لا أريد أن اتحدث عن 5 حزيران يونيو 1967 حديث المؤرخ الذي يسرد الأحداث ولا حديث السياسي الذي يتناولها بالشرح والتحليل، وإنما مجرد انطباعات مباشرة لشخص عاصر تلك الأحداث وعاشها وربما تكون هذه الانطباعات مفيدة خصوصاً للأجيال الجديدة من القراء. كنت وقتها فتى في شرخ الشباب وكانت تملأ أسماعنا أبواق الدعاية عن أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط وصواريخ "القاهر" و"الظافر" التي يصل مداها الى قلب اسرائيل وتلك النغمة المفرطة في الثقة في أحاديث عبدالناصر والتي بلغت حد القمة، حين قال عن جونسون، الرئيس الاميركي وقتها، إنه يستطيع أن يشرب من البحر الأبيض فإن لم يعجبه فليشرب من البحر الأحمر. وطلب عبدالناصر من يو ثانت الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت أن يسحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ. ونشبت أزمة دولية كان سببها المباشر أن عبدالناصر أعلن اغلاق خليج العقبة في وجه السفن الاسرائيلية. ولم يكن الرأي العام المصري ولا العربي في ذلك الوقت، يعرف ان اسرائيل لها الحق في المرور من خليج العقبة وأن هذا كان أحد بنود الاتفاق غير المعلنة في أعقاب عدوان 1956 وانسحاب الجيش المصري الى غرب القناة، والذي اعتبره النظام المصري وقتها انتصاراً ساحقاً على قوى العدوان الثلاثي بريطانيا وفرنسا واسرائيل. وهذه كانت بداية الخطأ، فانسحاب القوات الأجنبية لم يكن نتيجة انتصار عسكري مصري وإنما نتيجة تدخل ايزنهاور الرئيس الاميركي وقتها من جهة والانذار السوفياتي من جهة أخرى، وكان لكل من الدولتين العظميين في ذلك الوقت تقديرها الخاص، فمن جهة الولاياتالمتحدة الاميركية كانت تريد أن تثبت وجودها كقوة عظمى وكانت مستاءة من إقدام بريطانيا وفرنسا واسرائيل على هذه الخطوة من دون مشورتها. وكانت بريطانيا وفرنسا خرجتا من الحرب الكبرى الثانية مضعضعتين وبرز عن تلك الحرب الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وكلاهما يطمع في وراثة الدور الذي كانت تلعبه الامبراطوريات الاستعمارية المنهارة. أما الاتحاد السوفياتي، فكانت تحركه أيضاً دوافع مماثلة وهو أنه يسعى الى اكتساب مناطق نفوذ في العالم تتلاءم مع الوضع الجديد، لا يريد أن تنفرد الولاياتالمتحدة بالسيطرة، فكان عدوان 1956 بمثابة إعلان رسمي بانتهاء عصر بريطانيا وفرنسا وبداية عصر أميركا وروسيا. ولكن الانسحاب لم يمض هكذا من دون مكاسب لاسرائيل فقد حصلت على حق المرور في خليج العقبة. نعود من هذا الاستطراد الى الخامس من حزيران يونيو 1967 والأيام القليلة التي سبقته وهذه الثقة الزائدة بالنفس من جانب القيادة المصرية وهذه التصرفات الاستعراضية، فقد حشدت الجيش المصري في سيناء وسط زفة إعلامية كبرى. وكان التلفزيون يظهر صور الجنود وهم في طريقهم الى الجبهة كما لو كانوا في الطريق الى عرض عسكري. ولا أدري هل كان عبدالناصر يقصد بذلك تخويف اسرائيل وأميركا فصعّد من التوتر لكي يساوم على إيقافه أو ما كان يسمى وقتها بسياسة حافة الهاوية؟ لكن، ماذا كان في جعبته فعلاً؟ أثبتت الأيام أنه لم يكن لديه ما يبرر هذه الثقة المفرطة. المهم أن هذا الجو النفسي انعكس علينا نحن الشباب وحين جاءت الهزيمة كان احساسنا بها مضاعفاً كمن هوى من ساحق، بل لم نكد نصدق. علمنا بها في اليوم نفسه من وكالات الأنباء الأجنبية، في حين كانت اذاعة "صوت العرب" من القاهرة لا تزال تبث بياناتها الحماسية وأرقامها الوهمية لعدد الطائرات الاسرائيلية التي سقطت في المعارك. لقد كان وقع الهزيمة علينا شديد المرارة حتى لكنت أشعر بأن ساقاي لا تقويان على حملي، وكنت وقتها في العشرينات موظفاً في إحدى الوزارات في القاهرة وكان مديري في ذلك الوقت في الخمسينات من عمره ضابطاً سابقاً في الجيش، بينما كنا جميعاً متفائلين قبيل الواقعة أو ان شئت الدقة كنا تحت تأثير مخدر الدعاية، لم يكن هو متفائلاً أبداً وقد ثبت أنه كان أدرى منا بحالتنا العسكرية. وبعد أن استوعبنا الصدمة قليلاً انتابنا هاجس شديد. كان الاسرائيليون على بُعد مئة كيلومتر من القاهرة، فماذا نفعل لو وجدنا أنفسنا ذات صباح أو مساء أمامهم وجهاً لوجه؟! لا بد أن نفعل شيئاً ولو للدفاع عن أنفسنا، ويبدو أن شبابا كثيرين انتابهم الشعور نفسه فالتحقنا بإحدى الساحات الشعبية في مدينة الجيزة، والتي تحولت الى مركز للتدريب العسكري وأساليب الحماية المدنية. كان من أطرف التعليقات العفوية على ما حدث والتي تلخص الحال التي كان عليها الوضع في مصر عندما أعلن في الاذاعات ان الجيش المصري انسحب من سيناء. قال والدي رحمه الله "لقد انسحبوا لكي يستعدوا للعرض العسكري في 23 تموز يوليو". وهذا التعليق، على بساطته، يعبر عن الادراك الشعبي العميق للواقع المر الذي عشناه. والآن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على هذه الهزيمة الساحقة الماحقة والتي لم تكن حرب الأيام الستة، كما قيل وقتها، بل هزيمة الساعات الست، فقد دمرت الطائرات المصرية في المطارات وأصدرت القيادة العسكرية أمرها بالانسحاب وانتهت الحرب قبل أن تبدأ، وكانت الخسائر في الانسحاب حيث تم اصطياد افراد الجيش المصري اصطياداً سواء بالطائرات جواً أو بالقوات براً، ومات في أيام معدودة أكثر من عشرين ألف شاب من دون مقابل ومن دون حرب ومن دون معركة. ماذا نقول الآن بعد مضي هذه السنوات؟ انقول إن القيادة العسكرية المصرية وقتها لم تكن تعرف شيئاً غير الانسحاب؟ وأنها صدقت نفسها حين اعتبرت الانسحاب في العام 1956 نصراً؟ أم نقول إن ما حدث في الخامس من حزيران يونيو 1967 كان مصادفة؟ لا نستطيع ذلك فلم تكن نكبة حزيران يونيو مصادفة، بل كانت نتيجة لازمة لما سبقها، وهنا بعض من هذه الأسباب: أولاً: كان على رأس الجيش المصري المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في سنة 1952 ضابطاً صغيراً برتبة رائد ثم ترقى في بضع سنين من رائد إلى مشير، واستتبع ذلك إحالة الضباط الأقدم منه الى أعمال مدنية أو الى التقاعد ما يعني فراغاً كبيراً في الخبرة العسكرية. فهل يمكن ان تتوفر لمثل هذا الشخص من الخبرة ما يؤهله لقيادة الجيش؟ خصوصاً أنه ترك الخدمة العسكرية الفعلية عند رتبة رائد وانصرف الى الوظائف القيادية والادارية؟ وقس على ذلك باقي القيادات، إذ كان المعيار للصلاحية في مناصب القيادة هو الثقة وليس الخبرة. وفضلاً عن ذلك كنا نسمع في ذلك الوقت عن غراميات المشير التي فاقت غراميات كلينتون، كنا نسمع عن علاقته بالممثلة الفلانية أو الراقصة العلانية، وكان بعض هذه العلاقات مشروعاً وأكثرها غير مشروع. فهل كان مثل هذا الشخص بقادر على تحمل مسؤولية الحرب؟ ثانياً: في العام 1965 تحدث الرئيس جمال عبدالناصر من موسكو وافتخر بأجهزته الأمنية التي استطاعت اعتقال 40 ألف مواطن مصري في ليلة واحدة. وهكذا كان النظام في حرب مع الشعب تجسساً وترصداً واعتقالاً وتعذيباً، فهل يستطيع نظام يحارب شعبه أن يواجه حرباً خارجية؟ ثالثاً: كانت الأنظمة العربية مشتبكة مع بعضها البعض في حرب كلامية أو فعلية، وكانت اليمن ميداناً تتصارع فيه تلك الانظمة في حرب فعلية حشدت لها أفضل الفرق في الجيش المصري بينما حشد الاحتياطي في جبهة سيناء، وأصبحت الدول العربية رهينة الاستقطاب الدولي ما بين مرتبط بالغرب وما بين مرتبط بالسوفيات. وكان الإعلام المصري يقسم العالم العربي الى دول رجعية ودول تقدمية، الأولى هي المرتبطة بالولاياتالمتحدة، والثانية هي المرتبطة بالاتحاد السوفياتي، أو الأولى هي النظم الملكية، والثانية هي النظم الجمهورية، وفي إطار هذه الدول التقدمية كان يوجد وقتها أربعة عشر حزباً في العالم العربي ترفع شعار الاشتراكية من دون أن يتفق اثنان منها على معنى واحد للاشتراكية. رابعاً: تحول الكتاب من حملة أقلام إلى حملة مباخر مهمتهم التسبيح بحمد البطل الزعيم وتبرير تصرفاته وأصبح النظام هو المتحكم في أرزاقهم ما دام يمسك بيده مقاليد النشر والاعلام ومقاليد الوظيفة التي يلهي بعظمها من يريد منهم والذي يشذ، ففي المعتقلات متسع للجميع. منذ أيام قليلة كنت أراجع كتاباً في "علم المنطق" مطبوعاً في القاهرة العام 1966. ورغم أن موضوع الكتاب لا صلة له بالسياسة ولا بالاقتصاد، من قريب أو من بعيد، وجدت المؤلف الفاضل يسارع في تقريظ التطبيق الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة كان هذا هو اسم مصر حتى بعد انفصال سورية وقبيل الخامس من حزيران يونيو 1967 خرجت علينا الاذاعة المصرية بأغنية من تأليف شاعر نسيت اسمه الآن، يقول فيها: "من المحيط الهادر الى الخليج الثائر لبيك عبدالناصر"، وهذا الشاعر نفسه ما لبث أن هجا عبدالناصر هجاء مقذعاً في أشعار أخرى. وهكذا كما يقول نزار قباني في هوامشه على دفتر النكسة: "كُتابنا ما عاد لدينا كُتاب من مطبخ السلطان يأكلون وبسيفه الطويل يُضربون" فقدت الثقافة معناها لأن المثقف هو طليعة قومه يرشدهم وينصح لهم سواء أكانوا حكاماً أو محكومين لكنه كان قد تحول الى مهرج أو بهلوان في سوق الدعاية. خامساً: كان الأسلوب الاستبدادي هو أسلوب عبدالناصر المفضل، ولم يكن يخفي اعجابه بديكتاتور البرتغال سالازار. وأعلن ذات مرة أنه يحلم بدولة تسير بالأزرار، فيكبس زراً بدلاً من أن يصدر أمراً. وكذلك كانت الاشتراكية هي النظام الأثير لديه لأنها تحول الناس الى موظفين مكممي الأفواه يعملون لدى حاكم فظ لقاء أجر بخس يدفعه لهم كارهاً ويقفون في الصفوف في انتظار المقررات التموينية، فلا وقت لديهم للتفكير إلا في كيفية الحصول على القوت ولا قوت إلا بالبطاقة. وزيادة في الاحتياط فكل الناس أعضاء في الاتحاد الاشتراكي والرئيس هو أيضاً رئيس الاتحاد الاشتراكي، لذلك حين استقال احمد سعيد مدير اذاعة "صوت العرب" وقتها من منصبه مقهوراً بعد أن بح صوته بالبيانات الكاذبة دخل مجلس الشعب البرلمان وتحول الى المعارضة وبدأ يرفع عقيرته التي كانت أفضل ما يملك من مواهب. وهنا فصله عبدالناصر ومجموعة من رفاقه من الاتحاد الاشتراكي فسقطت عنهم بالتالي عضوية مجلس الشعب حتى يكونوا عبرة لغيرهم. وأحمد سعيد لم يجد بُداً بعد ذلك من الاشتغال بالمحاماة لأن المسؤولين لم يكونوا قد فطنوا بعد الى الربط بين عضوية نقابة المحامين وعضوية الاتحاد الاشتراكي. سادساً: وكما انهارت الثقافة انهارت العدالة: انهارت العدالة كسلوك فردي. ولم لا؟ فالناس على دين ملوكهم. وانهارت العدالة كمؤسسة أو كوظيفة عامة وكسلوك فردي لم يعد أحد يتحرج في أن يأخذ ما ليس من حقه ظلماً أو زوراً، ولم يعد أحد يعبأ بتكافؤ الفرص أو الأمانة أو النزاهة ولم يعد أحد يسعى الى غير التملق وسيلة للعيش. وبعد... فإن للنصر أسباباً وللهزيمة أسباباً، ولأننا لا زلنا نعيش في آثار الخامس من حزيران فإننا نتساءل في المناسبة: أين نحن مما كنا؟ لقد هُزمنا لا لقوة عدونا وإنما لضعفنا نحن، فهل تغلبنا على أسباب ضعفنا؟ أو هل بدأنا في معالجتها على الأقل؟ إن الأمم الحية هي التي تستفيد من تجاربها وأن الهزيمة قد تكون مقدمة للانتصار عند أمة وقد تكون مجلبة لهزائم أخرى عند أمم أخرى.