لا يخفى على القارىء العربي أنّ علم اللغات الساميّة وُجد لأوّل مرّة على الاطلاق في المانيا، وأن المانيا ما زالت حتى الآن تحتل المكانة الأولى في العالم في مثل هذا النوع من الدراسات. وقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن جدلاً طويلاً يدور في الجامعات العربية والأوساط العلمية حول صحّة نظرية اللغات الساميّة بشكل عام، وحول أهمية اللغة العربية وموقعها ضمن هذه اللغات بشكل خاصّ. ولاعطاء صورة عن حقيقة الأمر يُبيّن فيها واقع اللغات السامية وما يجري هنا حالياً من الأبحاث نلتقي الباحث الألماني ÷يرنر آرنولد أستاذ اللغات السامية واللهجات العربية في جامعة ارلنغن - نورنبرغ وهو من أصحاب الاختصاص الضليعين في هذا المجال. هل لكم أن تحدّثونا عن البدايات والسبب الذي جعلكم تتخصّصون بدراسة اللغة العربية واللغات الساميّة الأخرى؟ - إن البدايات تعود الى رحلة قمت بها الى اسبانيا أثناء دراستي لعلم التربية عندما كنت في العشرين، حيث شاهدت الآثار العربية الشامخة التي تركت عندي انطباعاً جعلني أفكّر بالدور الذي لعبه العرب في تاريخ الحضارة الإنسانيّة. أعتقد أنّ هذا كان السبب الأوّل الذي جعلني أدرس اللغة العربيّة، وقد بدأت في عام 1979 بدراسة العلوم الإسلامية واللغات السامية وعلوم اللسانيات في جامعة ارلنغن - نورنبرغ على أيدي عدد من الأساتذة أذكر منهم الأستاذ فيشر والأستاذ أوتو ياسترو الذي له الفضل الأكبر في توجيهي الى التخصّص في اللغات السامية بشكل عام وفي اللغة الآرامية بشكل خاص. أين تكمن برأيكم الصعوبات التي يعاني منها الدارس الأجنبي للغة العربية؟ وما هي أهمية اللغة العربية بالنسبة الى دارس اللغات السامية؟ - تكمن الصعوبات برأيي في الدرجة الأولى، ليس في اللغة العربية فحسب، وإنما في كل اللغات السامية الأخرى، في أن لها تركيباً يختلف تماماً عن اللغات الهندوأوروبية، وهذا ما يشكّل صعوبة كبيرة على الدارس الأجنبي الذي لا يستطيع أن يتخلى بسهولة عن المنطق الذي تعلمه في لغته الأم في اللغات الأوروبية الأخرى. وبالإضافة الى ذلك فإن هناك صعوبة كبيرة في اللغة العربية تكمن في الفارق الكبير بين اللغة الفصحى واللهجات العاميّة، حيث يدرس الطالب هنا في الجامعة اللغة الفصحى، ويتدرّب على قواعدها ونحوها وصرفها ويتعلم تحليل تراكيبها وجملها، ولكنّه عندما يسافر الى دولة عربية فإنّه لا يستطيع أن يفهم ما يدور حوله، لأن الناس يتكلمون باللهجات المحلية. وأعتقد أيضاً أن هناك صعوبة أخرى يعاني منها الطلاب الأجانب عند قراءة النصوص العربية، وهي أن الحركات في الغالب لا تُكتب، على العكس تماماً من اللغات الأجنبية التي تستعمل الحروف اللاتينية وتكتب الحركات دائماً. أما عن الشطر الثاني من سؤالكم فإنني أعتقد أن اللغة العربية هي أهم لغة سامية على الاطلاق، لأن عدد المتكلمين بها يفوق عدد المتكلمين ببقيّة اللغات السامية الأخرى، ولأن لهذه اللغة تراثاً قلّ نظيره في اللغات السامية الأخرى، فضلاً عن أن هذه اللغة تحتفظ بكثير من الظواهر اللغوية القديمة التي فُقدت مع الزمن في بقية اللغات السامية الأخرى. كيف نشأت نظرية اللغات السامية ومتى؟ وما هي الأسباب التي أدّت الى نشوئها؟ إن هذه النظرية تعود الى شلوتسر Schloezer الذي اقترح اطلاق مصطلح "اللغات الساميّة" للمرة الأولى في عام 1781 على مجموعة اللغات العربية والعبرية والآرامية والأثيوبية، وذلك بالانطلاق من نصّ ورد في التوراة الاصحاح العاشر من سفر التكوين، حيث يذكر فيه أولاد نوح: سام وحام ويافث، فإلى سام ينتسب الساميون، كما يذكر النص وهم العرب والآراميون والعبريون والآشوريون. وعلى الرغم من أن التقارب والتشابه بين هذه اللغات كان معروفاً منذ البداية عند كثير من علماء اللاهوت والأديان إلا أن هذا المصطلح لم يوجد الا مع شلوتسر الذي أشار الى التقارب الكبير بين اللغة العربية والآرامية والعبرية، حيث أطلق عليهم اسم "مجموعة اللغات الساميّة"، وتطورت طرق البحث في القرن التاسع عشر بعد أن اكتُشف التشابه بين اللغة السنسكريتية واللغات الأوروبية في عام 1816، فأُضيفت اليها اللغة الأكادية والآشورية والبابلية والفينيقية والعربية الجنوبية ولهجاتها السبئية وغيرها، ولم تكتمل حلقات البحث في اللغات السامية تماماً، فقد أضيف اليها في هذا القرن كل من اللغتين الأوغاريتية والايبلائية. هذا ويُشار الى ان علماء الساميّات استمروا في استخدام مصطلح "اللغات السامية" في دراساتهم وأبحاثهم اللغوية المقارنة، على الرغم من أن ما يُفهم تحت هذا المصطلح لا يتفق تماماً مع ما جاء في التوراة من تقسيمات للشعوب ومعلومات حول صلات النسب. ما هي أهم اللغات التي تشملها هذه النظرية؟ - إنني أقسم اللغات السامية الى ثلاثة أقسام أساسية وهي: أولاً: مجموعة اللغات السامية المركزية: وتشمل كلاً من اللغة الكنعانية القديمة بأقسامها الثلاثة: العبرية التي أُعيدت اليها الحياة مؤخراً والفينيقية والأوغاريتية اللتين كُتِب لهما الفناء، وكذلك اللغتين اللتين ما زالتا حيّتين بتراثهما الغزير وهما العربية والآرامية ولهجاتهما الغنيّة. ثانياً: المجموعة الشرقية: وتشمل اللغة الأكادية بقسميها البابلي والاشوري، وكانت تستخدم الكتابة المسمارية، وقد انقرضت هذه المجموعة بفترة بسيطة بعد ميلاد السيد المسيح. ثالثاً: المجموعة الجنوبية: وتشمل اللغة العربية الجنوبية، لغة اليمن القديمة بفروعها السبئية والقتبانية والمعينية والحضرمية، واللغة الأثيوبية في الحبشة أو كما تسمّى محلياً بالجعزية ولهجاتها الحيّة الكثيرة التي يمكن أن تصل الى عشرين لهجة كالأمهرية والتيغرية والتيغرينية والهررية... إلخ. كيف تقوّمون صحّة نظرية اللغات السامية؟ وما هي المؤشرات والأدلّة التي تبيّن صحة هذه النظرية؟ وهل هناك نقد يمكن أن توجّهوه اليها؟ اعتقد ان هذه النظرية صحيحة، لأن التشابه والتقارب بين هذه اللغات لا يقبل أيّ شك من ناحية الأصوات والنظام الصرفي والنحوي ومفردات الثروة اللغوية. فالتشابه كبير جدّاً بين لغات هذه المجموعات السامية ولا يمكن لأحد أن يتجاهله. وهناك أدلّة وبراهين كثيرة تدلّ على صحّة هذا التقارب، كالتشابه الذي نجده مثلاً في ضمائر الرفع المنفصلة وأسماء الاشارة والاستفهام والأعداد وأسماء الحيوانات والنباتات وأعضاء الجسم وألفاظ القرابة... إلخ. بالإضافة الى ذلك فإنّ التشابه بين هذه اللغات يظهر بوضوح في النظام الفعلي والكثير من الظواهر النحوية الأخرى. كما أنّ نظرية الجذر اللغوي التي تعود الى الأصل الثلاثي موجودة في كل اللغات السامية، فضلاً عن أدلة كثيرة تؤكد مصداقية التقارب بين هذه اللغات، وأعتقد لو أن أحد العرب في أيّامنا هذه سمع أحداً يتكلّم بإحدى اللهجات الآرامية الحديثة فإنّه سيُدرك فوراً بأنّ هذه اللغة قريبة من لغته، بينما اذا سمع احداً يتكلم بإحدى اللغات الأوروبية أو باللغة اليابانية أو الصينية فلن يُخامره أيّ شك في أن هذه اللغة غريبة عنه كلّ الغرابة ولا تمت الى لغته التي يتكلمها بأية صلة. أما عن النقد الذي يمكن أن يُوجّه الى هذه النظرية إنّ عملية تقسيمها الى المجموعات التي ذكرتها قبل قليل قد يكون غير مقنع تماماً، لأن الأساس الذي بُنيت عليه هذه التقسيمات جغرافي وليس لغويّاً، فهناك مثلاً خلافات بين الباحثين في ضمّ اللغة العربية الشمالية واللغة العربية الجنوبية والأثيوبية الى مجموعة واحدة، وكذلك في عملية ضمّ اللغة الإيبلائية التي اكتُشفت أخيراً في منطقة تل مرديخ في جنوب حلب، حيث لم يتّفق الباحثون حتّى أيامنا هذه على المجموعة التي يمكن أن تُلحق بها هذه اللغة، فهي بحكم الموقع لغة سامية غربيّة، وبحكم الكتابة لغة مسمارية كالأكاديّة. وهناك خلافات كثيرة في موضوع قِدم هذه اللغات، وتحديد اللغة الأقدم انطلاقاً من الظواهر اللغوية والقواعد النحوية، فلم يتوصّل العلماء مثلاً حتى الآن الى حلٍّ لمشكلة جموع التكسير، فهل هذه الصِيغ ظاهرة قديمة كانت موجودة في كلّ اللغات السامية ثمّ فُقِدت من بعضها بمرور الزمن؟ أم أنها ظاهرة حديثة أُلحقت ببعضها فيما بعد؟... إلخ. ما هي أقرب اللغات السامية الى اللغة الساميّة الأمّ التي يُفترض وجودها؟ وما هي مؤشّرات القرابة بين هذه اللغات؟ - يعتقد أكثر الباحثين في اللغات السامية بأنّ هناك لغة سامية قديمة، كانت موجودة قبل اختراع الكتابة وتتكلّمها الشعوب السامية، اصطلحوا على تسميتها باسم اللغة الساميّة الأمّ، وعن هذه اللغة انبثقت لهجات متعدّدة تحوّلت مع مرور الزمن الى لغات مختلفة، تطوّر بعضها بسرعة كبيرة كالفينيقية، وبقي بعضها الآخر محافظاً على أصوله اللغوية أكثر من غيره كاللغة العربية. ولهذا السبب فإنّ أكثر علماء الساميّات يرجّحون بأنّ اللغة العربية هي اللغة الأقرب الى اللغة الساميّة الأمّ، لما تحتفظ به من ظواهر قديمة كالمثنّى وجموع التكسير والنظام الفعلي والجذر اللغوي الثلاثي والرباعي والخماسي والكثير من الصيغ الصرفية، بالإضافة الى النظام الصوتي الذي فقدت العربية منه صوتاً واحداً فقط، وهو الصوت الواقع بين الشين واللام. هذا ولم يصلنا النظام الصوتي السامي القديم كاملاً، وهو تسعة وعشرون حرفاً إلاّ في اللغة العربية الجنوبية التي تشبه العربية الشمالية كثيراً في الاحتفاظ بالكثير من الظواهر القديمة أيضاً. وأشير هنا الى أنّ اللغة العربية تشترك مع معظم اللغات الساميّة الأخرى كالفينيقية والأوغاريتية في موضوع التجديد الذي طرأ على الفعل الماضي عن طريق اللواحق كقولهم: كتبتَ وكتبتِ وكتبتُم... إلخ. حيث لم يكن هذا موجوداً في اللغة الساميّة الأم وفي بعض اللغات السامية الأخرى كالأكادية والأثيوبية والعربية الجنوبية. وبالنسبة الى مؤشّرات القرابة بين هذه اللغات فهي كثيرة جدّاً كالأصل الثلاثي والحالة الاعرابية الرفع والنصب والجر والمطابقة في الجنس من حيث التذكير والتأنيث وكذلك في العدد من حيث الإفراد والتثنية والجمع، بالإضافة الى مبدأ التصريف في الأفعال... الى غير ذلك من الأمور التي توجد في جميع اللغات الساميّة تقريباً، وان كانت هناك مؤشّرات تدلّ على اختفاء بعض هذه الظواهر من بعضها. كيف تقوّمون واقع الدراسات الساميّة في الجامعات الألمانية حالياً بالمقارنة مع واقعها في العقود الماضية، وخاصّة في عهد نولدكه وبرجشتراسر وبروكلمان؟ وما هو السبب برأيكم في تراجع الدراسات السامية المقارنة الشاملة؟ ان واقع الدراسات السامية في القرن الماضي كان عصر الاكتشافات، فأكثر اللغات السامية تمّ اكتشافها في ذلك الوقت، للمرة الأولى، وهذا ما جعل البحث في هذا المجال ممتعاً بسبب توفّر مادّة خصبة ومعطيات جديدة تماماً، خاصة وأنه وجد وقتها جيل من المستشرقين الكبار أمثال ليتمان ونولدكه وبركلمان وغيرهم ممن شُغفوا في البحث في هذا الحقل البكر من الدراسات. وقد عمد هؤلاء العلماء الى دراسة هذه اللغات ووضع قواعد لها من خلال النصوص والكتابات المكتشفة، ثم لجأوا الى مقارنة هذه اللغات مع بعضها البعض، فحدّدوا الاختلافات فيما بينها، وأشاروا الى نقاط التشابه والفواصل المشتركة بينها. ولهذا فإنه لم يبق لجيلنا الحالي كثير من الظواهر الهامّة التي تحتاج الى مقارنة. وأعتقد بشكل عام أنّ الموضوعات التي يمكن أن يُبحث بها في مجال اللغات السامية قد أصبحت محدودة بعض الشيء، باستثناء اللهجات العربية الجنوبية كلهجة الشحري والمهري وغيرها التي ما زالت تحتوي على مادة هامة للبحث، ولكن مع الأسف هناك صعوبات تقف في طريق البحث في هذه اللهجات وتحول دون دراستها. بماذا تعلّلون سبب ضعف الدراسات السامية المقارنة في البلاد والجامعات العربية، على الرغم من أن البلاد العربية هي مهد اللغات السامية، خاصة وأن قسماً كبيراً من هذه اللغات ما زال حياً في موطنه الأصلي؟ - أعتقد أن سبب ضعف الدراسات السامية في البلاد العربية يعود بالدرجة الأولى الى أنها لا تدرس اللغات السامية بصورة معمّقة في مدارسها وجامعاتها، كما هو الأمر في أوروبا التي ما زالت تدرّس اللغتين اليونانيّة القديمة واللاتينيّة في مدارسها وجامعاتها وخاصّة في كلياتها النظرية. ولهذا أقول إنه يجب أن تنشأ دراسات معمّقة للغات السامية في مهدها الأصلي، فيُفضل مثلاً أن تدرّس اللغة الارامية في سورية والأكادية في العراق والعربية الجنوبية في اليمن... إلخ. ويلاحظ أنه قد بدأ العرب في السنوات الأخيرة بإيلاء أهمية أكبر للغات السامية في جامعاتها، وأعتقد أن الكفاءات العلمية لهذا الغرض متوفرة في الجامعات العربية، لأنني أذكر أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب العرب قد تخصص في هذا المجال في الجامعات الألمانية. هل هناك كلمات عربية كثيرة دخلت الى اللغة الألمانية؟ وعن أي طريق تم دخول هذه الكلمات الى اللغة الألمانية، على الرغم من أنه لم يكن هناك احتكاك مباشر بين هاتين اللغتين؟ - نعم هذا صحيح، وهو أمر طبيعي جداً في كل لغات العالم أن يكون هناك تبادل في مفردات الثروة اللغوية، فقد دخلت كلمات عربية كثيرة الى اللغة الألمانية عن طريق غيرها من اللغات الأجنبية ولا سيما عن طريق الإيطالية والإسبانية، وخاصة خلال العصر الأندلسي مثل الكحول والقاضي والقبّة والخرشوف والبرقوق والقهوة والعود والكيمياء والجبر... إلخ. وهناك كلمات ومصطلحات عربية كثيرة ما زالت حتّى الآن تستخدم وتلعب دوراً هاماً في مجال العلم في أوروبا، وخاصة في الفلك وأسماء النجوم والكيمياء كفم الحوت والغول والقلويات... إلخ. ويشار هنا الى أنه دخلت في العصر الحديث كلمات عربية كثيرة مباشرة الى الإلمانية والى غيرها من اللغات الأوروبية الأخرى عن طريق وسائل الاعلام والبث الاذاعي والصحافة مثل كلمة الانتفاضة وآية الله والحشيش والإمام والأمير والسلطان... إلخ. هل لكم أن تحدثونا عن واقع اللغة العربية في منطقة أنطاكية ولواء اسكندرون، باعتبار أنكم قد قمتم بدراسة ميدانية عن اللهجات العربية الموجودة هناك ووضعتم قواعد لها؟ من المعروف ان تركيا ألحقت بها لواء اسكندرون وأنطاكية في عام 1938، وقد ضمّت اليهما في ذلك الوقت منطقتين تركيتين واقعتين في شماله، ليصبح العرب أقلية في هذا الاقليم وأطلقت عليه اسم هاتاي Hatay. ومنذ ذلك الحين أصبح تعليم اللغة العربية واستخدامها في الحياة اليومية بشكل علني ممنوعاً، كما حُظّر الغناء باللغة العربية وكل شيء يمتّ الى هذه اللغة بصلة. وعلى الرغم من سياسة التتريك، وكلّ هذا الحظر الشديد الموجّه في البدايات ضدّ اللغة العربية فإنها استطاعت ان تبقى لغة الكتابة في البيوت ولو لفترة محدودة على الأقلّ، طبعاً بالإضافة الى كونها لغة الحياة، ولكنّها مع مرور الزمن بدأت بالتراجع عند الأجيال اللاحقة، ولم تعد لغة الكتابة، لأن اللغة التركيّة حلّت محلها، وأصبحت اللغة العربية متداولة شفهيّاً على الألسنة فقط. وقد نشأت في هذه الفترة أشكال لغوية متعدّدة وتطورت عنها لهجات مختلفة غير موجودة في سورية، ربما بسبب غياب تأثير اللغة العربية الفصحى على الواقع اللغوي الموجود هناك وانقطاع هذه اللهجات عن جذورها الأصليّة. وهناك أمثلة كثيرة جدّاً لهذه الأشكال اللغوية الغريبة، أذكر منها على سبيل المثال أداة الاستفهام كم، فقد أصبحت في بعض لهجات اسكندرون كن، أو كان، أو كين، أو كوم... إلخ. وممّا تجدر الإشارة اليه هنا أن عدداً كبيراً من سكان منطقة اسكندرون اضطروا في الآونة الأخيرة الى مغادرة هذه المنطقة وهاجروا الى المانيا، وقد حاولت أثناء القيام بالبحث حول هذه اللهجات أن أتّصل بهم وأن أجري معهم مقابلات لغوية، وكان من حسن الحظ أن وجدت ممثّلين لأكثر سكان القرى والمناطق الموجودة هناك، وقد دوّنت الملاحظات اللازمة حول هذه اللهجات والفروق بينها، ثم وضعت قواعد ناظمة لها، وستصدر هذه الدراسة قريباً ان شاء الله وتكون في متناول القرّاء. وأشير هنا الى أن معظم هذه اللهجات المحكية تشبه اللهجات الموجودة في شمال سورية، ولكنها تحتفظ ببعض الميزات الخاصة بها. وأعتقد انه اذا لم تُصبّ الجهود في مجال رعاية اللغة العربية في هذه المنطقة فإنها لن تستمر طويلاً على قيد الحياة