يعتبر رايت واحداً من أهم الشعراء الاميركيين الاحياء. ومع ان شعره تأثر بشكل لافت بنشأته في الجنوب الاميركي، ويحتوي الى ذلك على تفاصيل عن منزل العائلة في تينيسي، الا انه يطرح مسألة الذاكرة ويحمل في ثناياه صلة انسانية شاملة الانتماء بالماضي اكثر من انطوائه على موقف ذاتي اعترافي. يتميز شعر رايت بإيقاعات داخلية تساعد في اعلاء موسيقى اللغة. وتمتلئ القصيدة النموذجية عنده بأشياء تسبغ عليها وهمَيْ البداهة والتجسد الحسي. واللافت ان قصائد رايت تتجاوز التعريفات التقليدية للروحانية وتتجه صوب احتضان اجواء صوفية. ويضفي استعماله للمشاهد الشخصية واسترجاع الاحداث جواً من تقديم الذات، لكن ذلك يحدث من دون ذاتية او حتى حميمية. وقد كتبت هيلين فندلر مستخدمة تعبير "الأنا المتجاوزة" لتشير الى منظور رايت غير الشخصي. ديوان رايت الأول صدر العام 1970 بعنوان "قبر اليد اليمنى"، وفي العام 1977 أصدر ديوانه الرابع "مسار الصين" الذي اظهر فيه تأثراً بالشعر الصيني. اما ديوانه "الصليب الجنوبي" الذي يعتبر من بين اعماله المهمة فظهر العام 1981. وجلب له ديوان "موسيقى الكاونتري" 1982 "جائزة الكتاب الاميركي". اما ديوانه "دائرة الابراج السوداء" فقد استحق أخيراً جائزة بوليتزر للشعر لعام 1998. قراءة لاو تزو ثانيةً في السنة الجديدة الطرف المنطفئ لسنة موحشة، موغل في البستان القزم، السماء بملابس داخلية سوداء ونجوم كالنقاط، أقفُ في الظلام وأستجيبُ لطلب حياتي، هذا القميص أريد خلعه، ذاك الذي يحترق... سنةٌ ماضية، سنة جديدة، أغنية قديمة، أغنية جديدة، لا شيء سيبدّل الأيدي، كل مرة نغيّر القلب، كل مرة كما سحابة عاثرة انجرفتْ طوال النهار عبر السماء باتجاه كتفيْ الليل اللامبالييْن المزدانتين بالنجوم. علم العروض يرتفع ويهوي. التراكيب ترتفع في الذهن وتتساقط. الفشل يعيد بذر الأرض العتيقة. هل العشب، بطوله القصير الممتد داخل عالميْن، يحب التربة؟ هل يحب ندفُ الثلج حباتِ المطر؟ سمعتُ أن مَنْ يعرفون لن يخبرونا أبداً، وسمعتُ أن مَن يخبرونا لن يعرفوا أبداً. الكلمات خاطئة. التراكيب خاطئة. حتى الأسئلة عبارة عن تسوية. الرغبة تميّز نفسها، واللغة أيضاً تميّز نفسها: إنهما لا تشكلان جزءاً من جوهر كل الأشياء: كل كلمة مثابة فشل، كل شيء نُسمّيه ونحدّد مكانه يبعدنا خطوة أخرى عن النور. الخسارة هي ربحه الخاص. أما سرّه فالخواء. صورنا كامنة في برك ذواتها المعتمة، وأشبه بأجساد الماء يتحرّك الموج. إنها تتحرك مع تحرّك الموج. سر الموج هو الخواء. أربعة أيام حتى كانون الثاني، والعشب ينمو صغيراً، صغيراً تحت أشجار الدراق. الريح القادم من "سلسلة الجبال الزرقاء" يشقلب قبعة أشعة النهار دافعاً إياها أبعد فأبعد حتى البلدان الشرقية. أشعة الشمس تتناثر على رماد الأطراف. عصفوران يصفران لشيء غير مرئي، واحدٌ بنبرة خشنة والآخر بفاصل طويل. إننا في منتصف المسافة بين الآن واللا - الآن، يسندنا الحنو، فنبدو أشبه بصخرة كبيرة متوازنة فوق صخرة صغيرة. الجانب الآخر للنهر عيد الفصح من جديد، ومطر خفيف يتساقط فوق الطائر المحاكي* وذبابة المنزل، فوق سيارة الشفروليه الرافلة في حبورها الأرجواني وفوق هوائيات التلفزيونات المحتشدة عند منحدر التلة - عيد الفصح من جديد وأشجار النخيل تنوء بثقلها منحنيةً أكثر فأكثر، البرك الموحلة تقبل كل ما يُعطى لها، ولا شيء يرتفع أكثر من نصف قامته - الفصح بكل أفواهه الصغيرة ينفتح لرشف المطر. ليس ثمة من استعارة تفي بخزي الربيع، مهما بدتْ أوراق الورد أشبه بقلوب حمام برونزية، مهما تأنقتْ أشجار الخوخ واعتزّتْ بنفسها وسط الريح. لأسابيع فكّرتُ وفكّرتُ بنهر سافانا، دونما سبب، وبالحقول الشتوية حول غارنيت، في جنوب كاليفورنيا، حيث اعتدتُ وأخي الصيد في عيد الميلاد... هو الارتباط ما أتكلم عنه، هو التناغمات والتراكيب ومختلف الأشياء التي تقيّد معاصمنا بالماضي. ثمة شيء غير محدود يظهر خلف كل شيء، ومن ثم يختفي. كل المسألة هي كيف نضيّق الأسطح. كل المسألة هي كيف نتناغم مع قبة السماء. أرومُ الجلوس عند ضفة النهر، في ظلال الشجرة الدائمة الاخضرار، وأن أنظر في وجه أي شيء، ذاك الأي شيء الذي بانتظاري. يأتي وقت يبدأ معه كل شيء بالبلى والتحوّل الى غبار، وذلك أسرع مما يظهر للعيان، يحدث هذا عندما لا يكون لدينا شيء لتسهيل وحشة الظلام سوى ذلك الغبار، وزواله. قبل 25 سنة اعتدتُ الجلوس على نتوءات هذه الصخور والشمس تنزل كقربان عبر وهج خليج مونتيري، يومها بدا كل ما كنتُ أفكر فيه هو ملكي لأنه موجود أمامي، موجود روحياً أنى مكان، يتجلّى ويتراكم... إذن أن أكون قد بلغت هذا، متذكراً ما فعلتُه، وما لم أفعلُه، فيما النوارس تنشج فوق كوخ الصياد، والفراشات الضخمة تتجوّل فوق أحواض الزهور وكل الوبر الناعم للربيع ينتصب في الريح، والشمس، كعادتها، تسقط في ثقبها دون أدنى طقطقة، ما هو سوى حياة قصيرة من العناء. "إجلالاً لبول سيزان" مقاطع الموتى معنا ها هنا ليبقوا بيننا. أطيافهم تهتزّ في الفناء الخلفي، نقية جداً، حالكة جداً، بين شجرة السنديان ومدخل المنزل. في سماء الليل يبدون ضخمين فوق رؤوسنا. وبين الحشائش الطويلة يميلون حسب دائرة الأبراج الفلكية. تحت أقدامنا يظهرون بيضاً مع ثلوج عمرها ألف سنة. يحملون خيطانهم الملونة وسلال الحرير ليصلحوا ثيابنا، ليحسّنوا من قيافتنا، يبدلون هنا، يقطّبون هناك، يستبدلون زراً، يرتقون ثقباً. إنهم أشبه بالطيات التي تثبت أكمامنا، يقومون بجمع شتات أجزائنا الى بعضها. بعيداً ينفخون آخر أوراق الشجر ينداحون بانسياب الى نهر السماء. إنهم يطيرون في كل الأمكنة. الموتى مثابة خفة ماهرة واختفاء ذكي نعجب بهم، وكما الخوخ المزهر، كما النقود البيضاء المتساقطة من المطر تنهداتهم مثابة فجوات في صوت الريح. * المحاكي: طائر أميركي يقلّد أصوات الطيور الأخرى. * ترجمة وتقديم: فوزي محيدلي