يلاحظ باسكال بروكنر في "اغراء البراءة" ان الاستضحاء هو استراتيجية للتميز، عمل يهدف في النهاية الى الانضمام الى "العائلة المقدسة للضحايا"، بينما يرتأي العالم السوسيولوجي الايراني احسان نراغي "من بلاط الشاه" في تحليله لتجربة مجاهدين خلق، أن الدور فائق الأهمية الذي لعبته هذه الحركة في دفع النظام الاسلامي الايراني الى اتخاذ مواقف متطرفة في بداياته، قد يكون مرتبطاً لا بفكرها السياسي وخطابها المباشر، وانما كذلك بالجانب غير المرئي من ثقافتها التاريخية، المشكّلة والمكوّنة لثقافة داخلية متفانية وذات طابع استضحائي. ولكن، واستناداً الى معطيات عديدة وهامة، يعتقد نراغي ان الطابع الانتحاري لأعضاء مجاهدين خلق يؤكد بلا أدنى تحفظ، انه طابع نادر المثال قد لا يكون التاريخ الايراني يعرفه باستثناء ما شهدته ايران في القرن التاسع عشر مع الحركة البهائية، حيث يمكننا ملاحظة التفاني نفسه والسير الأعمى نفسه باتجاه الموت. لقد امتزجت الروح الرومانسية الثورية عند المجاهدين بحب المخاطر، وهذه امتزجت بدورها بنمط من العبادة المطلقة للمنظمة. لا ريب ان البيئة السياسية والثقافية العربية - الاسلامية، وفّرت بموروثها وتقاليدها التضحوية، حيث يمتزج الدين بالحياة الاجتماعية امتزاجاً تاماً، أرضية تسمح بتراكب "الايديولوجيات التضحوية" تراكباً جذرياً وعميقاً، متوافقاً ومنسجماً مع هذه البيئة. بهذا المعنى غدت الجماعات العربية السياسية والاسلامية كذلك مع مرور الوقت ورسوخ التجربة هي ذاتها "نظام التضحية" معبراً عنه بواسطة شكل من اشكال التنظيم السياسي لا اكثر ولا أقل، يتم توسيطه بين العنف وبين المجتمع العقائدي أي الحزب الذي ينهض اصلاً على أساس كونه "مجتمع تضحية" صغير. ان الدم، دم الفرد العربي والمسلم الذي غالباً ما كان يُسفك عند أقدام هذا النظام الثقافي المؤسس على قاعدة "التضحية" لا يكاد يجد من يطالب بوقفه، لأنه تقريباً وبفضل طقوسيته، خارج كل سيطرة قانونية من المجتمع الحقيقي، بل ان القانون الخاص للجماعة، وعدالتها الخاصة والعقائدية، هي التي تبيح وتجيز تطبيق قوانين الاستضحاء دون علم أو رقابة المجتمع، وهذا امر شبيه ومماثل لعدالة الجماعات البشرية البدائية التي درسها مالينوفسكي في الجريمة والعرف عند الجماعات المتوحشة، والتي سيعيد رينيه جرار تحليلها في العنف والمقدس ملاحظاً ان للنظام القضائي والتضحية وظيفة واحدة بالرغم من ان النظام القضائي يملك فاعلية لا تحدّ، نظراً لوجوده متحداً بسلطة قوية هي سلطة القبيلة. في هذا النطاق تلعب الايديولوجيا في نموذجها السياسي العربي الراهن بطابعها الكلامي، دورها كاملا في الحفاظ على "نظام الاستضحاء" والسهر عند مهده ورعايته ورفع درجة مهابته بين الجماعات الاخرى، وذلك عبر تمجيد التضحية بالنفس والتفاخر بها علناً. ان التضحية امر مقدّس، ولذا يصعب التنديد او التساؤل عن جدوى أي تضحية في العالم السياسي العربي. وفي ظل بيئة عربية - اسلامية تمجد التضحية، فإن الانسان العربي يتردد تلقائياً ازاء اي شعور سلبي قد ينتابه وهو يرى الى بعض ما يجري امامه من سفك للدم باسم التضحية. كان الطريق ولا يزال سالكاً امام الجماعات السياسية العربية المعاصرة، لكي تقدم القرابين دون خوف او تردد او ان تحسب حساب المجتمع، الذي لا ترى فيه رقيباً رادعاً، كما انها - اصلاً - لا تقيم له ادنى اعتبار في هذا الميدان، فالتضحية فوق كل شيء: فوق المجتمع والتاريخ والعائلة والثقافة. انها شيء متسام لا يبلغه، الا شخص تشبّع بقيم مجتمع عقائدي صغير ومغلق. وما دامت هذه الجماعات عزلت نفسها فعلياً عن المجتمع الحقيقي وعاشت في كنف "مجتمع صغير" خاص بها، بل وعاشت طوال الوقت متنكرة او مقنّعة، فانها لا بد تبادر وباستمرار الى اظهار تضحياتها كامتياز لها. انه الامتياز الوحيد الذي تستطيع من خلاله ان تقدم نفسها كجماعة متعالية، سامية، ارتفعت برفيف الدم عن دنيويتها. شكلت التضحية في فكر الجماعات السياسية العربية المعاصرة امتيازاً حقيقياً، بل وكانت على الدوام مصدر نشوة كبرى. وما من جماعة سياسية عربية الا وصدحت بموشح امتلاكها اكبر عدد من الضحايا. وبالنسبة لكثرة من القادة السياسيين فإن امتياز الاستضحاء ليس مصدر نشوة وحب وإنما هو أيضاً مصدر الانتصار السياسي. ولا شك ان بعض الجماعات لا تزال تؤمن حتى اليوم ايماناً راسخاً بأن مكانتها السياسية الرفيعة بين الجماعات الاخرى تتحدد في ميدان الضحايا، فكلما كان العدد كبيراً كلما كان الامتياز اكبر. بهذا المعنى المحدد يمكن لإمعان فكر متأن في ظاهرة "الاستضحاء السياسي" العربي ان تكشف عن نمط المفارقة ونوع المأساة، ولكن يمكن لأجل بلوغ هذا الهدف تحليل نمودج مجاهدين خلق بما هو نموذج محايث للنموذج العربي: لقد قام اعضاء مجاهدين خلق، فعلياً، وعبر تبني الماركسية، بالقطيعة مع القيم المهيمنة في المجتمع والتاريخ والعائلة داخل ايران المعاصرة، اذ لم يتبق في وجدان وعقل المجاهد سوى التشبث الأعمى بوجود المنظمة وحياتها واستمرارها وصيانتها من الخطر، وبات كل قرار يصدر عنها تجسيداً لتلك القيمة المقدسة التي آمنوا بها، اي القيمة المجردة لوجود المنظمة. في رأي احسان نراغي كان المجاهدون يتصرفون حيال منظمتهم تصرّف المؤمن الاكثر تعبداً، ولذا طبقوا في ايران طرق التوباماروس المنتشرة في اميركا اللاتينية، مثلما قاموا بمحاكاة تجربة الفدائيين الفلسطينيين، ولكنهم اساؤوا، بطبيعة الحال، تقدير درجة المجتمع الايراني التقليدي من الايديولوجيا الغربية. يعرض نموذج "مجاهدين خلق" الذي نقوم بتحليله، بما هو صورة نمطية من صور الاستضحاء السياسي الاسلامي، والعربي استطراداً حلولاً مثالية لفهم نوع وطبيعة المأزق التاريخي الذي تبلغه هذه الاستراتيجية في نهاية المطاف. ان هؤلاء الذين تدرّبوا في معسكرات الثورة الفلسطينية طوال سنوات صراعهم مع الشاه الايراني، وتعلموا الف باء الماركسية في مدارس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين او سواها من الفصائل العقائدية التي كانت تمتلك مدارس حزبية في منطقة شملان ببيروت، قابل للمقاربة التي تعد بكشوفات هامة على صعيد فهم مغزى تلك القطيعة مع القيم المهجنة في المجتمع والتاريخ والعائلة بالنسبة للفرد المجاهد، بل وفهم طبيعة الايديولوجيا الازدواجية التي تم فيها تطعيم المجتمع العقائدي الصغير بالماركسية، بحيث امكن في النهاية تكوين نموذج قتالي جديد هو خليط من الاصولية الاسلامية والارثوذكسية الماركسية، وبكل تأكيد داخل مجتمع مؤمن ينهض اساساً على النظام التضحوي نفسه. علاقة الفدائي الفلسطيني بسلاحه - في اطار استراتيجية الاستضحاء هذه - مماثلة لعلاقة الفدائي الايراني بسلاحه، بصرف النظر عن نوع العدو، ذلك ان "النوعية" قابلة للاختراق ولن تشكل عائقاً حقيقياً امام العنف. ليس أدل على ذلك ان الفدائي الفلسطيني لم يتورع عن استخدام السلاح نفسه الموجه ضد العدو الصهيوني، وبالقدر ذاته من العنف، ضد فدائي فلسطيني آخر خلال "الاشتباكات الفلكلورية" التي كانت تدور في الفاكهاني خلال السنوات الاخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية، تماماً كما هو الحال مع المجاهدين الايرانيين الذين ما ان فرغوا من الشاه حتى وجدوا انفسهم امام عدو جديد كان حتى الأمس القريب حليفاً، وقد تبدى الآن في هيئة نموذجية كشّر رمزي اسطوري تستلزم ظروف القتال ضده، استخدام كل اشكال العنف التدميري. وثمة واقعة لها مغزى في هذا الصدد وتكشف عن الدلالات الحقيقية لعلاقة المجاهد المسلم/ الماركسي بسلاحه بما هو وسيلة الاستضحاء الرئيسية، والتي بدونها لن يكتمل "الاستضحاء" في صورته الطقوسية، ففي الأيام القليلة التي سبقت سقوط شاه ايران ثم الانتقال من النظام الملكي الى النظام الجمهوري الاسلامي، افرغت المنظمات المقاتلة وخصوصاً منظمة "مجاهدين خلق" معظم مستودعات السلاح في طهران واستولت عليها. منذ تلك اللحظة، وبالرغم من العلاقات الجيدة والطيبة التي كانت تربط المجاهدين بقادة الجمهورية الاسلامية خلال الأسابيع الأولى، فإن المنظمة رفضت رفضاً قاطعاً القاء السلاح. لم يكن العدو قد تلاشى بعد بالنسبة للمنظمة، وهو طبقاً لعقيدتها كان قابلاً للظهور من جديد او انه يتمتع - بالفعل - بقابلية تجريدية على اعادة انتاج نفسه. ولذا فان السلاح لن يركن جانباً، ويمكن، على الضد من ذلك، ابقاء حالة المواجهة معه بانتظار ظهوره مجدداً فوق المسرح ذاته. ولمَ لا؟ والايديولوجيا المزدوجة الاسلاموية - الماركسوية الارثوذكسية تحضّ على انتظار وترقب لحظة تجدده كعنف قدري، لأن الحرب المحرّكة صوبه هي حرب دائمة لا تعرف الهوادة ولا التراجع؟ فكرة الحرب الدائمة هذه ضد "العدو الأزلي" تكاد تكون تقريباً الفكرة الاكثر جوهرية عند معظم الجماعات المسلحة، او التي تحمل السلاح في ظرف ما، سواء تلك التي اعتنقت الاسلام كعقيدة سياسية ام ذهبت صوب الماركسية الثورية ونموذجها الاميركي اللاتيني، ولذا لن تعود الحرب مجرد لحظة عابرة في حياة "المجتمع العقائدي" بل هي حرب استراتيجية لن تنتهي حتى بنهاية العدو. انها الثورة الدائمة ضده، والتي يحيا المؤمنون العقائديون كل حياتهم - تقريباً - بانتظار الوصول اليها بما هي اللحظة القصوى في التاريخ. ولعل هذه الثورة - اخيراً - احد اكثر افكار هذا النوع من المجتمعات السياسية الصغيرة، نفوذاً وتأثيراً في تقرير نوع السياسات وأهدافها. كان السلاح يتخذ منذ اللحظة التي يرتبط فيها صاحبه بعلاقة عضوية معه، طابعاً خاصاً، فهو مصدر "النشوة" التي تعطي الاستضحاء فرصة بلوغ مداه القدسي، وبدون السلاح لا تعود المنظمة قادرة على فهم ذاتها فهماً صحيحاً. ولذلك كان تجريد المنظمة من سلاحها او مطالبتها بالقاء السلاح يتخذ وباستمرار، المعنى الوحيد الذي شعرت بالذعر منه: اي ان يكون هو نفسه معنى تجريدها من استراتيجية "الاستضحاء" بما هي استراتيجية تحيّز. يقول نراغي: "كانوا - المجاهدين - يقيسون درجة اخلاص وتفاني الاعضاء تبعاً لعدد الرشاشات والقنابل والمسدسات التي تمكنوا من الاحتفاظ بها". هذا هو، اذن، المعيار الاخلاقي الجديد الذي تحلّ فيه "عقيدة السلاح" محل "الايديولوجيا" الارثوذكسية وتنوب عنها في الأداء اليومي والحياتي للمجتمع المؤمن، الصغير والعقائدي، المنافح ضد منافسين مماثلين له. كانت مخابئ السلاح في الأيام الأولى للثورة الايرانية، وبالنسبة للمجاهدين، حتى مع تحسّن علاقتهم بالنظام الاسلامي الايراني، تشكل كنزاً اخلاقياً ومادياً، لأنهم طوّروا ثقافتهم السياسية ضمن نطاق السرية في ظل الشاه، ثم في ظل نظام ثوري لم يكونوا يشعرون بالرضا عنه، على اساس كون هذه المخابئ هي مصدر ديمومتهم في الحياة السياسية، اي مصدر ديمومة نظام التضحية. بهذا المعنى كانت منظمة مجاهدين خلق قد قررت عدم التفريط بپ"الكنز" الى النهاية، ولذا كانوا يقتَلون بالمئات في عمليات انتحارية نهايتها الحتمية لا تخفى على أحد كما سيقول عالم الاجتماع الايراني احسان نراغي في شهادته المؤثرة عن الحقبة الفاصلة بين سقوط الشاه وصعود الجمهورية الاسلامية. وبينما كانوا هؤلاء يسقطون صرعى في عمليات انتحارية، كانت "اسلحتهم المقدسة" لا تزال في ايديهم على غرار الصليبيين الذين كانوا يشهرون قديماً الصليب وهم يلفظون انفاسهم الاخيرة في ساحات الحرب. لم يكن العمل السياسي بالنسبة للمجاهدين الا عملاً قتالياً وعنيفاً ومشهدياً. ومع ذلك سرعان ما شعرت المنظمة ان "استراتيجية الاستضحاء" قد وصلت نقطة اللاعودة، لأن ما كانوا يواجهونه لم يكن في واقع الحال مجرد عدو اعاد انتاج صورته، متنكراً في زيّ رجل دين اسلامي، بل كان - حقيقة - عدواً جديداً يمتلك "استراتيجية استضحاء" مماثلة وموازية ومنافسة وربما اكثر دينامية. انه "العدو" الذي كان يدرّب نفسه تدريباً شاقاً وبلا انقطاع على مشهدية "استضحاء" تاريخية تشكل جوهر ثقافته، وذلك عبر احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي بن أبي طالب 61 هجرية لا في مواسم عاشوراء التراجيدية، بل كل يوم، وهذا ما يؤكده شعار الجمهورية الاسلامية الأثير: كل يوم عاشوراء كل أرض كربلاء. كل يوم، اذن، بالنسبة للمسلم الايراني المؤمن بجمهوريته، هو يوم استضحاء غير قابل للتوقف او المراجعة، وكل أرض هي مسرح هذا الاستضحاء التاريخي. ولذا لا يلزم مثل هذا المؤمن ان ينتظر الشرّ العنف الاسطوري الذي سيواجه الجمهورية الفتية الناطقة باسم الاسلام الايراني الجديد، لكي يهب نفسه اضحية من اجل صدّه وإعاقته، بل عليه ان يرى اليه بوصفه شرّاً قائماً في وجود سرمدي وأزلي، فهو محرّك صوب الاسلام وصوب جمهوريته العذراء. بذا كانت الحاجة تنفي - فعلياً - الى ميدان لاشعال الحرب، ما دامت كل أرض، كل مكان، ساحة عامة ام طريقاً عمومياً، هي هذا الميدان المطلوب. كل ارض هي - رمزياً - كربلاء القديمة التي جرت فيها مشهدية الاستضحاء التاريخي المولد لأشكال متشظية وجديدة ولانهائية تلهب خيال ملايين البشر على مرّ العصور والازمان. اذا كان المجاهد المسلم الايراني يواجه مجاهداً مسلماً آخر في سياق الاستراتيجية ذاتها، فإن النتيجة الحتمية لن تكون سوى بلوغ النقطة الوحيدة الممكنة: اللاعودة. اذ ما الذي يمكن ان يسفر عنه مثل هذا الارتطام العنيف بين إيمانين راديكاليين بالموت بوصفه نشوة؟ ربما لهذا السبب اضطرت مجاهدين خلق في وقت لاحق الى اتباع تكتيك مغاير له طابع سلمي صريح. وبالفعل، وخلال سنتين فقط من هذا التغيير في السياسة المتبعة حيال النظام الايراني، امكن لمنظمة المجاهدين ان تكسب الى صفوفها اعدادا هائلة من الشبان. عندئذ فقط أدرك المجاهدون "المسالمون" ان جاذبية الوسط "المسالم" تتمتع باغراء لا حدود له، وخصوصاً بالنسبة للشباب الذين راحوا يقبلون على الانضواء في منظمة هدفها اقامة مجتمع اسلامي عادل. من الممكن تأويل هذا التبدّل في التكتيك السياسي بواسطة لغة سياسية، فهذا امر ميسور للغاية بالنسبة للباحث في التاريخ السياسي الايراني المعاصر وفي تاريخ الثورة الايرانية وعلاقات القوى فيها، بيد ان الامر غير الميسور، المعقد والصعب للغاية، انما هو فهم هذا التبدل في اطاره الثقافي، ذلك انه عبّر عملياً عن لحظة لقاء ومصالحة بين استراتيجيتي "الاستضحاء" كما جسّدته كل من تجربة مجاهدين خلق والنظام الذي نصّبته عدواً لها. لم يكن المأزق خاصاً بالمجاهدين وإنما كان خاصاً بالجمهورية الاسلامية نفسها، اذ ان شعارها الأثير خصوصاً بعد خريف 1981: كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، كان يفترض حلاً من اثنين: اما تحويله الى مجرد شعار "طقوسي" اي تعطيله عملياً وإما الانجراف وراء اغرائه، وهذا ما كان ليفضي الا الى تحويل ايران كلها الى ميدان كبير لموت لا ينقطع. كان لا بد للنظام الاسلامي الايراني ان يتقبّل - في النهاية - اغراء "المسالمة" الذي اعترض طريقه في تلك اللحظة العابرة من صراعه مع المجاهدين وأن يرتضي تعطيل آليات نظامه "التضحوي". يروي احسان نراغي الواقعة التالية التي سنعيد تحليلها عن احد الشبان المجاهدين الذين ألقي القبض عليهم في احدى القرى النائية من ايران، مع آخرين من رفاقه بعد الصدام بين الجمهورية والمجاهدين: "يقول المجاهد: بما انه لا توجد في قريتنا الصغيرة محكمة ثورية فقد نقلنا في باص متوجه الى طهران. استغرقت رحلتنا يومين وليلة ووضع أربعة حراس ثورة من قريتنا نعرفهم جيدا لحراستنا. اثناء الليل لاحظت في وقت ما ان الحارس الثوري الجالس بقربي قد استسلم للنوم وأن رشاشه مُسند الى ساقه. التفت واكتشفت ان الثلاثة الآخرين قد استسلموا بدورهم للنوم. التقت عيناي بعين احد اصدقائي الذي بقي هو الآخر متيقظاً، واستطعت ان أقرأ في نظرته فكرتي نفسها: الاستيلاء على رشاشات الحراس الأربعة. التحكم بهم او قتلهم والهرب عبر البرية بدل ان نقبع في السجن او ان نمثل أمام محكمة. ولكن ما أن لامست هذه الفكرة عقولنا حتى خفّضنا عيوننا خجلاً فنحن كنا نعرف هؤلاء منذ الطفولة ولم يكن بمقدورنا قتلهم. حين انتقلنا الى طهران عهد الحارس الجالس الى جانبي، اليّ، برشاشه حين أراد الذهاب لقضاء حاجة!". هكذا ببساطة شاهد الشاب الاعزل حارسه المسلح وهو يسلمه قطعة السلاح ويذهب "للتبوّل". ولكن مهما يكن من امر، فإن المجاهدين امكن لهم ان يحبطوا الرغبة في استخدام العنف ضد الآخرين من الحراس الثوريين، بفضل دوافع غير متوقعة كانت تستيقظ بصورة مفاجئة حيوية وفعّالة وقادرة على اختراق "الثقافة السياسية" للسلاح التي نشأوا عليها. هذه الدوافع كانت ببساطة هي قيم المجتمع والعائلة والحارة والقرية والتاريخ الذي كانوا يقطعون معها لصالح الايديولوجيا الارثوذكسية، فالسلاح لم يكن يساوي آنئذٍ اكثر من "قضاء حاجة" في البرية! لم تكن ايديولوجيا المجاهد او "اسلاموية" الحارس الثوري، بقادرة على احداث اختراق معاكس لهذه الثقافة الصلبة والحقيقية التي تمنع العنف وتعيقه: ثقافة المجتمع الحقيقي الذي قاما - عملياً - بالقطع معه ومغادرته من اجل العقيدة والسلاح. لم يعد الآخر بالنسبة للمجاهد "غريباً" او "جلاداً" كما ان هذا الاخير لم يعد ينظر الى أسيره كعدو. ويكفي امعان النظر في دلالات هذه اللحظة للكشف عن هشاشة الحاجز الوهمي الذي كان يجعل من الضحية جلاداً ومن الجلاد ضحية. ترى كيف أمكن للحارس الثوري - آنئذٍ - ان يتصرف بذلك القدر من العفوية والبراءة بحيث يقوم بتسليم سلاحه لأسيره؟ أي ان يزيح عقيدته السياسية جانباً ويغادر موقعه كمسلح في مواجهة شخص آخر اعزل؟ لا توجد - في الواقع - صورة اشدّ بشاعة في نظر المسلم من صورة الجلاد والظالم، كما لا توجد صورة معذّبة لوجدانه مثل صورته كمصدر عذاب للآخرين. ومع ذلك توجد كثرة لا تحصى من المسلمين الذين عاشوا بوصفهم جلادين وطغاة. على اننا لا نعدم رؤية الجانب الجوهري في ثقافة المسلم الشيعي في اطار هذه المسألة الشائكة، نعني النزوع الى امتلاك ميزة "الضحية" لا ميزة "الجلاد" اي موقع الاعزل لا موقع المسلح.