شيءٌ ما مدهش يحدث على صعيد العلاقة بين مصر وأميركا، خصوصاً في ما يتعلق بأزمة التسوية العربية - الإسرائيلية. فقد دأبت مصر منذ ما يزيد على عامين على أن تقول لأميركا "لا"، عندما يطلب منها توظيف وزنها لمصلحة النفاق الأميركي لإسرائيل. وعلى رغم كراهيتي الشديدة لنفاق الحكام، فمن الواجب أن نعزو فضل تأكيد الاستقلالية المصرية حيال اميركا الى المدرسة الديبلوماسية المميزة للرئيس مبارك. وتبدو هذه المدرسة مدهشة من حيث قدرتها على الاحتفاظ بشعرة معاوية، على رغم أنها تقول لأميركا "لا" في معظم الأوقات، وعندما يتعلق الأمر بالمصالح الاستراتيجية لمصر، وللعرب، وللشعب الفلسطيني على وجه الخصوص. هذه الحقيقة ليست جديدة، أو ليست جديدة تماماً. فقد رفض الرئيس مبارك منح أميركا قاعدة عسكرية في رأس بيناس، أثناء السنوات الأولى لحكمه، على رغم أنها كانت في ما يبدو حصلت على وعد بذلك من جانب الرئيس الراحل أنور السادات. وخلال ولايته الأولى أيضاً 81 - 1986 سعى الرئيس مبارك حثيثاً الى إعادة العلاقات المصرية - السوفياتية الى الطريق السليم الذي يستجيب للمصالح الاستراتيجية للطرفين، بعد أن دمرها سلفه السادات وأجهز عليها كلية. وبينما كان الأخير يزايد على اميركا في ما يتعلق بسياساتها في الشرق الأوسط، وفي العالم ككل، بل ويدفع أميركا الى مواجهات عسكرية ضد كل خصومها الاقليميين والعالميين، كان الرئيس مبارك يتوق الى إحياء العلاقات المصرية - السوفياتية بهدف استنباط صيغة توازنية على صعيد السياسة العالمية لمصر. وربما كان من شأن هذه السياسة المصرية أن تقود فعلاً الى سلسلة من التداعيات تستعيد التوازن العالمي أو تبرز تعدد الأقطاب في العالم، لولا فشل غورباتشوف في إنقاذ الاتحاد السوفياتي، من الداخل. وهكذا شهدت الولاية الثانية للرئيس مبارك إحباطاً ملحوظاً لسياسته الهادفة الى إعادة التوازن لعلاقات مصر الدولية، بسبب انهيار الوزن الاستراتيجي للاتحاد السوفياتي خلال سنى حكم غورباتشوف، ثم انهيار هذا البلد الكبير كلية بعد ذلك. ولم يتوقف الرئيس مبارك عن محاولة التملص من "العلاقة الخاصة" بين اميركا ومصر، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا شك أن الدافع الرئيسي وراء هذه المحاولة هو إعادة بناء النظام العربي أو على الأقل تشكيل جبهة عربية موازنة لإسرائيل. وكانت مشاركة مصر في مؤتمر قمة بغداد في أيار مايو 1990 وما صدر عن هذه القمة من موقف صارم ومتشدد تجاه إسرائيل، إحدى العلامات البارزة في سياسة الرد بلا هوادة على مواقف اميركية متحيزة بصورة عمياء لإسرائيل. ولنتذكر أن الولاياتالمتحدة كانت أرسلت خطاباً شديد اللهجة يعتمد اسلوب التدريس الفج الى هذه القمة، وأن الرئيس مبارك، مع غيره من الرؤساء العرب الأكثر تشدداً، رفض هذا الخطاب وهذا الأسلوب جملة وتفصيلاً. وجاء الإحباط الثاني لسياسة مبارك الاستقلالية حيال اميركا بسبب غزو العراق للكويت، وما ترتب عليه من صدع في النظام العربي، وانهيار محاولة بناء جبهة عربية مقابلة وموازنة لإسرائيل. وعلى رغم هذا الاحباط، واصل الرئيس مبارك انتهاج مدرسته الديبلوماسية المتميزة، على نحو أوضح خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وهنا نلاحظ قوله "لا" واضحة رداً على أكثر من طلب أو موقف اميركي، منها قوله "لا" بالنسبة الى موقف مصر من مؤتمر تجديد معاهدة حظر الانتشار النووي المعروفة باسم NPT، ثم إجابته الحاسمة على انتخاب بنيامين نتانياهو رئيساً لوزراء اسرائيل من خلال عقد مؤتمر القمة الاستثنائي العام 1996، ورده ب "لا" عندما طلب منه الرئيس كلينتون المشاركة في مؤتمر ثلاثي في واشنطن لإنقاذ التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي. وخلال هذا العام كله، رفض الرئيس مبارك حتى مجرد إعلان موافقته على "المبادرة الاميركية" لكسر جمود المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، لأنها على رغم كونها مرفوضة من جانب نتانياهو تتراجع عما تم الاتفاق عليه وتوقيعه فعلاً من اتفاقات أوسلو، وبخاصة أوسلو - 2؟ كيف نفسر قدرة مصر، والرئيس مبارك على أن يقول "لا" لأميركا على رغم العلاقة "الخاصة"، ومن دون قطع شعرة معاوية معها؟ لا بد أن نلاحظ أولاً أن مصر كانت تقليدياً قادرة على أن تقول "لا" حتى لأخلص حلفائها، فلم تكن العلاقات المصرية - السوفياتية خالية من التوترات، حتى في أحلك أوقات الحاجة المصرية لكل بندقية ولكل ماكينة من السوفيات. واصطدم عبدالناصر مع الزعماء السوفيات فعلياً وعلنياً أكثر من مرة، من دون أن يؤدي ذلك الى انهيار العلاقات معهم. غير أن القياس على تقاليد العلاقات المصرية - السوفياتية لتفسير قدرة مصر مبارك على أن تقول "لا" لأميركا ليست صحيحة تماماً. فأولاً كانت مصر تملك القدرة على المناورة في ظل القطبية الثنائية. وهو ما جعل السوفيات يبتلعون "لا" المصرية بين الحين والآخر، بينما مصر تقول "لا" لأميركا الآن، وهي القطب الوحيد في العالم، ومن دون أن تكون أمامها مساحة كبيرة للمناورة. ومن ناحية ثانية، فإن العلاقة مع السوفيات كانت حكومية، ولم تكن هناك قوى متنفذة تضغط على الحكومة السوفياتية ضد مصر. أما الآن، فنحن نرى الكونغرس الاميركي يضغط ضد مصر بشدة. ولا شك أن قانون الحريات الدينية يُمثل أعلى مستويات التصعيد من داخل الكونغرس ضد مصر وضد الرئيس مبارك لمصلحة الصهيونية وإسرائيل. كما أن القوى الأصولية الاميركية صاحبة الصوت العالي في سياسة واشنطن تعتبر الرئيس مبارك خصماً وعدواً، ولا تستنكف عن التحريض العلني ضده في كل وسائل الإعلام. هذا فوق موقف اللوبي الصهيوني - اليهودي المعادي للرئيس مبارك، والذي يضغط الآن لوقف المعونة الاميركية لمصر. تفسير آخر يستند على مقولة "تصدع الهيمنة الأميركية" كعملية طويلة المدى. ظهر هذا التصدع ولو بصورة جزئية، عندما قامت ثورة عالمية ضد تهديد الإدارة الأميركية بضرب العراق عسكرياً كرد على أزمة المفتشين الأميركيين، ويمكن أن نجد أيضاً بعض الأدلة على تصدع جزئي لهذه الهيمنة في حالات مثل الصين والهند وفرنسا، وهي جميعاً دول تقول "لا" لأميركا بين الوقت والآخر. غير أن هذا التفسير قد يصلح لفهم حالات هذه الدول تحديداً. فهي دول عملاقة من حيث عدد السكان والقدرات الاقتصادية والتنافسية في السوق الدولي، وهي أيضاً دول لا تعتمد على الولاياتالمتحدة في مجالات التسليح والاقتصاد. بينما ما يدعو إلى الدهشة في الحالة المصرية تحديداً، هو أن مصر تعتمد اعتماداً جوهرياً على المعونة الأميركية، خصوصاً في شقها العسكري. ومن دون هذه المعونة لا شك أن الاختلال الجسيم في التوازن العسكري في المنطقة سوف يتضاعف لمصلحة اسرائيل. كما أن فك الارتباط وإنهاء المعونة العسكرية لمصر كرد محتمل على المواقف الاستقلالية للرئيس مبارك، يضاعف الضغوط على الاقتصاد المصري إذ قد لا تكون هناك مشكلة بالنسبة إلى مصادر بديلة للتسلح، ولكن، سوف تكون هناك مشكلة في تدبير التمويل اللازم للمشتروات العسكرية من أنظمة الدفاع الكبرى. ومن هنا قد نضطر إلى البحث عن تفسير ثالث يستند على مقولة "الأجندة الحقيقية" للإدارة الأميركية، خصوصاً في عهد بوش والولاية الثانية لإدارة كلينتون. ذلك ان الإدارة الأميركية تشعر بالاهانات المتكررة التي توجهها اسرائيل الى واشنطن، ومدى فداحة الثمن المدفوع مقابل سياسة التحيز الأعمى الى اسرائيل. وبالتالي فعلى رغم استمرار هذا التحيز، فإن الإدارة تلجأ إلى اسلوب الصراع الخفي مع أنصار اسرائيل الكاملين داخل الكونغرس وخارجه. وكجزء من هذا الصراع الخفي تأتي سياسة الرفض المصرية للمواقف المتعنتة لإسرائيل كجزء "مقبول" من العلاقات المصرية - الأميركية، وهي علاقات تدور في فلك حكومي مطلق، وليس لها مكوّن شعبي أو خارج الإدارة الأميركية، وبتعبير آخر، فربما نجد التفسير الملائم في أن الإدارة الأميركية تسعد بالسياسة الاستقلالية للرئيس مبارك، خصوصاً في ما يتعلق بالموقف من السياسات الاسرائيلية المغرورة والتي تهين أميركا من الداخل والخارج. وقد يفيد أيضاً أن ندرك أن المدرسة الديبلوماسية للرئيس مبارك تبرز معاركها مع السياسة الأميركية، ولكنها لا تستهدف ولا تعمل على إحداث "قطيعة" مع السياسة أو المصالح الأميركية. وقد يكون هذا التفسير سليماً، إذا استوثقنا يوماً ما من أنه كان ولا يزال ثمة "تفاهم" حول طبيعة وحدود المواقف الاستقلالية المصرية بين الرئيس مبارك والرئيسين الأميركيين بوش وكلينتون. وثمة تفسير إضافي قد نجده في السياسة الداخلية للرئيس مبارك، إذ أنه متشدد للغاية في ما يتعلق بالأوضاع السياسية الداخلية، وهو اصطدم مع معظم قوى المعارضة السياسية في لحظة أو أخرى. وفي المقابل، وبهدف شل إرادة المعارضة، يبدو ضرورياً أن يؤكد الرئيس مبارك استقلالية القرار السياسي المصري في وجه أميركا. ويعد هذا الموقف جزءاً جوهرياً من شرعية النظام السياسي في مصر منذ العام 1952. ويؤكد هذا التفسير أن الرئيس مبارك كان يرفق أكثر مواقفه تشدداً حيال أميركا بأكثر مواقفه تشدداً حيال الوضع الداخلي، وهو ما أدى إلى إثارة حماس أحزاب المعارضة المصرية المعادية لأميركا، على رغم أنها كانت تتلقى ضربات واضحة في الداخل. هذه التفسيرات كلها قد تجعلنا نفهم لماذا يخوض الرئيس مبارك معارك مهمة مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بين الوقت والآخر، ولماذا يقول "لا". ولكنها لا تجعلنا نمسك بأسباب نجاح هذه السياسة.