فتحت "آفاق" الباب امام الفنانين التشكيليين العرب المقيمين في الخارج للاجابة على سؤال: "من أنت؟" في اطار فهم العلاقة بين هؤلاء وبين الواقع الثقافي التشكيلي الذي يحيط بهم يومياً. ونشرنا دراسة اعدها الفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر كمقدمة لا بد منها للدخول الى هذا العالم المتناقض والمتشعب، كما وجهنا رسالة مفتوحة الى جميع التشكيليين العرب في الخارج توضح الفكرة من الاستفتاء. وها نحن ننشر اسهامات التشكيليين العرب كما وردت الىنا وفق تسلسلها الزمني على امل ان نتابع في "آفاق" نشر كل الآراء التي تصب في اغناء وعي الحركة التشكيلية العربية لنفسها في الخارج، وكذلك اطلاع الفنانين التشكيليين العرب على مواقف وانجازات زملاء لهم ربما وجدوا صعوبة في معرفتها في السابق. ومرة اخرى نؤكد على ان المجال متسع ورحب امام كل المساهمات تعليقاً ونقداً وتوضيحاً. - خصوصية المبدع هي اصالة انتاجه هو نفسه عبدالله بولا من أنا؟ هذا سؤالٌ مربك ٌبحق من أي وجهٍ أخذته. هو مربك لأنه يفترض أن المسؤول يعرف نفسه تماماً حتى أنه يستطيع تعريفها. وهو مربكٌ من حيث يفترض أن إنساناً ما يمكن تعريفه مرةً واحدة وإلى الأبد. وهو مربك ثالثاً إذ يتوقع أن يأتي إخْبار الإنسان عن ذاته شافياً، وفي هذا، في تقديري، نظرٌ طويل، على رغم قناعتي بأن إخبار الإنسان عن ذاته مما لا يستقيم أدب السيرة من دونه. أما وقد أثبتُّ هذه التحفظات، فسأبدأ "التعريف" ب "نفسي" من أنني أولاً إنسان أنتمي إلى النوع البشري أساساً. وقد يتصور قارئٌ ما أن هذه بداهة، إلا أنها على التحقيق ليست كذلك كما سيبين من تطور سياق الحديث. ومن مقاصدي من وراء هذه المقولة أنني مواطن من مواطني هذا العالم أملك فيه حقوقاً أساسية ليس في نيتي التنازل عنها. ثم إنني من بعد أنتمي من جوانب مهمة إلى ما يسمى بلغةٍ إصطلاحية ليست بريئة بپ"العالم الثالث"، وإلى إفريقيا والوطن العربي على وجه الخصوص، ثم إلى السودان بصورةٍ أخَصّ. ولدتُ في إحدى مدن شمال السودان، واسمها بربر، وهي مدينة عجيبة التكوين جمعت في ما جمعت من تراث الإنسانية، وأعراقها النوبة المستعربة، والعرب الأقحاح والخلاسيين، والترك والشركس وأهل المدينة يقولون السَرْكَس ، أظنها ال "أصح"، والأرمن، والممالىك، والطليان، و"المجر"، و"الصين" كما يسميهم أهل المدينة، إلى جانب أعراق أخرى عديدة من إفريقيا جنوب الصحراء وشمالها فالأفارقة، ليسوا كتلةً واحدةً صماء كما يعتقد الكثير من الناس. وبربر، مسقط رأسي الشقي، هي بهذا مدينة على هيئة أسطورة. واقعها الثقافي الىومي وسير أهلها التاريخية مما يضاهي واقعية ماركيز "السحرية". وتاريخ مولدي البيولوجي يوم 13/ 2/ 1943، فأنا إذاً شيخٌ مخضرم، وإن ظل وعيي الفعلي بشيخوختي ضعيفاً ومشوشاً جداً. أكملت مراحل تعليمي حتى المستوى الجامعي في السودان. وغادرت السودان إلى فرنسا في العام 1977. وحضّرت فيها الماجستير والدكتوراه في علم الجمال وأنثروبولوجيا الفن، بأطروحات انصبت كلها على فحصٍ نقدي لمفهوم الهوية الثقافية السودانية على وجه العموم، وجوانبه المتصلة بالفنون التشكيلية والأدبية على وجه التحديد. وبدا لي ان مفهوم الهوية معقدٌ جدًا فعارضت ونقدت صور التبسيط المختلفات التي يعالجه بها نفرٌ من الفنانين والأدباء والفلاسفة العرب والأفارقة و"الأجانب" بصورة عامة، وأعجب كيف يكون الإنسان "أجنبياً" في مملكة الإنسان؟!. وانصب تركيزي على معالجات السودانيين له على وجه الخصوص. هذه إن شئتم شواغل أساسية عندي إلى جانب إشتغالى بممارسة الرسم والموسيقى والكتابة "الإبداعية" وقد وضعتها بين مزدوجتين تحسباً من غرور النفس من أن أُسمي كتاباتي إبداعاً. وتستهويني العمارة، وعليها تتحدد العلاقة بيني وبين المكان، وأشتغل بتصميمها الداخلي، وبنظريات تكوينها الجمالى. وهكذا تجدون أنني موزعٌ بين غواياتٍ متعددة. وتسألونني عن وضعي في "دار الهجرة" والإغتراب. ووجوه الإغتراب عندي عديدةٌ مستشكلة في القرية الإنسانية "الظالم والمغترب أغلب أهلها" حتى الآن، وحتى إشعار آخر. أعني الإغتراب بالمعنى الفلسفي لا الجغرافي. ولا أحسب أنني برحيلي عن السودان و"استقراري" بفرنسا في غربة إستثنائية. فالغربة هنا وهناك هي الغربة. إلى أن يستقيم أمر الناس على جادةٍ أخرى أرحب وأكثرمودةً وألفة. وهذا أمر طلائعه قائمة في الواقع في السودان، وفي سواه من أرض الناس، إلا أن "اكتماله" بعيد المنال بالنظر الى واقع الحال، واقع تطورالوعي الإنساني العام، مما لا يحتمل هذا الحيز التفصيل فيه. فهل أنفي الخصوصية؟ لا أعتقد. فقد كان حديثي الآنف حديث الواقع "النهائي" لعلاقة الإنسان والأرض. في معنى أن "الأرض/ العالم" هي في حقيقتها "النهائية" "أرض الله" في التصور الديني الكتابي وغير الكتابي. وهي "أرض الناس" في تصورات فلسفية وفكرية أخرى عدة في مسار صيرورة الحلم الإنساني القديم/ الجديد بعالم أكثر معقولية، عالم معافى من شرطة الحدود والجمارك بكل صنوفها السياسية والعرقية والثقافية والإقتصادية. أما إذا نزلنا إلى عالم واقع الحال، وهو واقعٌ بائس جداً، ومع ذلك فلا مفر من النزول إلىه، فللخصوصية فيه معانٍ عدة مشتبهة الوجوه بين "الضلال" و"الصواب". كتب الشاعر والمفكر المارتنيكي ذائع الصيت، أيمي سيزير: "ثمة وجهان للضياع: أما التفسخ في خصوصيةٍ مغلقة أو التلاشي في عالمية مجردة". ويخيل إلىَّ أن مفهومي للخصوصية والعالمية ينجو من كليهما، هذا ما أحاوله على الأقل. أحاول الحضور في قلب الواقع و"القبول" النقدي للتعامل معه على بؤسه، بقدر ما أحاول من الجانب الآخرالإنتماء للحلم والإيمان به على استعصائه وبعده وتضرُّس دروبه. ومن ثم فسأدخل هنا على مفهوم الخصوصية من أقرب نقاط الواقع الذي لامسته وأُلامسه فيها، أعني الحركة الثقافية في السودان. كان مفهوم للخصوصية في حركة الحداثة في الحقل الجمالى في السودان موضوعاً لسجالات حامية الوطيس منذ الثلاثينات وجدت تعبيرها المفصح المنتظم في مجلة "الفجر" التي أسستها جماعة من طلائع مثقفي الحركة الوطنية وأطلقوا عليها هذا الإسم كناية عن مطلبي الإستقلال والنهوض. وقد بلغ المفهوم مرحلةً من مراحل نضجه "المتقدمة" في تلك الفترة حين كتب الشاعر حمزة الملك طمبل كتابه الشهير شهير في السودان "الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه". ولعل العكس هو الصحيح: فحين بلغ تبلور مفهوم الخصوصية تلك المرحلة المتقدمة كتب حمزة كتابه المذكور، أليس كذلك؟ وتقلبت صوره في مراقي التطور لتصل إلى مستوى النظرية "المتكاملة" على يد جماعة من أميز شعراء الحداثة في السودان، هي الجماعة التي عرفت باسم "مدرسة الغابة والصحراء". وهي باختصارٍ شديد، وكنت أود ألا يجشمني الحيز مشقة الإختصار ومزالقه، المدرسة الشعرية الداعية لإعادة الإعتبار للمكون الإفريقي في الإنتاج الإبداعي السوداني. هي بعبارة أدق المدرسة الداعية إلى تصالح سعيد بين الدغل والصحراء، أي بين تراث السودان العربي والإفريقي. وقد رأت أن خصوصية الإبداع السوداني في هُجنته العربية الإفريقية بالذات، وأنه لا قِوام له إلا في هذه الهُجنة. وقد واكب مدرسة "الغابة والصحراء" الشعرية، أو سبقها بقليل، بروز تيار في الحركة التشكيلية عرف باسم "مدرسة الخرطوم". وهو التيار الذي راده من الريادة الرسام العظيم الأستاذ إبراهيم الصلحي، وهو عندي من أعظم رسامي عصرنا على إطلاقهم. وكان قطب المدرسة الآخر الأستاذ أحمد محمد شبرين وهو مصمم بارع. وتبعتهم جمهرةٌ من الفنانين الشبان الذين هم الىوم شيوخٌ مثلي بعضهم مقلد وبعضهم أصيل. وأعتقد بأن هاتين "المدرستين" أثارتا جملة قضايا حيوية جداً خصوصاً من جانب الدكتور محمد عبدالحي والأستاذين محمد المكي ابراهيم والنور عثمان أبكر في ما يتصل "المدرسة" الشعرية والأستاذ الصلحي في جانب "المدرسة" التشكيلية، تتصل بعلاقة المبدع السوداني بپ"التراث الإبداعي لأمته". ومع ذلك فقد كنت وما أزال على خلاف مع هذا التيار. وهو خلاف لا يتسع الحيز هنا للتفصيل فيه وإنما ذكرته لمناسبته موضوع الخصوصية. جوهر خلافي وربما كان الأسلم أن أقول "خلافنا"، فأنا "أنتمي" الى "تيارٍ" أسميه "تيارالحداثة الطليقة" أن مفهوم الخصوصية كما طرحته هاتان المدرستان ينطوي على اختزالٍ كبير للواقع المعاصر والتاريخي لكلا حقلي الإبداع العربي الإسلامي والإفريقي. فكلا الحقلين ينطويان على تعددٍ خصبٍ جداً. وكلاهما يصعب، وأقول يستحيل ولا يجوز، اختزاله إلى حفنة من الرموز والعناصر الثابتة التي يسميها دعاة المدرستين "رموز الثقافة السودانية الأصيلة". هذه واحدة، والثانية أن حقول الإبداع الجمالى في "الثقافتين" العربية والإفريقية لا تمثل نظماً مغلقة وأين هي الثقافة التي تمثل نظاماً مغلقاً؟، بل كانت حقول الإبداع الجمالى في كلا هاتين الثقافتين على "انفتاحٍ" بمعنى معاكسٍ تماماً لمفهوم "الإنفتاح السوقي"، وعلى اشتباكٍ خصبٍ مع العالم المحيط وتورطٍ معقدٍ فيه، حين كانت هذه الثقافات هي صاحبة القرار وتملك كامل القدرة على المبادرة. ومع الحملة الإستعمارية كما هو معروف وربما في الوطن العربي بفعل اشتداد وطأة العثمانيين أيضاً، بدأ التراجع عن مفهوم المبادرة وعن وعي المبادرة وسيكولوجية المبادرة. فانسحبنا، في غالبيتنا العظمى، عن مواقع المبادرة وبدأنا التراجع إلى مواقع الدفاع، شيئاً فشيئا حتى انتهينا إلى مفهوم للخصوصية أشبه بالغيتو. مفهوم متحفي، غرائبي "exotic"، تمليه رغبة رد الإفتراء والكيد وانتزاع الإعتراف من غريمٍ صلفٍ زعم أننا لسنا على شيء من ثقافةٍ أو حضارة، أكثر مما تمليه دواعي النهضة الفعلية بصرف النظر عن مفتريات "الغريم". مفهومٌ يدعونا إلى نبش مقابر الأسلاف وإخراج أثقالها لنثبث لپ"الغريم" المستبد أننا أيضاً من بني الإنسان. ومثل كل خطاب لرد الإفتراء، كما يعبر الصديق الدكتور عبدالله علي ابراهيم، فإن خطاب رد "الإفتراء الثقافي" أوقعنا وأبقانا "أسرى نظر الخصم المثَبِّت المدمر" كما يعبر الفيلسوف البنيني بولان هونتونجي. والواقع أن خطاب الخصوصية الإكزوتيكي الغرائبي هو في شطر كبير منه من صنع "الغريم" نفسه. فقد دأب أنثروبولوجيو وأكاديميو الإستعمار الإفريقانيون والإستشراقيون على "إسداء النصح" المشدد لتلاميذهم من أبناء "الأهالي" "indigenous" أن يحافظوا على خصوصيتهم، على "ملامح أسلافهم" في مساعيهم للإنتاج الجمالى الحداثي خشية الذوبان في مجرى الحداثة "العالمي" وتقرأ الغربي. وما زال أحفادهم وورثتهم يزودوننا بالنصائح نفسها وكأنه ما من وجودٍ لخيارات أخرى غير الذوبان أو التكلس أو ما من حداثة أخرى غير الحداثة الغربية. وهل ثمة حداثة غربية صمدت معفاة من الإشتباك بالعالم؟. وسأتساءل مرة أخرى: هل أنكر الخصوصية؟ إذا كان المعني بالخصوصية مفهوم الغيتو الإكزوتيكي الأشبه بسوق الأنتيك ومعرض العاديات والمستحاثات، فإنني أنكرها وأستنكرها تماماً ولا أخشى في ذلك لومة لائم. أما إذا عنينا بها أن ينمي المبدع علاقة حوار نقدي مع موروثه المباشر، ويرد الإعتبار إلى إبداعية "أمته" التي أنكرها عليها المغتصب من دون أن يتنازل عن حقوقه في تأسيس نفس علاقة التملك النقدية مع موروثه الإنساني العام، ومن دون أن ينكر هذه الحقوق نفسها على الآخرين، فلا اعتراض لي على مفهوم الخصوصية إذاً. بيد أن خصوصية المبدع هي عندي، في المقام الأول، أصالة إنتاجه هو نفسه، بمعنى فرادته الشخصية لا حضور ملامح الأسلاف فيه. والأصالة غير الأصولية. وهي عندي الفرادة والقدرة على الإبتكار والإختراع على وجه الحصر. والواقع أنني جئت إلى فرنسا بهذا الفهم، فتعاملت مع تيارات حركة الإبداع الحداثي فيها من موقع الند لا من منطلق الغرور، فأنا أدرك أن حركة الحداثة في الغرب "تتفوق" علينا إن كان لا بد من مثل هذه اللغة الحربية من نواحي الكم والإنتشار والإعداد. بيد أنني لا أرى سبباً للإعتقاد بأنها "تتفوق" من ناحية الكيف. ولن "تتفوق" علينا من ناحيتي الكم والعدة إلى أبد الآبدين. وليس مقدراً لعلاقتنا بها أن تجري بلغة التنافس والمفاضلة السوقية ومفهوماتها البائسة. وفي اعتقادي أن مبدعين من أفارقة وعرب وخلافهم من مبدعي "العالم الثالث" هم أصلاً في قلب مواقع المبادرة من ما يسمى بپ"المجرى الرئيسي" للحداثة العالمية. ولعل أقرب الأمثلة لذلك نجيب محفوظ وسوينكا وماركيز، من دون أن يزعم المرء أنهم أفضل من سواهم ممن لم يحرزوا جائزة نوبل. بل أنني أعتقد بأنهم لا يحتاجون لجائزة نوبل أصلاً ليتبوأوا أماكنهم في مجرى الحداثة الرئيسي. أنا أقيم الآن في فرنسا وأمارس فيها حياتي بصورة طبيعية من موقع الند وصاحب الحق ووريث الأرض. ولا يمنعني هذا من اتصال روابطي بالسودان، ومحبتي لأهله ومشاهده وتراثه، وإعجابي بصمود شعبه المعجز في وجه ديكتاتورية بشعة الواقع والسمعة. ولا يمنعني هذا من الإعجاب بإبداعية ثقافات أخرى في العالم فالعالم ليس الغرب وحده، وليس قدراً علينا أن نختار أما الغرب وأما الغرب، أو أما الغرب وأما الشرق، أو أما الغرب وأما الأسلاف. فأنا مثل جميع الناس ابن العالم أيضاً ولا أرغب في التنازل عن ملكيتي فيه لأحد وإن كان "سيداً" مسلحاً بالتكنولوجيا وبأوهام السيادة المطلقة كما يُزعم، فنحن أيضاً دفعنا نصيبنا لتتطور "تكنولوجيا الغرب" وحداثته. ولا بد لي أن أضيف منعاً للإلتباس أن مفهومي لمواطنية العالم وملكية الأرض يعارض بصورة جذرية مفهوم الإستيلاء والفرض والقسر الذي مارسته وتمارسه قوى بعينها، ذهبت وما تزال تذهب فيه إلى مستوى استبعاد السكان "الأصليين" وتصل إلى حد الإبادة الجسدية. بل أن مثل هذه الصيغة في "امتلاك العالم" هي التي أناهضها بالذات. وهي في الواقع ليست صيغة لامتلاك الإنسان بما هو إنسان للعالم بل هي صيغة سيطرة نفرٍ من الناس على الإنسان وعلى العالم. وفي هذا منتهى التغريب والإغتراب. هل عندي مذهب أو ملامح مميزة في أسلوبي؟ أخشى أن تعني "الملامح المميزة" التي يشير إلىها السؤال هي في معنى "الثابتة" التي ما أن ينظر الإنسان إلى عملٍ فنيٍ ما حتى يتعرف عليها في الحال، وهي مما نسميه "الأسلوب المميز" أحياناً. فهذه أحاول الهروب منها دائما، وبقدر ما يمكنني، سواءً في عملي التشكيلي أو الكتابي. أنجح أحياناً، في ما أتصور، وأخفق أحايين أخرى. ولا أنشر على الناس أعمالى التي أعتبرها مخفقةً. ومع ذلك يمكن للمشاهد المدرب أن يتعرف على عملي لكن "من دون سهولة" إذا جاز التعبير. ولا أقتنع بسهولة بأقامة معرض. وعلاقتي بالتشكيل علاقة ملغومة بالشكوك والأسئلة، مليئة بقطائع متصلة أعود إلىه في كل مرة أكثر شغفاً. ولا أبدأ من حيث توقفت، فممارسة التشكيل وتطور الرؤية والتقنية فيه ليست بالفرشاة والسكين والإزميل... الخ فقط. أعني ليست في عملية الممارسة الحرفية وحدها. فالرؤية والتقنية تتغذيان من مصادر عدة للطاقة الإبداعية. هذا والتشكيل عندي ليس الرسم أو النحت وحدهما كما أسلفت، ومحاولاتي فيه على مستويات الرؤية والتعريف والتجريب لا تنفك تأخذ "بخناقي"، وتفسد علي "بهجة" الإطمئنان والإستقرار إلى أية صيغة من التعريف والتعبير والأسلوب "نهائية". هذا فضلاً عن منازعة غواية الكتابة بصورها المتعددة عندي للتشكيل وأنا من ذلك في "شقاءٍ" لا ينقطع. وسألتموني: "هل تعتبر وجودك في أوروبا بعيداً عن بيئتك الطبيعية إمتيازاً أم نقصاً"؟ ويبدو لي أنني قد أجبت على هذا السؤال. بيد أنه ربما لم أكن قد أفصحت تماماً عما أسميته نصيبي من وراثة الأرض. فأضيف أنني أعتبر العالم كله بيئتي الطبيعية. ومن ثم تكون إجابتي على سؤالكم إنني لا أعتبر وجودي هنا امتيازاً كما إنه ليس نقصاً. إلا إذا وضعنا في الحسبان أنه وجودٌ قسري في جانبٍ منه إذ فرضه عليَّ وقوع السودان تحت سيطرة فئة ظالمة من ذوي العقول المغلقة. في ما عدا ذلك فإنني كنت سأعتبر إقامتي في أي بقعةٍ في العالم حقاً طبيعياً. هل أجبت على سؤالكم من أنت؟ أتمنى ذلك، وهيهات. وستكون لي عودةٌ، بل عوداتٌ أخريات إلى هذا الموضوع المعقد إذا رحبت صحيفة "الحياة" الموقرة بتصوراتي التي أدرك أنها تجري على عكس العادة في زمان "الخصوصيات"، والحدود، والجوازات، وصنوف الغربة وأنصاف "الحلول" اللعين هذا. * فنان وناقد سوداني مقيم في فرنس