ينطوي قسم كبير من الكتابات العربية على تصورات مرحلة ما بعد توقيع اتفاقات سلام بين اسرائيل والعرب على الخوف من تفوق اقتصادي اسرائيلي يشبه تفوقها العسكري الحالي في المنطقة العربية. تُرى الى أي حد يمكن الموافقة على مثل هذا التخوف؟ هل يمكن فعلياً لاسرائيل أن تشكل اخطبوطاً اقتصادياً على غرار اخطبوطها العسكري ضد العرب ومصالحهم؟ هذا ما سنحاول الاجابة عليه على الرغم من تضاؤل حظوظ السلام هذه الأيام الى أدنى المستويات التي عرفتها منذ مؤتمر مدريد. وسوف يتم الاعتماد في ذلك على اجراء بعض المقارنات بين اسرائيل وجيرانها العرب المحيطين بها، أي مصر، وسورية، ولبنان، والأردن ومنطقتي الضفة الغربية وقطاع غزة. يزيد عدد سكان الدول الأربع المذكورة بالاضافة الى منطقتي الضفة والقطاع واسرائيل على 87 مليون نسمة. ويعيش ثلثا هؤلاء في مصر وأكثر من 16 في المئة منهم في سورية. وعلى عكس التوزيع السكاني فإن اسرائيل التي لا يعيش فيها سوى 6.3 في المئة منهم تساهم بأكثر من نصف اجمالي الناتج المحلي لهذه البلدان وهاتين المنطقتين، أي نحو 92 من نحو 176 بليون دولار أميركي. ويبلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الدخل القومي ما يعادل نصيب أكثر من 20 فرداً في مصر وأكثر من 14 فرداً في سورية. وبالنسبة الى المساحة فإن الأراضي التي أقيمت عليها اسرائيل تبلغ 21946 كيلومتراً مربعاً أو ما يعادل 1.66 في المئة من المساحة المأخوذة بعين الاعتبار انظر الجدول 1. ومما تنطوي عليه هذه المقارنات أن السوق الاسرائيلية بغض النظر عن القدرة الشرائية العالية لمستوطنيها محدودة لجهتي عدد المستهلكين والرقعة الجغرافية. وبغض النظر عن خصوبة هذه الرقعة فانها لا تحتوي في باطنها على خامات طبيعية مهمة مثل النفط والغاز... الخ. وقد دفع هذا الوضع اسرائيل الى تركيز جهودها الانمائية على الاستثمار في الثروة البشرية واستقطاب الكثير من خبراتها من الخارج. وتمكنت بفضل ذلك من امتلاك فئة عريضة ومتنوعة من العلماء والخبراء والمتخصصين. وتم تجنيد هؤلاء في البحث وتطوير التكنولوجيا الصناعية والزراعية وغيرها. وتمكنت بفضل ذلك من تطوير صناعة دقيقة تعتمد على العلم والمعرفة أكثر من اعتمادها على المواد الخام. وبالنسبة الى الجانب العربي تم تركيز جهود التنمية على تطوير قطاعي استخراج الثروات الطبيعية والزراعة التقليدية. ومما يعكس ذلك سيطرة هذين القطاعين على البنى الاقتصادية لهذه الدول. أما في اسرائيل فيطغى الطابع الصناعي والخدماتي على اقتصادها. وفي الوقت الذي تزيد فيه مساهمة الصناعات التحويلية على نسبة 20 في المئة من اجمالي ناتجها المحلي فإن هذه النسبة لا تزيد في أحسن الأحوال على 10 إلى 12 في المئة في البلدان العربية المذكورة. وتعتبر الصناعات الالكترونية وصناعة الأجهزة الدقيقة والصناعات الكيماوية والتكنولوجيا الحيوية من أهم الصناعات الاسرائيلية. وتم تطوير هذه الصناعات على أساس ربطها بأسواق منطقتي شمال أميركا وأسواق أوروبا الغربية في شكل أساسي. ومن الأرجح أن السبب الأساسي لذلك يكمن في عدم وجود علاقات اقتصادية بين اسرائيل وجيرانها العرب باستثناء علاقات محدودة مع مصر والأردن. فالمعطيات الاحصائية لعام 1994 تشير الى أن نحو 60 في المئة من الصادرات الاسرائيلية تذهب الى المنطقتين المذكورتين نحو 32 في المئة الى الأولى و28 في المئة الى الثانية. ويلاحظ خلال السنوات القليلة الماضية زيادتها باتجاه الهند وبلدان شرق ووسط آسيا، إذ ارتفع نصيبها هناك من نحو 15 إلى 19 في المئة من مجمل الصادرات المذكورة بين عامي 1991 و1994. وتمكنت اسرائيل من ذلك بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام. ويشكل الماس المصنع والتجهيزات العلمية المختلفة مخابر، كومبيوتر... الخ والمنتجات الكيماوية والآلات والأنسجة والملابس والأغذية أهم هذه الصادرات. وعلى صعيد الواردات فإن أكثر من نصفها يأتي من أوروبا الغربية ونحو خمسها من أميركا الشمالية. ويتصدرها الماس الخام والآلات ومختلف السلع الوسيطة والنفط ومصادر الطاقة الأخرى. وعلى صعيد الدول العربية الوارد ذكرها ومنطقتي الضفة والقطاع فإن منتجات الصناعات الاستخراجية عدا لبنان والمنطقتين المذكورتين والمنتجات الزراعية والنسيجية تعتبر الأهم. وتعتبر أوروبا الغربية الشريك الاقتصادي الأول لهذه الدول حيث يفوق تبادلها التجاري الخارجي معها ثلث مجمل هذا التبادل. وتأتي بلدان جنوب وجنوب شرق آسيا في المرتبة الثانية على صعيد العلاقات المذكورة. أما علاقات هذه الدول بعضها ببعض فهي ضعيفة حيث لا تتجاوز نسبة التبادل التجاري بينها 8 في المئة من مجمل هذا التبادل. وبالاضافة الى النفط في حال سورية ومصر والبوتاس في حال الأردن فإن المنتجات الزراعية ولا سيما القطن ومنتجات الصناعة التحويلية الخفيفة من مواد غذائية وأنسجة وألبسة تشكل العمود الفقري للصادرات. وتشكل السلع الوسيطة والأغذية والآلات والتجهيزات الرأسمالية غير الدقيقة ووسائط النقل والاتصال القسم الأكبر من الواردات. محدودية التبادل التجاري من خلال ما تقدم يتبين أن كلاً من اقتصادات الدول العربية المذكورة واسرائيل مرتبطة بأسواق تقع خارج المنطقة العربية. كما أن حاجة هذه الاقتصادات الى منتجات بعضها بعضاً محدودة حالياً. فالدول العربية تنتج سلعاً مشابهة لبعضها نفط وبوتاس ومنتجات زراعية ونسيجية... الخ. ويتم تصديرها الى أوروبا الغربية بالدرجة الأولى. وحتى لو تم فتح السوق الاسرائيلية أمامها فإن هذه السوق لن تستطيع استيعاب قسم كبير منها بسبب ضيقها. كما أن اسرائيل تصدر منتجات زراعية وأنسجة شبيهة بتلك التي يصدرها جيرانها العرب. وعلى صعيد الواردات فإن حاجة أسواق هؤلاء الجيران الى منتجات الصناعة الاسرائيلية الدقيقة محدودة قياساً لحاجتها الى السلع الوسيطة والآلات والتجهيزات الكلاسيكية. كما ان اسرائيل ولأسباب أمنية لن تكون مستعدة لتصدير منتجات ذات أهمية استراتيجية الى هذه الأسواق. وبالاضافة لذلك فانها، أي هذه المنتجات، لن تستطيع على الأرجح منافسة مثيلاتها من أوروبا واليابان وشرق آسيا في شكل كبير. ويذكر أن هذه الأخيرة قامت بتثبيت أقدامها في الأسواق المذكورة. كما انها لن تتخلى عن مواقعها هناك بسهولة. ويقدر معهد البحوث الاقتصادية في ميونيخ في المانيا انه حتى في حال فتح أسواق الدول العربية المجاورة وأسواق دول مجلس التعاون الخليجي أمام البضائع الاسرائيلية وبالعكس فإن امكانات التبادل التجاري لن تكون ذات أهمية كبيرة حاسمة على المدى القريب. فصادرات اسرائيل الى هذه الدول لن يزيد في المستقبل المنظور على نحو 1.5 بليون دولار. وتعادل هذه القيمة نحو 9 في المئة من مجمل صادرات اسرائيل و6 في المئة من مجمل واردات جيرانها العرب المباشرين مصر، سورية، الأردن، لبنان والضفة والقطاع في عام 1994. وإذا أخذنا واردات دول مجلس التعاون الخليجي بعين الاعتبار فإن هذه النسبة ستنخفض الى أكثر من النصف. وسيكون النصيب الأكبر من هذه الصادرات للأجهزة والمعدات والسلع الغذائية وغيرها من السلع ذات القيمة المضافة العالية. ومقابل ذلك فإن حجم واردات اسرائيل من جيرانها المباشرين ومن دول مجلس التعاون الخليجي قد يصل الى 1.3 بليون دولار. ويعادل ذلك ما يزيد بقليل على 5.5 في المئة من حجم واردات اسرائيل وعلى نحو 14.4 في المئة من حجم صادرات جيرانها العرب المباشرين خلال العام المذكور. وسيطغى النفط والغاز والمواد الأولية والسلع الوسيطة وغيرهما من السلع ذات القيمة المضافة المنخفضة على هذه الواردات. وعلى المدى المنظور فإن الفائض التجاري لاسرائيل مع هذه البلدان سيتحول الى عجز معها في حال نجاح الأخيرة في تنفيذ المشاريع التنموية التي تخطط لها حالياً. اسرائيل ستستفيد أكثر في المدى المنظور إن محدودية العلاقات التجارية التي يمكن أن تقوم بين العرب واسرائيل لا تغلق الباب على الامكانات المتوافرة لاقامة تعاون اقتصادي بينهم وبينها يتم من خلاله تقوية هذه العلاقات. وتبدو اسرائيل أكثر اندفاعاً باتجاه تعاون كهذا كونها تنتظر منافع كبيرة من وراء ذلك. وهذا ما يفسر جهودها الحثيثة لاقامة مؤتمرات بهذا الخصوص وعلى رأسها مؤتمر الشرق الأوسط وشمال افريقيا الذي عقد دورته الأخيرة في قطر. وما تسعى إليه بهذا الخصوص ايجاد مصادر تمويل للمشاريع التي ستربطها بدول المنطقة. ويأتي على رأسها مشاريع البنية التحتية واستغلال المياه والنفط واستثمار البحر الميت والتنمية الزراعية والصناعات الكيماوية. ومن جملة ما تعد نفسها به بواسطة هذه المشاريع اعطاء دفعة قوية لصناعتها وتكريس تفوقها التكنولوجي والعلمي في منطقة الشرق الأوسط. وسوف يتجسد ذلك في تخصصها بلوازم الصناعات الكيماوية ومشاريع البنية التحتية وتقنيات الري والاتصالات والطب وغيرها. وانطلاقاً من تمتعها بأحدث بنية تحتية في المنطقة فإن آمالها معقودة على جعل تل أبيب مركزاً للخدمات المالية والتكنولوجية والعلمية في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تتطلع فيه الى تصدير منتجاتها وخدماتها المختلفة الى الأسواق العربية الواسعة فانها لن تحتاج من هذه الأسواق على المدى المنظور الى أكثر من المواد الأولية والسلع الوسيطة اللازمة لتوسيع طاقاتها الانتاجية. ولكن توسيع هذه الطاقات لا يعني القدرة على اغراق الأسواق المذكورة بالبضائع الاسرائيلية بسبب ضخامتها أكثر من ربع مليون مستهلك قياساً الى محدودية هذه الطاقات من حيث الكم والنوع. ومن ناحية أخرى فإن بلدان الاتحاد الأوروبي والبلدان الصناعية الأخرى لن تبقى في موقع المتفرج تجاه محاولات اسرائيل لاحتلال مواقع منتجات هذه البلدان في المنطقة العربية. أما حظوظ اسرائيل على صعيد احتلال موقع في سوق الخدمات العربية فهي أكبر بكثير من حظوظها على صعيد السوق السلعية. وما سيمكنها من ذلك البنية التحتية الأكثر تطوراً والأيدي العاملة الأكثر تأهيلاً في منطقة الشرق الأوسط. كما أن تشابه نموذج الحياة في تل أبيب مع مثيله في المدن الأوروبية والأميركية سيكون عامل جذب للشركات ولرجال الأعمال الأجانب الى هناك على حساب المدن العربية التي تختلف نماذج الحياة فيها عن تل أبيب ولندن وباريس وفرانكفورت وغيرها. ولكن ما الذي سيجنيه العرب من تدعيم أواصر علاقاتهم الاقتصادية مع اسرائيل؟ على المدى المنظور سيكون العرب في موقع الخاسر أكثر من الرابح أو في موقع المتأثر أكثر من المؤثر. فقسم مهم من أموالهم سيستخدم في تمويل المشاريع المشتركة مثل مشاريع المياه والطاقة والنقل والاتصالات وغيرها. وعلى صعيد المشاريع الانتاجية فلن يتمكنوا من تقديم أكثر من المواد الأولية والوسيطة الرخيصة وبعض الخبرات المتواضعة. وبالمقابل فانهم قد يستفيدون من الخبرات الاسرائيلية على صعيد بعض التقنيات ولا سيما تقنيات الري والتنمية الزراعية الغالية. ويذكر أن هذه الأخيرة تصنف على أنها من أفضل التقنيات ملائمة لظروف المنطقة العربية والشرق الأوسط. وبالنسبة الى الخدمات فمن المرجح أن تفقد بيروت ودبي والمنامة الكثير من أهميتها لصالح تل أبيب. غير أن ذلك لا يعني بقاء الحال على هذا المنوال لوقت طويل. فبدء التعاون الاقتصادي مع اسرائيل وعلى صعيد المنطقة ككل سيعني من جملة ما يعنيه فتح آفاق التعاون الاقتصادي والتقني بين البلدان العربية أكثر من أي وقت مضى. وقد ينجح هذا التعاون في تحقيق ما لم تستطع الجامعة العربية تحقيقه حتى الآن، وهو فتح الأسواق العربية على بعضها بعض أمام البضائع والأشخاص. ومع تخفيض أعباء التسلح والدفاع في مرحلة ما بعد السلام المنشود ستتوافر لدى هذه البلدان أموال لا بأس بها لدفع عملية التنمية البشرية في بلدانها. وسوف يساهم ذلك في نشوء فئة من المبدعين العرب في مختلف المجالات. وإذا نجحت البلدان العربية في استقطاب هؤلاء في مؤسسات بحثية وتطويرية فانهم سيتمكنون من نقل بلدانهم من مرحلتي النقل والتقليد الى مرحلتي التطوير والإبداع. وعندها فإن اسرائيل ستفقد أحد أهم عناصر تفوقها. ومن جملة ما يعنيه ذلك على الأقل اقامة توازن في مستوى الكفاءات والخبرات والإبداع بين الاسرائيليين والعرب. وسيساهم ذلك في إنزال اسرائيل من برج غطرستها الى واقع جديد يقف فيه مقابلها عرب ليسوا أقل قدرة على الابداع والتطوير منها. وأخيراً فإن تحول هذا السيناريو أو ما يشبهه الى واقع مرهون باقامة سلام عادل يقوم على مبادلة الأرض العربية بالسلام مع اسرائيل. وبدون ذلك فإن آفاق التعاون الاقتصادي بينها وبين العرب ستبقى مغلقة. وفي كل الأحوال فإنه لا بديل للعرب عن بدء تعاون جاد وفعلي بينهم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية. فهم مدعوون لذلك هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى. فتعاونهم هذا سيخفف من مضار التفوق الاقتصادي الاسرائيلي وغيره على مقدراتهم في المرحلة القادمة سواء نعمنا بالسلام أم لا.