هذه الحركات بدقة اكثر فسوف يكون من المحتمل جداً ان نجد ان الحركات التي واجهت ظروفاً مشابهة للحالة الفلسطينية خاصة حركات التحرير الوطني، كانت تقوم وفي مراحل مبكرة من عمرها بأعمال وسياسات تكرّس شكلاً شبيهاً بشكل الدولة الحديثة المستعمرة التي تجابهها. ولكن ماذا نعني بحركة تحرر وطني؟ اننا نعني اولاً مجابهة القوة المستعمرة التي لها السلطة المطلقة في حسم الامور المحلية اليومية على صعيد معيشة السكان وظروف عملهم وظروف حياتهم الداخلية وما ينظمها من امور وترتيبات قانونية. وأي حركة تحرر وطني سواء كانت في فيتنام، ام الهند، ام الجزائر كانت تواجه تحدياً مباشراً موازياً للتحدي العسكري، الا وهو محاولة ايجاد مجال فكري رمزي وحياتي بالنسبة للسكان المحليين بديلاً عن المجال الاستعماري الذي له اشكاله ورموزه وأنماط علاقاته وثقافته والتي هي ثقافة سيطرة، كما يكون موازياً له. وقد يتجسد هذا المجال باستخدام اللغة المحلية او الثقافة او الأدب او الشعر او قد يكون عبر التمسك بالدين او بأشكال اجتماعية تقليدية وغير ذلك. وكان يتم التأكيد على هذه الامور: فكل جزء من حركات التحرر الوطني سواء كان من قبل المثقفين او من قبل الطبقات الفلاحية او مختلف الشرائح الاجتماعية، يسعى لخلق مجال وكينونة ورموز خاصة به. وقد تتوسع هذه العملية الى ممارسة امور سيادية. فمثلاً في تجربة الجزائر يمكن رصد نظام المحاكم، فهذه المحاكم اقيمت من قبل منظمات الثورة الجزائرية في قلب المدن وتحت الاحتلال الفرنسي وصار السكان يتوجهون الى هذه المحاكم بدل التوجه الى المحاكم الرسمية التي قد تكون عربية وجزائرية، لكنها تخدم من خلال منظومة الاحتلال الفوقية. وكلما تطورت الحركة الثورية في صراعها ضد خصمها وازدادت قوتها، وسعت مدى الممارسات السيادية وبناء السلطة الموازية في مجالات اخرى. اذا كان هذا التبلور لفكر وممارسة "بناء الدولة" قد نما وتطور في خلفية يتقاطع فيها الوعي باللاوعي الفلسطيني بهذا "البناء"، وفي ظل ممارسة واعية للكفاح المسلح لتحقيق هدف التحرير، فهل يمكننا رصد محطة او محطات انعطافية انتقل فيها ذلك الفكر وتلك الممارسة الى دائرة الوعي التام، خاصة في المراحل الأولى للكفاح المسلح، اذ لاحقاً ومنذ اواسط السبعينات يمكن رصد تلك المحطات بوضوح؟ - اعتقد ان الانتقال من اللاوعي الى الوعي الكامل ازاء هذا الموضوع، خاصة على صعيد الافراد والشرائح الفلسطينية، وتحول مسعاهم المركزي الى البحث عن دولة قطرية حتى لو كانت صغيرة او مسخاً كما كان يسميها البعض في جزء من أرض فلسطين، قد تبلور بشكل واضح في النصف الأول من السبعينات، وتشكلت مكونات هذا الوعي في اعقاب حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وما بعدها. لكن مع ذلك، اعتقد ان هناك سوابق هامة جداً وكانت واعية بفكرة الدولة وإن كانت اخذت اشكالاً اخرى، وأخص بالذكر هنا مسألتين تحديداً: الأولى هي تكون وعي واضح وصريح، وبغض النظر عن اعتباره غالباً ام ليس غالباً، تجاه تبني خيار البحث عن الدولة القطريةالفلسطينية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك بحسب دراسات رشيد الخالدي ومحمد مصلح، وإن كان كل منهما قد انطلق من منظور مختلف. وأعتقد ان محصلة الدراسات التي قام بها هؤلاء وبحوث اخرى تدل على ان فكرة البحث عن دولة وطنية فلسطينية قد وجدت فعلاً مع نهاية الامبراطورية العثمانية، وأصبحت هذه الفكرة ضمن التصور والخيارات الفلسطينية، وعلى الأقل عند البعض. وسبب ذلك هو التأثر بما تم انشاؤه اقليمياً من دول وطنية في لبنان وسورية وشرق الأردن والعراق بشكل خاص، اي ان كل قطر قد تشكل على نمط الدولة الوطنية القطرية، وبذا اصبح التفكير بهذا الموضوع جائزاً. ولا اقول هنا انه اصبح جائزاً بحيث صارت الناس ترحب به وتؤيده، اذ يمكن ان نعتبر هذا غير شرعي بالمعنى التاريخي، كما قد لا نعتبره كذلك. وأنا شخصياً ليس عندي كثير احلام وأوهام حول المنظور المحلي الضيق نوعاً ما لشرائح النخبة القديمة والزعامة السياسية المحلية في حينه. بل بالعكس تدل تجربتنا التاريخية في فترة حكومة فيصل في دمشق مثلاً على ان الوجهاء والاعيان والأشراف المحليين لم يكونوا معنيين بالقضايا التي تهم نظراءهم الفلسطينيين، فكانوا مهتمين جداً بقضايا تثبيت السلطة السياسية المحلية السورية. وبالطبع ربما لم يكونوا ضد ان تكون سورية كبيرة ولها جنوب وغرب متسع يضم الأردنوفلسطينولبنان، لكن اهتمامهم المركزي والمباشر كان محلياً. وبالتالي هذا الامر كان شائعاً اكثر مما يعترف به الخطاب القومي العربي اللاحق بعد 1945. ولهذا فإن فكرة الدولة الوطنية دخلت المنطقة وتم قبولها من قبل النخب المحلية ولو بنسب متفاوتة، وأصبح نموذجها ضمن الخيارات وضمن عالم الممكن. ورغم انها قد توصف بأنها دولة التجزئة وانها غير شرعية الا ان النخب المحلية آنذاك كانت تنظر اليها من منظور مختلف مرتبط بالاستقلال عن القوى الاجنبية. وبذلك فقد كان نموذج الدولة القطرية هو الاكثر شيوعاً عشية حرب فلسطين الأولى في 1948، وقد استمر منذ ذلك الحين وخلال العقود اللاحقة في تكريس نفسه كنموذج للتداول السياسي. ومن هنا اعتبر ان السعي الفلسطيني في البحث عن دولة قد ترافق مع تلك التغيرات والقبولات من قبل النخب في المنطقة. حتى عندما كان الفلسطينيون يتحدثون عن الحكومة العربية في فلسطين ويطالبون بحكومة عربية، كانوا يطالبون بحكومة محلية بالمعنى الوطني وليس عربية بالمعنى القومي الواسع. كأن وصف حكومة عربية آنذاك كان لتأكيد التباين مع الوضع الاستعماري الذي كان قائماً وممثلاً بحكومة انكليزية. فالوصف، كما افهم من حديثك، يقطع مع حالة الاستعمار وليس محملاً بالمعاني القومية والاندماجية التي قد يتضمنها الخطاب القومي العربي. - بالتأكيد وهذا ما كان. مع ذلك فإن ما أحب ان اوضحه هنا ان الأبعاد العربية والاسلامية الأوسع في هوية او شخصية الافراد والمجموعات في عرب فلسطين لم تكن غائبة، ولا انكر بالطبع وجود هذه الابعاد بالاضافة بالطبع الى الجانب الديني الآخر، مع تأكيدي على ان المسار الغالب لهذه الهوية هو النزوع نحو التأكيد على الدولة الوطنية. وكانت هذه الهوية تؤقلم وتكيف نفسها مع العناصر الاخرى المكونة لها، اذ وفّق الفلسطيني آنذاك بين عروبته وقطريته، بين اسلامه وقطريته، بين انتمائه المديني او الريفي الأضيق وبين قطريته. حديثك هذا يصف تطور الوعي في الفترة ما قبل حرب 1948، ولكن ماذا عن تطوره بعد تلك الحرب، وتحديداً في الفترة التي تلت النكبة وسبقت حرب 1967 باعتبارها المحطة الانعطافية التي كرّست الوعي القطري على اكثر من صعيد ولأكثر من سبب. تحدثت في الكتاب عن كيفية اشتغال الكفاح الفلسطيني المسلح في الواقع المعيشي الفلسطيني في مرحلة اللجوء وكيف نقل الفلسطينيون مما اسميته حالة الپPalestinianess الى حالة الپPalestinianism بما يحمله التعبير الاخير من مضامين سياسية لهوية في طور التبلور الكياني تتباين مع الحالة اللاسياسية التي تغلب على التعبير الأول، فما هي آليات ذلك الاشتغال وكيف تطورت؟ - هذا الانتقال هو أولاً من حالة العاطفة الفلسطينية الفطرية لمجموعات من الناس خاضت تجربة متشابهة او كانت في منطقة واحدة، الى النزوع الى هوية سياسية واعية للذات، يعني انا فلسطيني انا متميز عن الآخرين ومن هنا اهمية ايجاد مؤسسة لتحسين وتأمين هذا الانتقال، فإيجاد كيانية متميزة هو شرط للانتقال من الحالة العفوية العامة الى وعي سياسي خاص. وهل تعتبر هنا ان الكفاح المسلح هو الجسر الناقل التاريخي بين الحالتين والمساهم في بعث ما اطلقت عليه وصف "المجتمع الفلسطيني المتخيل"، تماثلاً مع تكون "المجموعات المتخيلة" كما وصفها بندكت اندرسون؟ - انا اعتبر ان الكفاح المسلح في السياق السياسي الفلسطيني الحديث قد ادى غرضين اساسيين: الأول أنجز باكراً وإن كان ظل عليه صراع في ما بعد ألا وهو اعادة الحياة الى الشخصية والهوية الوطنية الفلسطينية. بمعنى ان بدء العمل المسلح في اواسط الستينات وبروزه بشكل قوي بعد حرب 1967 ومعركة الكرامة خلق واقعاً سياسياً جديداً ساعد في طرح تصور جديد للفلسطيني، وهو ان الفلسطيني ليس هائماً على وجهه، بل هو ثائر مناضل مجاهد. وأصبح بالامكان استبدال صورة مخيمات اللاجئين بعد حرب 1948 بصورة معسكرات الفدائيين بعد حرب 1967، وصورة اللاجئ الضعيف بصورة الفدائي البطل الذي لا يخاف. وكتابة التاريخ هنا معنية بدراسة وتحليل عالم الرموز والصور في مثل هذه الحالات واكتشاف اي من تلك الصور كان الأكثر تأثيراً وتوجيهاً للجماعة البشرية، ولماذا تفوقت على غيرها من الصور. وأحب ان اوضح هنا ماذا اقصد عندما اقول ان الكفاح المسلح بعث الهوية الفلسطينية. فقد يعني هذا ان هناك هوية فلسطينية سابقة اصلاً ومتفقاً عليها وعلى تشخيصها، وانها ضربت مثلاً او ماتت مع الحرب، وكل ما كان مطلوباً هو اعادة بعثها. وأنا اختلف مع هذا التحليل اذ لم يكن هذا واقع الحال، بل اعتقد ان هناك عدة هويات كانت ممكنة آنذاك، مثلاً هوية عربية اسلامية وثانياً فلسطينية، او عربية ثم فلسطينية، او اسلامية ثم فلسطينية، او مسيحية ثم فلسطينية، او حيفاوية ثم فلسطينية، وكل هذه الاحتمالات كانت واردة في نظري. وحتى بعد 1948 صار الپPalestinianism هو النزوع الفلسطيني الارجح والاقوى نتيجة تجربة وواقع معاش مع الاستعمار البريطاني وتجربة مباشرة مع الصهيونية وتجربة مباشرة مع الاقتلاع ثم تجربة مباشرة مع البلدان العربية المستقبلة للاجئين في المحيط. حتى نعيد ربط هذا الكلام بما سبقه دعني اذكرك بأنك ذكرت ان الكفاح الفلسطيني المسلح قد ادى مهمتين تاريخيتين، وتحدثت عن مهمته في انشاء او بعث الهوية الوطنية، ماذا عن المهمة الثانية؟ - نعم، الجانب الآخر وربما الأهم تاريخياً بالنسبة لوظائف الكفاح المسلح هو الدور الحاسم والحيوي والمركزي الذي لعبه في عملية بناء الدولة الوطنية. اذا كانت هذه الدولة ليست فعلية أو واقعية، فقد وجد هناك بناء يومي مؤسساتي وكذلك علاقات اجتماعية وسياسية تجري وتسير عبرها بين الفلسطينيين المعنيين أو الناشطين كما تسير نفس العلاقات في الدولة القطرية الفعلية. وهذا يبرز من خلال الآتي: أولاً ممارسة الكفاح المسلح اضفت شرعية على من حمل البندقية، فأصبح على كل من يريد أن ينافس ويبرز في السياسة أو يتزعم بين الفلسطينيين ان يخوض العمل المسلح ضد اسرائيل ويثبت جدارته فيه. وأصبح هو المعيار وبدونه ليست لك شرعية. ومن هنا كان بامكان جيل الفدائيين أن يهمشوا الجيل المؤسس للمنظمة، جيل الشقيري ورفاقه، بل ايضاً كل تلك الشريحة الاجتماعية العريضة من بقايا نخبة فلسطين من بقايا العائلات المدينية التي لها مكانة علمية أو مادية في فلسطين. وهذه الازاحة مكّنت النخبة الجديدة من النشوء، وهي نخبة من أصول اجتماعية أقل تواضعاً. لكن ممارستها للعمل العسكري أضفت شرعية على ممارساتها السياسية اللاحقة بصفتها منظمات عسكرية مسلحة تقود صراعاً دموياً خطيراً ضد عدو شرس. ذكرت في الكتاب حول هذه النقطة ان الحراك القيادي كان راكداً، بمعنى عدم دخول عناصر جديدة الى الشريحة القيادية الفلسطينية التي صارت وكأنها حصر على اولئك الزعماء، وانها أخذت تتآكل بفعل الزمن والموت بينما لا يخترقها قادمون جدد يحلون محل المغادرين. - نعم، وهذا احد أدوار العمل المسلح أيضاً، وهو انه ساهم في خلق طبقة سياسية من الناس شكلوا مجتمعاً سياسياً، وصاروا أصحاب الكلمة في الموضوع السياسي الفلسطيني. فهم الزعماء في المجلس الوطني أو خارجه، وهم من يتشاور مع "الوجوه والشخصيات" وسوى ذلك من مصطلحات انتجتها هذه الطبقة وصرنا نعهدها رغم انها طبقة غير منتخبة. ولكن شرعية هؤلاء جاءت من الكفاح المسلح، وموقع الأفراد تحدد تبعاً لموقفهم وممارستهم وانخراطهم في العملية المركزية التي هي عملية الكفاح المسلح. وهذه الطبقة السياسية العريضة اهم ما فيها ما اسميه النخبة البيروقراطية، لأن الكفاح المسلح انتج الجيل الشاب الذي تطوع وفدى نفسه وبكل إيمان، ثم احتل مواقع عسكرية ومدنية وسياسية وغيرها. وكلما توسعت منظمة التحرير والمنظمات الفدائية واكتسبت وظائف جديدة كتأسيس المدارس ودور الأيتام والنظام الصحي وغير ذلك أصبحت هناك بنية تحتية بيروقراطية كبيرة. فهذه الوظائف أولاً تقوم بها الدولة عادة أو القوة السياسية التي تحب ان تحل محل الدولة. وهذا يعني اقامة دولة موازية، ولم يكن من العبث ان يطلق على المقاومة الفلسطينية اسم دولة داخل دولة في الأردن أو في لبنان، وبغض النظر هل أرادت ان تستولي على الحكم أم لا، لكنها في واقعها المؤسسي وفي علاقتها مع جمهورها وقاعدتها التنظيمية كانت علاقة دولة. هذا ايضاً ساعد على بروز شريحة كاملة معينة من الناس المفرغين والذين اصبحوا دائمين، وبالنتيجة أصبح من الصعب على اناس جدد أن يفرزوا من خلال العمل العسكري أو النضال أو أي شكل من الأشكال الانتقال ويصعدوا الى مراتب عليا بسبب تواجد نخبة ثابتة وواضحة. إذا جمعنا هذه الخصائص: مسألة الشرعية، مسألة العلاقات الداخلية السلطوية، مسألة بروز نخبة بيروقراطية، فاننا نرى ان هذه كلها من خصائص الدولة: خصوصاً الدولة القطرية كما في عالمنا العربي وعالمنا الثالث. لننتقل الى موضوعات اخرى ذات علاقة بشكل الكتاب، وآلية فعل الكتابة التاريخية كما مارستها. وأبدأ بالاشارة الى التفاصيل الكثيرة والدقيقة جداً في الكتاب. فهي رغم اهميتها تضعف التركيز على الاطروحة الأساسية، وتشتت القارئ، واحياناً تبهّت العلة بخط البحث ومساره العام. فما الغاية من ايراد هذه الكثافة من التفاصيل؟ - هذا الموضوع جزء منه سوء التدريب كباحث علمي، ولن أحاول هنا تفسيره بموضوع منهجي ضروري. فقد كان قصدي في البداية كتابة تاريخ عسكري بحت بتفاصيله الدقيقة والضرورية. ثم مع التعمق في المشروع، اكتشفت وجود العديد من القضايا الغريبة والتي كانت تحصل على الصعيد العسكري وليس لها مبرر أو تفسير مقنع في العلم العسكري، وكانت تتكرر ولا تجد من يصلحها. ولم يكن هذا في الانجاز العسكري فقط، بل شمل تقييمه ايضاً. من هنا اضطررت الى البحث عن الجواب لتلك المسائل في المجال السياسي. هذا يقودنا الى مسألة الحيادية والموضوعية، خاصة إزاء موضوع عاش معك طويلاً ليس فقط ككاتب متجرد، بل قبل ذلك كناشط منخرط... - في الواقع لقد رافق هذا الكتاب تطوري الفكري والمهني الى حد كبير، وهو حصاد ممارسة فعلية عشتها ومارستها في حياتي خلال السبعينات. ثم عدم الى نفس السيرة من منظور المؤرخ ومنها عدت الى الموضوع من خلال العمل المهني الآن. وبالتالي فإن كل تلك المراجعات جعلتني أقيس ممارسة أو إدارة القيادة الفلسطينية للمفاوضات وطريقة التهيئة لها وطريقة عملها السياسي الداخلي بموازاة عملها في الخارج. وهذه التجربة كان فيها من العيوب والشوائب والمرارة أمور لم تفاجئني كوني اعرف الكثير منها منذ زمن، ولكن توصلت الى قناعة نهائية بأنه ما عاد من الممكن تحمل أو العفو عن مجموعة الأفكار والممارسات وأساليب العمل بحجة المصلحة الوطنية. الشعار الوطني بات ذريعة لأتفه الممارسات البشعة وغير المقبولة اخلاقياً أو سياسياً. وقد خرجت من مشاركتي في المفاوضات بقناعة مطلقة بأن الرواية السياسية يجب أن تسجل تماماً كما هي حسب ما لدي من معلومات ومن دون أي تسطيح مطلقاً، ومن دون أي مجاملة. فمثلاً أنا أعدت صياغة أحداث 1976 مئة وثمانين درجة ليس لأبرر لأي طرف أو لابرئ أي طرف ولكن كي يتحمل كل طرف من موقعه وتبعاً لموقفه مسؤوليته الموضوعية من دون اطلاق أحكام. أنا في الماضي كنت اتجاهل مجموعة وقائع حصلت فعلياً ذلك أنه كان عندي رأي مسبق لتفسير أحداث 1976 مثلاً، ولم اعتقد انه من المهم أن أقوم ببحث دقيق وتفصيلي فيها. نقطة إعادة تفسير الأحداث هذه تقود الى السؤال حول إعادة تقييمك لبعض جوانب الكفاح المسلح واعتبارك لها ارهاباً، وهي الجوانب المتعلقة بالعمليات العسكرية في الداخل، في اسرائيل... الارهاب والمقاومة - وجهة نظري هي نفسها التي وضعتها في الكتاب، وهي ان الارهاب في نظري هو استخدام العنف بشكل متعمد أو بشكل عشوائي ضد المدنيين، بغض النظر عما إذا كان هؤلاء المدنيون معنيين بالصراع مثل المدنيين الاسرائيليين، أم كانوا اهدافاً مدنية اجنبية تماماً وخارج بؤرة الصراع مثل عمليات خطف الطائرات. فإذا أردنا ان نعرف الارهاب من منطلق تعريف سياسي معنوي أخلاقي قانوني أو تنموي فهو عمل عسكري مقصود منه بث الرعب لأنه يستهدف بشكل غير متوقع أو معهود المدنيين. من هنا يأتي الرعب وهنا يأتي تعريفه بالارهاب. وبالتالي انا مضطر ان أشخص أي عمل تنظيمي، ومنه وضع متفجرات في سوق في القدس أو في باص في تل أبيب أو غيره، بالارهاب، مثلما يمكن أن نشخص كميناً مسلحاً للفدائيين في جبل لدورية اسرائيلية في جنوبلبنان أو الضفة الغربية بأنه عمل فدائي أو عمل عصابي. طبيعة الهدف تضيف شيئاً هاماً، وانا هنا بالمقابل اختزل هذا الجانب من موضوع الارهاب الى مسألة فنية تكتيكية، أي انه نوعية الأسلوب ونوعية الهدف. هنا يجب أن أميز وأحدد ولا أعمم. فأنا لا أصف العمل العسكري الفلسطيني أو النضال الوطني الفلسطيني بالارهاب. والمهم هنا هل المنظمة التي تمارس عملاً عسكرياً، ومن ضمنه عمل عسكري يمكن وصفه بأسلوب الارهاب، هل هي في تركيبها التنظيمي مبنية تحديداً من اجل ممارسة الارهاب، اي الاساليب العسكرية المعروفة بالارهاب، ام انها مبنية تنظيمياً لممارسة مجموعة ادوار اخرى سياسية بالمقام الاول ثم اجتماعية وثقافية وغير ذلك. المنظمة التي لها قاعدة جماهيرية ولها ممارسة اجتماعية ولها نشاطات ثقافية او خيرية او كذا، ولها تمثيل علني وصريح، ولها برنامج سياسي تحاول اقناع الجمهور به، هناك جزء من عملها وممارستها يمثل العمل العسكري وجزء من هذا العمل العسكري كان ارهاباً بالتعريف، اي ضد المدنيين بشكل عشوائي او متعمد. هذه المنظمة ليست منظمة ارهابية حتى وان كان جزء من عملها ارهابياً. لكن اذا وجدت منظمة لا تخرج الى العلن، وليس لها جمهور ولا قاعدة مدنية منظمة، ولا اعضاء مدنيون منظمون ولا جناح طلابي او عمالي او فلاحي، ولا تقوم بأي نشاط اجتماعي او عمل ثقافي، وكل بنيتها تقوم على السرية وافرادها مدربون ومنظمون بطرق كلها تؤدي الى عمل ارهابي فهي عندئذ منظمة ارهابية. وبهذا التعريف هناك امثلة في اوروبا واميركا واليابان. اما عندنا وبصراحة فبماذا يمكنك ان تصف منظمة ابو نضال مثلاً؟ نبقى في موضوعة "الارهاب"، فبعض الآراء تقول بأنه لولا عمليات الداخل وما أثارته من حالة غير آمنة وغير جاذبة ليهود الخارج، فان عدد اليهود في فلسطين قد يكون ضعف ما هو عليه الآن. - هذه كلها مبررات، ففي النهاية كل ارهابي بل كل انسان يريد ان يضع قنبلة في وسط مدنيين سوف يلاقي عذراً. وأنا اعتبر ان الطرف الذي نفذ العملية اذا اعتبر نفسه متفوقاً اخلاقياً على الخصم او انه يمارس العمليات تلك بناءً على ذلك، فأنا ربما كنت لا اعتبر هذا منطقاً ضعيفاً بالمعنى المادي، لكني اعتبره منطق من هو ليس مستعداً لقياس الواقع السياسي والتاريخي بدقة كي يتحرك من خلاله. وهذا لا ينفي ابداً شجاعة الافراد الذين ضحوا بأنفسهم، ولكن يمكن ان تكون تضحيتهم تلك خاطئة اولاً وضارة بقضيتهم ثانياً. انتهيت الى خلاصة في نهاية الكتاب مفاجئة بعض الشيء. اذ رغم نقدك الجذري لاسلوب وادارة قيادة ياسر عرفات وتحميل تلك القيادة مسؤولية اخطاء تاريخية خلال مسيرة النضال الفلسطيني، الا انك قلت انه حتى لو كان الوضع الفلسطيني افضل بكثير مما كان عليه خلال السنوات الماضية لما استطعنا ان نحصل على افضل من الذي حصلنا عليه... - في الواقع هذا هو الجدل الذي يدور بين شخصين حول أية قضية سياسية وليس فقط داخل حركة وطنية، وهو جدل تحديد نقطة الممكن والمستحيل بين العوامل الموضوعية المحيطة وبين الجهد والارادة الذاتية. بالنسبة لي انا اعتبر ان العوامل الموضوعية البنيوية المحيطة، الدولية والاقليمية والمحلية، بما فيها التحولات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية التي اثرت على الفلسطينيين جماعة وافراداً لها تأثير كبير جداً. لكن هذا لا ينفي ابداً العامل الذاتي والارادي وإلا لما يكون هناك تاريخ. وهذا يعني وجود عامل ذاتي، ولكنه ايضاً غير مطلق القدرة. والارادة مهمة بالنسبة لأي مسعى سياسي في العالم لكن هذا لا يعني ان الارادة اذا كانت قوية وفولاذية ستكون كافية للانتصار، لأن كل البشر عندهم ارادة بنفس القوة الفولاذية. وعودة الى الحالة الفلسطينية، في سنوات 1977 - 1979 ورغم أي أسى يمكن ان اشعر به اليوم، فأنا مضطر ان اقول انه ما كان متاحاً للفلسطينيين ان يحققوا اكثر مما حصلوا عليه إما في اوسلو او ما كان يمكن ان يعرض في كمب ديفيد. وبنظري ان حسن الأداء من قبل القيادات في بناء المؤسسات اولاً وآخراً وايضاً في ادارة السياسة والعلم العسكري والديبلوماسية كان يمكن له ان يحسن الشروط بضع نقاط بالمئة وان يقلص الخسائر والتضحيات ربما بنقاط اكثر بالمئة مثل الصراع مع سورية وحرب المخيمات. ولكن تحسن هذه الشروط ما كان له ان يكون في الجوهر. والذي انتجته الحركة الوطنية الفلسطينية انها وضعت شعار دولة وطنية فلسطينيةقطرية على الاجندة السياسية الفلسطينية والعربية والدولية. اي انه لم يكن بامكانها في نظري ان تحصل على الدولة الفعلية خلال الحرب الباردة. ولكن كان بامكانها بسبب هذه النضالات ونجاحها في ارساء الهوية الوطنية الفلسطينية من الشخصية المؤسسية الفلسطينية عربياً ودولياً ان تضمن الى حد مهم ان الاسرة الدولية ستفهم الحكم الذاتي بالمرحلة الانتقالية كحالة وسيطة وصولاً الى قيام تلك الدولة. ومغزى كل ذلك انه حين نأتي الى قياس مدى النجاح او الفشل في الانجاز الفلسطيني عبر النصف قرن الاخير يجب ان يكون المقياس مؤاتياً. ربما كنا نقيس مدى الانجاز بالشعار الذي استحال تحقيقه في تلك المرحلة التاريخية اي تحرير كامل التراب واعتقد انه سيظل مستحيلاً، بينما الواقع هو ان الحركة الوطنية حققت الى حد كبير ما كان يمكن تحقيقه. ولعل في ذلك استنتاجاً لا يريد الكثيرون قبوله لأنه استنتاج مرير. على صعيد البحث الاكاديمي، وخلال اشتغالك المطول على التأريخ للنضال الفلسطيني، وابعاده العربية، ما هو تقييمك لمواطن قوة وضعف الادبيات العربية والفلسطينية المكتوبة في موضوعة الصراع مع اسرائيل؟ - هذا سؤال كبير فعلاً، ولكن سوف اختصر واحاول ان لا اظلم الكثيرين بهذا الاختصار. الجزء الكبير من الأدبيات الفلسطينية والعربية عن القضية، وهنا اقصد الاكاديمية، يتراوح ما بين الخطابية والدعائية والتكرار وعدم الدقة في السرد التاريخي. فكثيرون يعتقدون ان الرواية التي في ذهنهم دقيقة بتفاصيلها التاريخية، وانها ليست مجرد تخيل او تذكر او تصور بل هي وقائع. وبالتالي كثير من هؤلاء يذكرون احياناً اموراً وكأنها حصلت كوقائع وهي ليست سوى تذكرات في احسن الاحوال، ولا يكلفون انفسهم تعب البحث ودراسة هذه الامور والتفكير فيها والتأكد منها. اما ثانياً، فاني اعتبر لحد اليوم المجتمع الفلسطيني بنخبه ومثقفيه ومفكريه باحثين اكاديميين وسياسيين، لم يعِ حقيقة ما حدث في 1967 و1948 وما بينهما في هذه الفترة الهامة جداً. نحن نعرف بالطبع ان الطرف الآخر يعني عدونا غاشم ومغتصب وكل هذه الامور، ونعرف الاستعمار البريطاني والصهيوني وكل ما فعله، لكن لا يوجد لحد الآن استعداد حقيقي للقيام بدراسة نقدية، حتى وان كانت متعاطفة ولكن موضوعية وصريحة مع الذات، للواقع الفلسطيني في كل المستويات والصعد وللواقع الاجتماعي والسياسي على الاقل في حجم مساهمته في هذا الانيهار الشامل وفي بعض الاحيان: السريع، وفي بعض الاحيان: المبكر. فمثلاً هناك مناطق ومدن، كحيفا وطبريا مثلاً، اخليت من سكانها بسهولة فائقة نسبياً بالنسبة لحجم الصراع، وهناك شرائح الطبقة الوسطى الفلسطينية التي كانت اول ما اختفى عن الساحة، وعلينا ان لا نقيس حجم النكبة فقط بالفعل الصهيوني او الاسرائيلي او بالمخططات، يجب ايضاً ان نرى دورنا نحن دون ان يعني ذلك اننا نلغي حقوقاً تاريخية. هل نحن اذن بحاجة الى مؤرخين جدد، يرون ادوارنا او اخطاءنا المسكوت عنها؟ - طبعاً نحن بحاجة الى مؤرخين جدد على مستوى التاريخ العادي او التقليدي او الرسمي. وهناك كم كبير من الشغل التافه ليس فقط التاريخ السياسي بل ايضاً في قضايا اخرى. مثلاً ماذا حصل في الضفة الغربية وغزة ما بين 67 واليوم من تحولات اجتماعية اقتصادية، وماذا نتج عنها من تحولات سياسية. وهل القضية الوحيدة كانت مثلاً القضية الوطنية وهل الشيء الغالب الوحيد كان غلبة المنظمة. فنحن مثلاً لا ننظر الى مدى مساهمة الفلسطينيين في ربط انفسهم بعلاقة التبعية مع اسرائيل، وانها ليست رغبة ولا طوعاً ولكن ليس هناك اي واقع دون ان يكون نتيجة عدة عوامل رافدة له. اي ليس فقط الخصم هو من يفرض الواقع دائماً بل الضحية ايضاً تشارك في المحصلة. ودعني هنا اختم بأن اشير الى بعض الكتابات العربية خاصة الفلسطينية حول الموضوع. ومن بين القراءات المهمة للتاريخ السياسي الحديث كتابات فيصل حوراني عن جذور الرفض العربي مثلاً لاسرائيل. وهذه اعمال لها قيمة في نظري لأنها نقدية وتنطلق من النقد. هناك ايضاً شغل ماهر الشريف عن الحركة الوطنية الفلسطينية، وهناك الكتاب الحديث لمحمد جمال باروت عن حركة القوميين العرب، وفي الكثير من الكتب الاخرى لبعض الباحثين الشباب كسميح شبيب مثلاً وغيره. Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement, 1994-1993. الكفاح المسلح والبحث عن دولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993 . Oxford University Press and the Institute for Palestine Studies. 1997. 953 pages.